“ميكانو”.. مقال مؤجل عن فيلم بغيرعُمر افتراضى!

ثمة أفلام حتما ستتجنى عليها إن أصبغت عليها انطباعك دفعة واحدة من المشاهدة الأولى، ومضيت متشبثا بحكمك دون مراجعة. ثمّة أفلام تأتيك على مهل حتى وإن كُنت مُنصفا فى حكمك عليها يظل محتواها يرسب على ضفة مشاهداتك المتكررة مضمونا أعمق مما تصورت من هذا الانطباع الأولى الذى سبق وأن ظننت فيه بعضا من العدل وشيئا من الرجاحة.

ميكانو ينتمى إلى هذا النوع من الأفلام، يطل عليك طلة بسيطة غير موحية بثِقل بنيانها وتفرد دقائقه وتفاصيله، يُقدم شخصياته بسلاسة متواضعة من دون أن يشير لك فى مباشرية فجة عن إحكام كيانات هذه الشخوص والتعامل معها بجدية كانت قادرة على أن تُجسد شكل ماضيها وزخم لحظات صمتها،مواطن قوتها ومكامن ضعفها وحتى دوافع تقلباتها.

بعد عدد أعتقد أنه كافى من المشاهدات، قررت أن أكتب عنه مقالة مؤجلة طالما كنت على يقين من أنها تستحق بعض التروى ومزيدا من التشبع للحالة التراكيمة التى ينطوى عليها هذا الفيلم دون غيره ويزج بك لكى تتجرعها فى تأنى من يترصد لفيلم مُختلف ليقتنصه فى مقال مؤجل لأربع سنوات.

الحدوتة

شاب مريض بـ”فقدان الذاكرة قصيرة المدى” إذا جاز تعريف علته بهذه الطريقة، وهو المرض الذى على حد وصف الطبيب فى الفيلم نادر جدا فى حالة خالد الشاب المذكور “تيم حسن”، لأن الوقت الذى يقتضيه فقدان الذاكرة فى هذا المرض على وجه عام لا يزيد عن دقائق بعينها بينما فى حالة خالد تتسع المدة التى يمر بها ما بين معاودة تلك الحالة المرضية واتلافها لذاكرته من جديد، عدد من الآراء الطبية تناوبت بعد عرض الفيلم على الاختلاف فى أساس وجود حالة مرضية مشابهة فى الواقع حتى وإن كانت استثنائية ولها مسبباتها الخاصة ومن التشكيك فى مصداقية المعلومة ثمة من هاجم الفيلم، ومع عدم الدخول فى تفاصيل بخصوص صحة الأمر من عدمه… ماذا إذا لم يكن أثر لأى مرض من هذا النوع من الأصل ؟

إن قضية المؤلف ليست المرض فى حد ذاته، ولا هو ملزم بتقديم معلومة طبية تستقيها أنت كمشاهد من فيلم قرر أن يُسلط لك ضوءا على معاناة واقعية لمريض، وإنما وائل حمدى هنا يحيك لك حبكة خيالية لقصة حُب شبه مستحيلة ويتناول وقعها على طرفيها ومن يحيطوهما بشكل خاص ومتفرد جدا. إن حالة خالد المعقدة والتى لا تُشبه المرضى الآخرين الذين يفقدون ذاكرتهم بمعدلات دقائقية سبب أدعى لأن تخلق حالة درامية مطلوبة وحيوية لن تجدها عند المرضى السابقين الذين بالفعل توقفت دورة حياتهم عند لحظات معينة، فلم يسع أحدهم أن يُسلم بالأمر أو حتى يتألم منه فهو شبه متوفى ضمنيا، ولكن خالد يملك من الوقت أرذله بما يدفع به للتورط فى الحياة من جديد وبمُدة كافية لكى يكون الألم حقيقيا عندما تغادره مرة أخرى وتتركه فى العراء وهو ما ينافى طبيعة بناء قصة الفيلم الأمريكى “50 first dates” الذى يقوم على نفس الفكرة بينما تفقد بطلته ذاكرتها بمعدل اليوم الواحد وهى فترة تحد من الوقوع فى شرك علاقة مكتملة الأركان طويلة الأمد.

وليد الأخ الأكبر لخالد “خالد الصاوى” هو المسؤول الأول والأخير عن أخيه منذ بداية مرضه يحيا معه فى حياة منغلقة رتيبة لا تنطوى إلا على الغربة والغرابة يستسلمان للقدر وللهدوء المزعوم على أية حال إلا أن تظهر أميرة وتقلب دنياهم رأسا على عقب.

الحدوتة على ما يبدو جذابة ومثيرة فى حد ذاتها إلى الفضول، ولكن الكاتب لم يكتف بكونها كذلك وإنما اعتمد فى سردها على أن يضاعف السحر ويبدأ حبكته بشكل يدعو أكثر إلى التساؤل والإلتباس، كل شىء قدمه فى غير اعتيادية بداية من المشهد الأول الذى يتحدث فيه غريبان عن أميرة وخالد غيبيا فيحُمسك أن تبحث عن اثنتيهما بين الحفل وإن وقعت عينيك على ضالتك الأولى أميرة بسرعة، فظهور خالد كان الأكثر تباطئا والأقوى فى اطالة لحظات فضولك وانتظارك، وحتى فى طلته الأولى عليك يحمل لك مزيدا من الغموض بإرتباكه وتشبثه ببعض القصاصات المكتوبة سلفا لإعادة تعريفه بشخصيات من المفترض أنه معتاد التعامل معهم. هذا اضافة إلى مساحة التعتيم المقصودة فى صياغة علاقة الأخين ووضعه أكثر خط تحت نوايا ومقاصد وليد على وجه الخصوص تجاه أخيه، ببساطة اختار حمدى أن يُدخلك إلى عالم الأخين بعيون بقية المجتمع الذى يحيط بهم وتركك مع شكوكك صوب وليد بالذات لتشعر فيما بعد بمعاناة لم يُفصح عنها هو يتهمه فيها الآخرون باستغلال أخيه لدرجة هو يُصدقها أحيانا ويشعر بالذنب بسببها.

الشخصيات

تتقدمهم أميرة “نور”، امرأة خاصة هى محرك الحدث فى الحدوتة بأكملها بجسارة شخصيتها التى كسرت تابوه التحفظ والإستحياء المشروط دائما فى مجتمعنا بشكل السيدة الجديرة بالاحترام والاعجاب والابدى فى الوصول إلى قلب الرجل، أميرة كانت هى المبادرة الشرسة اللحوحة التى خلقت أساسات قوية قامت عليها العلاقة بينها وبين خالد، شخصية من لحم ودم كان الكاتب أشد حرصا على أن يعتنى بتفاصيلها حتى النهاية فهى تحمل من القوة ما مكنها ليس فقط من اقتحام حياة خالد المنزوية بتطرف وإنما الابقاء عليه والحفاظ على ما ربط بينهما سواء بسبب مأساة مرضه أو حتى فى العراقيل التى حاول أن يضعها وليد بينهما أكثر من مرة كانت هى أمامها حائط الصد الأول. امرأة شفافة لا تعرف المراوغة تستطيع فهم نفسها وتحديد غايتها وبالتالى هى الأكثر حديث عن حالها وتعبيرا عن مكنونها بشكل تلقائى عفوى وهو ما كان يظهر فى تفاصيل الحوار بينها وبين خالد، حتى أوقات ضيقها وسعادتها كلها طارئة متبدية على ملامح وجهها فهى لا تعرف المراوغة ودوما قادرة على المواجهة والتشبث بما ترغب فيه، لم يخيب ظنك الكاتب عندما كانت هى من يبوح أولا بحبها لخالد أو حينما أهدرت طاقتها فى طرق باب خالد- وقت أعلمها بمرضه وفضل البعد على الألم البعيد- والتأكيد له على حبها فى نبرة حارقة عنيدة متحسّرة فى عجزها” والله العظيم بحبك .. والله العظيم ما فارقه ..والله بحبك ..والله بحبك” ومن ثم ارتكانها إلى الدرج بغير نية فى الهزيمة ومن دون أن يلجا قلم الكاتب إلى الاكليشيه المتعارف عليه والذى فى موقف كهذا تيأس فيه البطلة وتدير ظهرها وتمضى وما يحيل بينها وبين هجرها لحبيبها إلا مراجعته هو للأمر واللحاق بها فى طريق رحيلها، لا بل كان حمدى على وعى كافى بمكنون شخصيته وبما سيكون منها وعلى المنوال نفسه جاء إصرارها فى مقابلة خالد فى النهاية بعد أن واتته نوبة المرض، وحتى فى أعتى لحظات يأسها حينما تلاقت عيناهما ولم يتعرف عليها لم تتأكد لك نيتها فى مغاردة المطعم كله بل يمكنك المراهنة بعدما تعرفت جيدا إلى أميرة أنها حينما بدر منها نية مغادرة طاولتها كانت على أية حال ستتجه إلى طاولة خالد حتى ولو لم يلقى فى رحابها بنتفة أمل حينما تذكر الشكل الكروكى الذى طالما كانت تحيل إليه “الشاليموه” حينما كانا يجلسان معا.

هى إمرأة قوية فى الوقوف أمام تعنتات والدتها فى التدخل بحياتها وأمام اصرار طليقها على استردادها عنوة وفى الوقت ذاته لا تتسم بجمود العملية رغم نجاحها فى عملها بل تستمع وتتبع صوت إحساسها فهو دوما الأبرز فيها، أميرة هى نموذج حى لشخصية أمسك كاتبها بتلابيب حياتها وطوع ردات فعلها وطبيعة تصرفاتها للدراما التى يختلقها وليس العكس، فبدت وكأنها هى التى تضع يده على مفتاح اختلاف الحدث واتسامه ببعض الخصوصية.

ومن ثم يأتى خالد، اعتنى الكاتب جيدا بالسمات التى يفرضها مرض خالد على تعاملاته مع من حوله وخاصة وليد أخوه، فطبيعة حياته المرتكنة دوما إلى وليد لم يغفل عنها السيناريو فى عدد من المواضع الدقيقة مما أضفى على ما الكتابة شىء من المصداقية والأناقة، فى أول مشهد مثلا يتحدث وليد إلى خالد ويخبره أنه لابد وأن يحضر إلى مكان الحفل لطارىء تطلبه العمل، منذ الوهلة الأولى التى يظهر فيها خالد يرفع فيها سماعة التليفون واضعا يده على مكان الميكرفون مترقبا لصوت الطرف الآخر وما إن اطمئن أنه وليد أزاح يده وتحدث إليه فى أريحيه، بعدها انتقلت الكاميرا إلى وليد وهو يصف له كيف يتأنى له الحضور متحدثا فى تفصيلات دقيقة دالة على الغيبية التى يحيا بها خالد صوب العالم من حوله ” الفندق اسمه الماريوت ..ده فندق كبير فى الزمالك .. اركب تاكسى .. اديله عشرة جنيه .. فيه فلوس فى درج المكتب”.

مواقف مماثلة يتعامل معها حمدى بنفس الوعى ويختصر عدد من المسافات التى تٌعبر عن مأساة خالد منها اللحظة التى استلم فيها شيك بمقابل مادى لعمل مضى عقده توا مع رئيسه ففى الوقت الذى تناول فيه الشيك من يد الرجل توجه به دون أدنى تردد ليعطيه لوليد، اضافة لهرعه إلى التليفون ليحاول الإستغاثة بوليد أكثر من مرة عندما داهمته أميرة بزيارة فى المنزل.. هاتف وليد حينها مرتين.. مرة بمجرد دخولها الشقة والأخرى حينما طلبت منه أن يتحدثا فى الخارج وفقا لما تفرضه العادة التى لا تقتضى بوجودهما معا بمفردهما، وهكذا فى جملة بسيطة قد لا يُفطن لها أحد فى المشهد الذى يخبر فيه خالد أميرة بحقيقة مرضه فتسأله وهو على وشك أن يُغادر “رايح فين ؟” فيجيب هو “هاعرف أروح”.

وعلى الرغم من زخم كل هذه الأمور المتعلقة أكثر بما أصبغه مرض خالد على قدراته فى التواصل مع الحياة المحيطة إلا أن الكاتب أجاد تصوير الشق الموازى من شخصية خالد، الإنسان الذى لم يتوغل المرض فى شكل تعاطيه مع من أمامه فهو رصين هادىء قوى الحضور وعالق الأثر، ينبض بالحيوية رغم سكونه ففى أول لقاء جمعه بأميرة أخبرته أنها تنزعج من هاتفها المحمول وما يجتره عليها من اضطراريات فيتناوله منها ببساطة ويحاول أن يغلقه ويفشل ومن ثم يطلب منها أن تقوم بالمهمة بدلا منه ومن ثم يقول هو يتلفت حوله فى حركة ايحائية” شوفتى ؟ الدنيا ماتهدتش ولا حاجة “، هذا هو خالد الذى ستلمسه يتعامل مع ذاته ببساطة مماثله تُكسبه رونق وثِقل واختلاف.

يبقى وليد وهو الأكثر غموضا ومواراه خلف دراما الفيلم وتفاصيل كل من شخصيتي أميرة وخالد، فوليد أقرب إلى عامل من عوامل تأجج الحدث أكثر من كونه شخصية لها تكوينها، وعلى الرغم من محاولات الكاتب فى أن يعيد لوليد صفته الإنسانية فى المشهد الذى يتحدث فيه بصبر نافذ عن ما يجيش بصدره طوال حياته مع خالد، إلا أنك ستظل على شعور بأنه ثمّة مبالغة فى حتمية وحدة وليد واصراره على عدم الزواج وعيش حياة أقرب إلى الرهبنة بحجة أن ليس هناك من ستقبل برعايته الخاصة لأخيه، حتى فى المشهد الذى يختلى فيه بعاهرة يخبرها بأنه يكتفى بمجالستها فقط على الرغم من أنه رجل قادر على تدبير مكان يختليا فيه فأين المعضلة اذن ؟؟، ليس ثمة منطق فى كل هذا إلا محاولة تغيير الصورة الخاطئة التى يقع فى اطارها وليد طوال حوالى النصف الأول من الفيلم وهو ما يخدم على الصعيد الآخر خط الدراما ذاته.

العلاقة بين خالد وأميرة

من أكبر المشكلات التى تواجه الأفلام الرومانسية فى مصر قبل فترة وعلى المستوى العالمى مؤخرا، هى التمهيد لبداية العلاقات وانتفاء الصورة المسبقة الجاهزة بأنك كمشاهد على استعداد بتقبل البطلين حبيبين فى أى وقت حتى وإن لم يتم التمهيد الكافى ومن دون أى دافع يبعث على الاقتناع بأنه ثمة أساسات واضحة لهذه المشاعر، ولكن ميكانو ابتعد تمام البعد عن مثل هذه السقطات، وأهتم بصياغة العلاقة بين أميرة وخالد بما يليق بطبيعة شخصية كل منهما وهو ما أصبغ على المشاعر بينهما نوع من الصدق، عدد من التفاصيل التى أزاحت مساحات البعد  فى أول لقاء  جمعهما سواء فيما يخص شخصية خالد البسيطة والداعية لإثارة الفضول أو بموقف المصادفة عندما اتسخ ثوب أميرة وبادر خالد بتنظيفه لها وبالتالى تلمس بعض من خصلات شعرها وذراعها ولأن ثمة ما تنجذب إليه أميرة فيه من الأساس بدى أثر لمساته واضحا وقاطعا عليها كثير من التردد فى اعترافها أمام حالها أنه احتل جزء كبير من افكارها واحساسها، ومن ثم جاء الدور فى ثانى لقاء بينهما على خالد فسرعان ما ظهرت أمامه امرأة تنتشله من جدران الشقة التى لم يعتاد أن يُغاردها إلا مع أخوه وفيما بعد وفى المشهد الذى يجمعهما فى لقاء المطعم _وهو من أجمل مشاهد الفيلم_ تثير مرة أخرى فضوله فى التعامل مع الأشياء بلغة العالم الذى ينتمى هو إليه عندما تتتأرجح الطاولة التى يجلسان عليها فتنصرف مسرعة إلى حقيبتها وتخرج غلاف سميك ومن ثم تطويه وتضعه تحت قدم الطاولة فتمنحها اتزان..هو من لاحظ أولا حركة الطاولة شدته التفصيلة لأنها تخص عالمه الهندسى الذى يصادقه بين الجدران الأربعة المحسور بينها ممسكا دوما بالقلم والورقة مطوعا لطاقاته كبنى آدم داخل اطار عمله كمهندس، فعندما تراه فى اكثر من موضع وهو دوما يتشبث بالقلم يمكنك أن تتخيل أنه لم يعد يتعامل مع عمله على كونه عمل وكفى وليس من الضرورة أن خطوط القلم الذى يزركش بها فى المطلق خاصة بعمل مطلوب منه وإنما بعالما ينتمى إليه، ولهذا كان أكثر ميلا للشعور بإختلال الطاولة وبالتالى أعلى تأثرا بحل أميرة السريع البدائى، وهو ما جعله يبتسم ويتذكرها على الفور عندما عاود وجلس على كرسيه فى منزله ووجده يترنح بنفس طريقة الطاولة، فالكاتب هنا لم يكتفى بأثر التفصيلة وإنما امتد بوقعها ليعمق منه فى المشهد التالى .

وبالعودة لمشهد لقائهما فى المطعم ستجد نوع من الذكاء فى ادارة الحوار، تسأل أميرة خالد” ايه سر تعلقك الجامد ده بوليد أخوك؟” يحاول خالد المراوغة فينتبه إلى حركة الطاولة، ومن ثم تعالجها أميرة سريعا وبعدها تقول” الجيش قالك اتصرف مش كدة ؟” فيردد هو خلفها بتساؤل “الجيش ؟” فتبارده بالسؤال مرة أخرى “هو انت دخلت الجيش؟” يشعر خالد بأنه فى مأزق أكبر مما سبقه فيفضل العودة للإجابة على السؤال الذى يخص وليد، هنا طبيعة الحوار قادرة على ان تلعب عدة ادوار فى وقت واحد، فهى تخدم تفاصيل الشخصيتين .. تدل على تلقائية أميرة وعفويتها وفضولها وعدم ممانعتها على الاطلاق أن تقتحم خالد بشكل مباشر وتباهته دوما بالأسئلة لتعرف عنه المزيد، كما تعود بالنفع أيضا فيما يخص التأكيد على حياة خالد الضيقة المرتبكة والتى لا يسعها الاجابة عن ابسط التساؤلات..فهى تصور المعاناة التى سيلاقيها بالفعل إن تعامل بشكل مفتوح مع الآخرين فهو لا يسعه أن يتذكر حتى إن كان أدى خدمته العسكرية أم لا.

يُستكمل الحوار فى نفس المشهد لينم عن وعى الكاتب بإحساس كل شخصية والنطق بلسان حالها مما يعكس تصورها عن حياتها فأميرة تبدأ كالعادة بتلقائيتها المعهودة السرد عن أخوانها وخصوصا عن أخوها الذى فضل مصالحه مع طليقها على علاقتهما وبعدها تقول “حاجة تغيظ مش كدة؟” يرد خالد ببساطة “هى تغيظ لإنك لسه فاكراها ..ممكن تفتكرى حاجات تانية حلوة، لعبة كنتوا بتلعبوها وانتوا صغيرين ..فسحة حلوة عملتوا فيها حاجة تكسف وخبيتوا على بابا وماما ..سر هايف يينكوا لسه سر لغاية النهاردة” هنا هو يتحدث عن الحل الذى يلجأ إليه دوما عندما يشعر بالغربة تجاه العالم الجديد الذى يضمه عندما تهاجمه حالة فقدان الذاكرة كل مرة، ملامحه التى تغيرت ولا يتذكر أنها كان على هذه الصورة فى آخر وقت رأى فيه نفسه وكذلك ملامح أخيه وشكل غرفته وشقته بأكملها كل شىء تغير كل شىء لا ينتمى إليه فبالتأكيد يبقى ملاذه الأول الذكريات البعيدة التى لم يتلفها المرض فى رأسه.

شىء من الحميمية كانت تطلبه العلاقة بين خالد وأميرة، فلا لمسات جمعت بينهما سوى تلك اللمسات الأولى ومثيلاتها بشكل أرق عندما كان خالد يتعلم منها حركة “الشاليموه”، وتلك اللمسة التى حطتها أميرة بأناملها على خد خالد وقت لجأ إليها فى المشهد الأخير قبل فقدانه الذاكرة، وعلى قدر جمال كل هذه اللمسات والشعور بما أحدثته من احساس مكثف غير متكلف إلا أن أجواء ذلك المشهد الأخير كانت فى حاجة لقبلة أو حتى لقرب جسدى أكثر حميمية من مجرد وضع خالد رأسه على قدمى أميرة ومن ثم استسلام كليهما للنوم.

بعض المآخذ

أكبرموطن ضعف فى الفيلم هو اعطاء كل هذا المساحة إلى دينا “رشا مهدى” صديقة أميرة، والسرد عن علاقتها بخطيبها الخائن والذى كان يقتطع سياق الفيلم بشكل فج وحتى إن كان له غرض درامى منتهاه الاشارة إلى قرب العلاقة بين الفتاتين بما يسمح لدينا بمقابلة طليق أميرة والبوح بسر خالد، فإن هذا الغرض بالتأكيد لم يكن يتطلب اقتطاع وقت كبير من الفيلم لعلاقة دينا وحبيبها بهذا الشكل.

موطن ضعف آخر يتأتى فى كرتونية شخصية طليق أميرة، فهى شخصية زاعقة فى تدنيها وسوقيتها مما يجعلك على يقين بأنه ثمة مستحيل فى أن ترتبط أمرأة مثل أميرة بهذا الشخص منذ البداية، فهى امرأة أذكى من أن تعجز عن قراءة شخصية مثل هذه وهى من أكبر السقطات التى غفل عنها حمدى فيما يخص الاوفاء بتفاصيل شخصية أميرة.

كما ان الطريقة التى يتحدث بها الدكتور لخالد فى لقاء من المفترض أن يجمعه به كل نوبة مرض ليُطلعه على حالته ويجعله على دراية بطبيعة مرضه، جاءت سينمائية أكثر منها واقعية فالدكتور يتحدث مع خالد بسعة صدر وتفصيل غريب وكأنه مُلزم بأنه يسرد كل ذلك فى كل مرة وأن هذه المهمة تخصه كطبيب من الأساس بالرغم من أنه لا مانع أبدا أن يقوم وليد بهذا الدور، ولكن هذا المشهد كان فى حقيقة الأمر توضيح للمشاهد نفسه طبيعة مرض خالد ولأن مثل هذا الشعور ادركه المشاهد فلابد من الاعتراف بأنه ثمة خلل فيما يخص واقعية الأمر.

بعض جماليات التنفيذ

ميكانو بصريا لا يحمل جماليات ملحوظة، ولكنه يطوى فيما بين حالته شحنة مشاعر تُشبه دوما الحدث، ففى اوقات تسود حالة الهدوء والراحة نفس الشخصيات تجد حالة الاشراقة قد أعمت بما يصلك من الشريط الفيلمى كله بشكل عام، هذا ويحدث نفس الشىء وقت تقلبات الحدث وعموم حالة التوتر، وعلى وجه الخصوص يتجلى الأمر فى المشهد الذى يخبر فيه خالد أميرة بحقيقة مرضه وبأن جلستهما هى الأخيرة، حيث تجد حتى مكان اللقاء مقبض ومعتم ومقفر وكأنه العراء وان الحياة بأكملها انغلقت على اثنيهما.

كما أن وقع الطريقة التى استخدمها الكاتب أكثر من مرة فى استكمال جزء من الحوار على كادرات مغايرة، مثلما حدث فى استكمال بقية سرد الدكتور عن حالة خالد على عدد من اللقطات التى تجمعه هو وأخوه وسط جمع من الناس فى طريق خروجهم من المستشفى وكأن حالة التيه الذى يشعر بها خالد تجمعهم معا، مرة أخرى حدث نفس التكنيك عندما كان يتم خالد كلماته الأخيرة عن مرضه مع أميرة “أنا مش هاعرف أقولك أكتر من كدة يمكن لإنى مش فاهم أكتر من كدة” والكرسى المقابل الذى كان جالسا عليه فارغا ومخلفا قدر كبير من الوحشة أمامها، ومرة ثالثة جاءت فى تتمة كلام وليد عندما واجهته أميرة بمعرفتها حالة خالد فجاءت كلماته ” عمرك بصيتى فى المراية ولقيتى نفسك مش عارفة انتى مين ” وأميرة تتلمس ملامحها أمام المرآه وهى تشعر بفاجعة خالد.

ميكانو.. فيلم رومانسى مهم ومختلف جدا طابعه الشعورى المتفرد جاء من عنايته بتشذيب علاقة انسانية جمعت بين شخصين فى المقام الأول فكانت فيها المشاعر ثاقبة لها هويتها واختلافها، أعادت الحالة الحالمة التى كان يمتلكها الفيلم المصرى منذ زمن على طريقة خاصة جدا لا تشبه أى فيلم آخر.

آخر كلمتين:

موسيقى تامر كروان جزء لا يمكن اغفاله من حالة الفيلم.

Visited 106 times, 1 visit(s) today