“مونوغرافيات في الثقافة السينمائية”: ضد فتشية الفيلم

لم أستسغ يوماً أن أقول: برتولد بريشت عن برتولد بريشت، كنت أقوله: برتولد بريخت.

 الآن صرت لا أقوله إلا برتولت بريشت كما لو أنني خارج للتو من تلك الحانات البرلينية برفقة قيس الزبيدي وقد كتب على واجهتها: “للمدخنين فقط”.

الكثير من القناني، ورغبة في سيجارة لا تنتهي، وهذا “التغريب البريشتي” يقودني بالأنفاق إليه والمترو بلا رحمة.

 أفكر بـ “التماهي” بينما “التغريب” يمنحنا تلك المسافة، محاولاً أن أقول الأشياء الهامة عن قيس الزبيدي وكتابه هذا، مردداً مع صديقنا بريشت “سيكون ذلك بالغ السهولة، ونحن ملعونون لأننا لا نفعل” بالغ السهولة لئلا تضغط على أسناننا الكلمات السهلة، ولئلا تتساقط ونحن نضحك ولا ندع لها أن تخنقنا.

في الصفحات التي ستلي هذا التقديم سيكون عليكم تعقب شيئين ثالثهما قيس الزبيدي، السينما والكتب، أو أنهما قيس الزبيدي تماماً وهو ماضٍ في تلك الحياة المترامية، يضبطها متلبسة في لقطة، ولا يترك لتلك اللقطة أن تمضي دون سياقها التاريخي، فيكتب عنها، وتحضر معها آلاف اللقطات والأفلام، وعليكم أن تكونوا على اتصال مع هذه الخدمة التاريخية وكل ما حولنا يراد له أن يكون لا تاريخياً، عابراً، معلباً، صالحاً للاستعمال مرة واحدة.

لن أتكلم هنا عن ريادية قيس الزبيدي السينمائية وأفلامه، أنا الذي تلقفتها بشغف ودهشة وقد صنع الكثير منها قبل ولادتي، سألتزم تماماً بالأوراق وفعل القراءة الذي سيمنحنا إياه في هذا الكتاب، وسيكون الأمر مغرياً في نبش الآليات التي كنت محظوظاً بمعاينتها والتعلم منها.

ومع البحث المضني عن الحالة الفنية والنقدية التي يشكلها هذا الرجل، لم أجد إلا ماركس لأتوكأ عليه، لم أجد إلا مصطلح “فتشية السلعة” في الجزء الأول من “رأس المال” الذي سأبني عليه في ما يلي وأنقله إلى مستوى آخر سأطلق عليه اسم “فتشية الفيلم”، لأقدم في ذلك محاولة ناجحة أو فاشلة للكيفية التي قارب بها قيس الزبيدي الفن السابع أو الفنون السبعة التي تختزلها السينما.

لتوضيح “فتشية السلعة” لم أجد أهم مما يورده الكاتب والممثل الأميركي والس شون عن هذا المصطلح في نصه الممسرح “الحمى” (1991) إذ يقول:

كل شيء يساوي مبلغاً من المال، أو عدداً ما من أشياء أخرى- معطف واحد، يساوي ثلاث سترات، وهذا المبلغ من المال – كما لو أن المعطف ظهر فجأة على سطح الأرض محتكماً في مكان ما منه على قدر من القيمة، مثل روح داخلية، كما لو أن المعطف فيتش ، مادة فيزيولوجية في داخلها روح حية. لكن ما الذي يحدد حقاً قيمة المعطف؟ سعر المعطف يأتي من تاريخه، تاريخ جميع البشر الذين قاموا بصنعه وبيعه وكل العلاقات المحددة التي كانت بينهم. عندما نشتري المعطف فإننا ننشأ علاقات مع كل أولئك الناس، ومن ثم نخفي تلك العلاقات عن وعينا بالتظاهر بأننا نعيش في عالم لا تاريخ فيه للمعاطف وأنها فقط هبطت علينا من السماء حاملة لسعرها من الداخل. “أحب هذا المعطف،” نقول “سعره رخيص” كما لو أن تلك حقيقة ذلك المعطف وليس بنهاية قصة أولئك الناس الذينقاموا بصنعه وبيعه”.

هناك غواية في المواصلة والاسترسال في توضيح هذا المصطلح أكثر وأيضاً بمساعدة والس شون:

“أحب الصور في هذه المجلة. امرأة عارية تستند إلى سياج. يشتري رجل المجلة ويحدق بالصورة. ارتبطت أقدارهما. الرجل دفع للمرأة لتخلع عنها ثيابها، وتسنتد إلى السياج. للصورة تاريخها – ما الذي أحست به المرأة في اللحظة التي فكت فيها أزرار قميصها؟ ما الذي قاله المصور؟ سعر المجلة هو شيفرة توصيف العلاقات بين الناس – المرأة، الرجل، الناشر، المصور- ذاك الذي أصدر الأمر، وذاك الذي أطاع. فنجان القهوة يحمل تاريخ الفلاحين الذين قطفوا حبوب البن، كيف أغمي على بعضهم من حرارة الشمس، وكيف طرد البعض. ليومين وأنا أرى فتشية السلعة في كل مكان حولي. كان شعوراً غربياً. في اليوم الثالث فقدت ذلك الشعور، اختفى ولم أعد أراه أبداً.

في نقل ذلك إلى ما صنعه قيس الزبيدي في مسيرته السينمائية سيحضر كل ما تقدم بقوة، وإن تحريف المصطلح وجعله “فتشية الفيلم” سيكون لئلا يفارقنا هذا الشعور الغريب الذي فارق شون بعد ثلاثة أيام، ونحن نشاهد الأفلام كما لو أنها كائنات تطفو على الشاشة ولا تتعدى علاقتها مع المشاهد ثمن التذكرة التي تدفع مقابل مشاهدتها، وفي سياق متصل وأكثر إلحاحاً تمضي “فتشية الفيلم” هذه مع العمل السينمائي العربي، على اعتبارها لعنة تلاحقه، حين يقارب المخرج السينما كما لو أنها على اتصال مع آخر فيلم شاهده، بينما يتصدى النقد لذلك بتقديم وصفات جاهزة ومعدة سلفاً للفني والجمالي.

قيس الزبيدي وفي الشق النظري من تجربته كان المناهض الأكبر لـ “فتشية الفيلم”، وللوباء  العربي في الإبداع والنقد  الذي يزداد تفشياً في مقاربة الفيلم بوصفه كائناً بصرياً يطفو على الشاشة دون سياق تاريخي، نشاهده وننشئ علاقة معه لا تتجاوز القصة أو مساحة المتعة التي يتيحها، كما لو أنه معطف أو فنجان قهوة، بينما قيس الزبيدي همه أن يخبرنا عن تاريخ صناعة هذا المعطف وصنّاعه، ومقاساته والتغيرات والتعديلات التي طرأت عليه، إنه يروي ويؤسس لثقافة عمال حقول البن، ولا يقدم لنا فنجان القهوة إلا حين نعرف جيداً كم كان طويلاً وشاقاً الطريق والمسار.

وفي الإحالة إلى “مونوغرافيات في الثقافة السينمائية”، سيكون “المونوغراف” هنا تتبعاً للسينما من حسن بن الهيثم والفوتوغراف إلى أيامنا هذه، وبين المونتاج والميزانسين نجد مساحة لكل ما له أن يكون على اتصال بمفاصل تاريخ السينما، وليكون الكتاب في مساره السردي مستعيناً بما قرأه الزبيدي من كتب سينمائية صدرت بالعربية سواء المترجمة إليها أو المؤلفة بها، وعليه يمسي الأمر أشبه بكتاب في كتب، مع آلية مونتاجية تمنح لها سياقاً زمنياً، وصراعاً درامياً تمارسه تلك الكتب مع بعضها البعض، فتتلاقح الأفكار، وتخرج منه مجتمعة على كل ما يريد قيس الزبيدي قوله لنا، وهو هام وملّح، ولي أن اسمعه أحياناً كنداء دائم وعميق أمام نداءات الاستغاثة التي على الثقافة السينمائية أن تطلقها في عالمنا العربي، والتي تسير كما “سيزار” المنوّم في “مقصورة الدكتور كاليغاري” وقد تُرجِم في واحد من الكتب التي يتناولها قيس الزبيدي بـ “وزارة الدكتور كاليغاري”.

في هذا الكتاب تلك الآلية “المونغرافية ” التي تمنحنا جرعات مركزة مع كل كتاب ينتقل إليه قيس الزبيدي، وهناك متعة جمالية ومعرفية تجعله دعوة للجميع لمقاربة السينما على دفعات مع مخرج ومونتير ومصور وناقد، عراقي وسوري وفلسطيني وألماني، بريشتي الهوى، ماركسي الفكر، ايزنشتي السينما.

Visited 34 times, 1 visit(s) today