“مُقَرَّبان”: الخوف من الرقة
فيبي صبري
في الفيلم الحائز على جائزة مهرجان كان الكبرى عام ٢٠٢٢، ليو وريمي، طفلان لم يبلغا باب المراهقة بعد، مندمجان بالكامل في لعبة تظاهر، يختبئان في غرفة شبه معتمة من هجوم خيالي، قبل أن ينطلقا راكضين بأقصى سرعة، يصدحان بضحكات عالية مبتهجة في سباقٍ وسط حقول من الزهور الملونة. يقابلان عائلة ليو التي تعمل في الزراعة فيسأل الأخ الأكبر ليو إن كان قد أتى لمساعدته، لكن الإجابة تكون لا قاطعة وسعيدة، وهل يوجد عمل في الجنة؟
يقضي الولدان وقتهما كاملًا معًا، يبيتان على فراش واحد في منزل ريمي. لا زالا في جزيرة الطفولة الخالية من المواءمات والمحاذير. في غرفة ريمي الدافئة ذات الجدران الحمراء وبينما يعزف على الفلوت، يتطلع ليو إليه بإعجابٍ واضح، يراه مغايرًا ويفخر بذلك، كما أخبره في قصة ساذجة من اختراعه، يشبهه فيها ب”كتكوت أصفر.. كل الكتاكيت صفراء، لكنك أجمل بكثير من الآخرين، أنت مميز”. قد يكون ريمي هو النسخة المبدعة من صديقه، الأنيما(١) الخاصة به كما قال يونج، مع ما يتسم به من لطف وحساسية فنية خلاقة.
يبدو السلام في هذه الجنة الصغيرة الآمنة غير قابل للخدش، أبدي، بمنجى من الشياطين، حتى تأتي اللحظة التي تُفتح فيها عينا ليو على معرفة الخير والشر رُغمًا عنه، والسبب هو إيماءة رقيقة واحدة! أراح رأسه بخفة على كتف صديقه أثناء وجودهما في حجرة الدراسة. لم يتخط الأمر جزءًا من الثانية، ومع ذلك لم يستطع زملاؤهما تجنب ملاحظة تلك اللفتة الخافتة أو العبور عنها. لوحق الاثنان بالأسئلة مباشرةً، لكننا نرى وقعها على ليو وحده: “هل أنتما في علاقة؟ أنتما تتلامسان دائمًا.. لا بأس بذلك لكننا نريد أن نعرف”. أراد الجميع أن يعرف إذا كانا في علاقة رومانسية ـ لن أنكر أن الفكرة عبرت رأسي واضعةً في حسباني الصيحة السائدة في دنيا العلاقات وفيلم المخرج السابق عن أنثى عابرة ـ لأن “الرقة” ليست مستساغة بين الذكور. مهما كان عمق الصداقة، خبطة سريعة على الكتف، مصافحة، لكمة، هي كل القدر المسموح به من التعبير الجسدي بين ولدين. من سمع عن “رجل” يسند رأسه على كتف صاحبه؟ المثال المعروف في التاريخ هو “يوحنا الحبيب”/الإنجيلي، الذي كان يتكئ على صدر المسيح، وقيل عنه نصًا: التلميذ الذي كان يسوع يحبه (٢). حسنًا، لقد استخدم أحدهم صورة يوحنا الرهيفة إلى جوار المسيح ليبرهن على أنه كان امرأة ـ مريم المجدلية ـ ألا يثبت هذا شيئًا؟
بات هاجس ليو الأول أن يثبت لعالمه الأرضي الذي هبط إليه أنه ليس مثليًا، خاصةً بعد التحرش اللفظي والجسدي الذي تعرض له في فناء المدرسة، فيما ظل ريمي أقل تأثرًا، لا مكترث، أم أنه لم يرَ في اتهام الجماعة مسبّة تستدعي الإنكار؟
بدأ التغير في تصرفات ليو ناعمًا، تدريجيًا، لا يمكن الإمساك به ولا الاعتراض عليه. هذا ما حرص عليه المخرج البلجيكي لوكاس دونت ـ الحائز على جائزة مهرجان كان عن فيلمه السابق “فتاة” ـ طوال الفيلم، أن تكون تصرفات الولدين سلسة وطبيعية، بلا مواجهات صارخة. يتملص ليو من ملامسة ريمي التلقائية له، ينضم إلى فريق هوكي الجليد ليكتسب صورة الذكر المعترف بها بين أقرانه، يكف عن المبيت في منزل ريمي بعد شجارهما الأول. ريمي يشعر بالظلم، يحاول استعادة مكانته لديه، وهو أرق من أن يحتمل الرفض من صديقه المقرب دون جريرة.
يساعد ليو أهله الآن في العمل، بوجهٍ يعرف الهم كأنه نضج فجأةً، ويتخلف عن انتظار ريمي لأول مرة في طريقه إلى المدرسة، ليحدث الانفجار الذي تأجل طويلًا.
سأله ريمي أولًا عن سبب مغادرته من دونه، ثم بكى جرّاء الخسارة التي صارت الآن أعمق من أن يكذِّبها، وأخيرًا هاجمه بحرقة كأنه يدفع عن نفسه الأذى الفادح، الجائر الذي ألحقه به أعز مخلوق لديه. الآن، القطيعة باتت معلنة وحاسمة، وساحقة للقلب تمامًا. تنتهي بهذا المشهد طفولة الصبيين، ويليها مشهد ليلي لآلة الحصاد وهي تجزُّ الزهور جزًّا في الظلام، مخلفةً الأرض خربة وخالية.
لم يتوقع ليو مآل الأحداث على الأرجح، بدا آسفًا بالفعل في أكثر من نظرة متفقدة لصاحبه من بعيد، كأنه يتمنى إصلاح الأمر بينهما، قبل أن يمحو ريمي كل سبل العودة إلى الأبد.
سنقضي الساعة التالية من الفيلم مع تداعيات الفاجعة، ليو وهو يجري مسرعًا إلى بيت صديقه، لينظر من نافذة غرفته إلى الباب المكسور، ويبكي بندم مرير. لقد عرف مبكرًا جدًا ما يعنيه قول: “ذنبي أعظم من أن يحتمل” (٣).
في كل مرة يلمح والدة صديقه لا يسعنا سوى التفكير في خواطر لابد من اشتعالها برأسه: هل تكرهني كما يحق لها؟ هل أخْبَرَها بما حدث بيننا؟ هل تعرف أنني السبب؟
وياله من ذنبٍ يبدأ به المرء حياته! يفاجأ ليو بنفسه ذات ليلة وقد تبول لا إراديًا في فراشه، فيذهب بعد تغيير ملابسه إلى سرير أخيه ليسأله: هل تعتقد أنه قد تألم؟ بدا في المدرسة كأنه خارج ذاته؛ يلعب ويضحك ويختفي بين الآخرين، لكنه لم يحتمل البقاء وسط زملائه ببراءة بينما يتبادلون الحديث عن ريمي الذي ظنوا أنهم يعرفونه، فغادرهم إلى الحفل الموسيقي الذي كان يفترض بريمي العزف فيه. مجددًا يرى والدة ريمي هناك، لتضاف إلى العذاب الذي يعاقب به نفسه. في مشهدٍ لاحق تزوره هي في المدرسة وتطلب منه أن يذهب إليها في أي وقت، فيعلم أنه آمن، وأن ريمي لم يترك خطابًا ليوضح أسباب ما فعله. لكن لا شيء يمنحه الراحة.
كالقاتل الذي يحوم حول موقع جريمته يعود ليو إلى منزل ريمي ويدخل غرفته، يلمس أشياءه التي تُركت على حالها، كأنه يريد التظاهر أنه لازال موجودًا كلعبه وأوراقه. يحين وقت الفرار عندما تسأله الأم بصراحة: ماذا حدث بينكما؟ لكن الفرار لن يستمر إلى ما لا نهاية، ولن يريحه سوى الاعتراف بالذنب والحصول على الغفران. هل كان الأمر يستحق كل ذاك الشقاء؟ في إيماءة مشابهة لما بدأنا به بين ليو وريمي، نرى الأخ الأكبر نائمًا جوار ليو، يحيطه بذراعه بحنان حين يخبره أنه يشتاق إلى صديقه، ولا يرفض ليو اللمسة الرقيقة هذه المرة أو ينكر حاجته إليها، فهل كان الأمر يستحق؟
استخدم إيدين دامبرين، الطفل الذي قام بدور ليو، كل أدوات الممثل المحترف لينقل إلينا أطيافًا لا تُحصى من المشاعر، الدهشة، الدفاع عن النفس، القلق، التظاهر بالبرود، الحزن، الصدمة، الخوف، الشعور بالوزر، والتصالح مع النفس في لقطة نهائية مذهلة، يجري فيها بين الزهور كما فعل مرارًا مع صاحبه، ثم ينظر خلفه إلى الكاميرا وإلينا، كأنه يرى صديقه من جديد، بلا ألم هذه المرة. هذا الأداء كان سببًا رئيسًا في جعل هذا العمل المرهف من أجمل أفلام عام ٢٠٢٢ على الإطلاق وأهمها، وترشيحًا دائمًا للمشاهدة.
هوامش
(١) الأنيما هي الجانب الأنثوي الكامن داخل الرجل، والأنيموس هو الجانب الذكوري داخل المرأة بحسب كارل يونج، عالم التحليل النفسي.
“(٢) فَالْتَفَتَ بُطْرُسُ وَنَظَرَ التِّلْمِيذَ الَّذِي كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ يَتْبَعُهُ، وَهُوَ أَيْضًا الَّذِي اتَّكَأَ عَلَى صَدْرِهِ وَقْتَ الْعَشَاءِ، وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، مَنْ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُكَ؟ (يوحنا ٢٠ـ٢١)»
(٣) “فقال قايين للرب: ذنبي أعظم من أن يحتمل”. (تكوين ٤:١٣)