“مولانا”: كثرة الشروح والتفسيرات والخطابة أضر الحبكة
في فيلمه الروائي الطويل السادس، يتناول المخرج المصري مجدي أحمد علي (64 سنة) موضوعا يمكن القول بيقين أنه “موضوع الساعة” في مصر والعالم العربي بل والعالم كله، وهو موضوع التطرف الديني وكيف يقود إلى الإرهاب، ودور الخطاب السائد في تغذيته، وموقف السلطة في التلاعب بأطرافه بغرض تكريس السيطرة.
في فيلم “مولانا”- المقتبس من رواية الكاتب الصحفي ابراهيم عيسى- هناك شخصية رئيسية يستخدمها سيناريو الفيلم دراميا، لتحقيق هدفه وتوصيل رسالته، وهي شخصية الداعية الإسلامي الشاب “حاتم الشناوي” الذي يحمل الكثير من الأفكار الدينية “التقدمية” التي تعارض الخطاب الديني السائد، بل وتكاد أن تصطدم معه.
إن “حاتم الشناوي” هو لسان حال الكاتب إبراهيم عيسى نفسه، الذي درأ على توجيه انتقادات مشابهة للفكر الديني التقليدي في برنامج تلفزيوني كان يقدمه، رغم أنه لم يكن بالطبع من الدعاة الدينيين، كما أن شخصية حاتم هي أيضا لسان حال المخرج وكاتب السيناريو مجدي أحمد علي الذي يميل إلى “أفلام القضايا الاجتماعية”.
لدينا إذن شخصية رئيسية محاطة بشخصيات فرعية كثيرة، تساهم في تسليط الأضواء على بعض القضايا المرتبطة بفكرة الفيلم. حاتم الشناوي (عمرو سعد) في المشاهد التي نشاهدها قبل نزول عناوين الفيلم الأولى، رجل فقير ينتقل بـ “الميكروباص” يبدو ناقما على الحشود الأمنية التي تجمعت أمام المسجد الذي يتوجه إليه لكي يؤم صلاة الجمعة لكنه يعرف من الأمن أن رئيس الوزراء والوزير والمحافظ جاءوا للصلاة وأن وكيل وزارة الأوقاف الشيخ فتحي (أحمد راتب) هو الذي سيؤم المصلين، ولكن تشاء الظروف أن يصاب الرجل بنوبة قيئ فيحل محله حاتم الذي يصول ويجول أمام المصلين متحدثا عن أبي ذر الغفاري، مختتما الخطبة بتذكير “أصحاب المناصب والرئاسات” بمسؤولياتهم.
من قبل أن تنتهي عناوين الفيلم يكون حاتم (من خلال مشهد فوتومونتاج) قد تزوج من أميمة (درة) وأنجب منها ولدا ثم مرت سبع سنوات وكبر الطفل، لكنه يتعرض لحادث غرق يؤدي إلى إصابته بمشكلة في المخ يتحتم معها نقله للعلاج خارج البلاد، فيختفي منذ تلك اللحظة من الفيلم، مع ظهوره في بعض مشاهد الأحلام والهواجس التي تنتاب والده حاتم الذي يطلق لحيته ويهجر منزله ويهيم على وجهه لفترة، قبل أن يعود لكي يظهر على شاشة التليفزيون في برنامج أسبوعي يجيب من خلاله على أسئلة الجمهور.
يلمع نجم حاتم ويلقى خطابه “المعتدل” قبولا لدى جمهور الشباب بل ومخرج البرنامج. أما مقدم البرنامج فهو يتلقى تعليماته من أمن الدولة، ويحاول إحراج حاتم على الهواء، ثم يتلقى حاتم دعوة لمقابلة إبن رئيس الدولة “جلال” في ملعب كرة خاص في الليل، حيث يشترك مع صحبته من أبناء كبار الأثرياء في لعب الكرة، قبل أن يطلع على المشكلة التي يريد جلال وزوجته مساعدته في حلها وهي تتعلق بشقيق الزوجة “حسن” (أحمد مجدي) الذي أعلن اعتناقه المسيحية، وهو ما يراه “جلال”، كارثة ذات عواقب سياسية خطيرة.
زحام الأفكار
كل هذه الخيوط والتفاصيل جيدة ومثيرة للاهتمام دون شك، وكان يمكن أن تكفل صنع فيلم محكم يناقش بجرأة بعض الأفكار المسكوت عنها المتعلقة بموضوع التطرف والإرهاب وغياب الحرية الدينية والسياسية. إلا أن الفيلم بدا وكأنه يريد أن يناقش كل شئ دفعة واحدة: تحكم السلطة في أجهزة الإعلام، استخدام “الشيوخ” التقليديين للترويج لأفكار ترضى عنها السلطة، النظرة السائدة التكفيرية إلى “الشيعة” من جانب السلفيين وأنصارهم، تواطؤ الأمن مع السلفيين واستخدامهم لهم، التنصير والأسلمة.. وغير ذلك.
يدفع الأمن بفتاة جميلة لاستدراج”حاتم” وإيقاعه وتصويرهما معا رغم أنه لم يتورط معها بل سرعان ما قاوم رغبته وعاد إلى صوابه سريعا، ولكن بعد أن كان قد تم تصويره في وضع يوحي بالوقوع في الشرك.
البطل الفردي
الخط الرئيسي في الفيلم كان ينبغي أن يتركز على محاولة تطويع الشيخ حاتم لخدمة أغراض السلطة فلما لا يستجيب ويتمرد بوضوح، يتم تدميره، وكان هذا سيبعث برسالة أقوى وهي أن محاولات التمرد الفردي محكوم عليها بالفشل أمام سطوة “المؤسسة” الراسخة التي تستند على الموروث الديني التقليدي منذ مئات السنين. إلا أن الفيلم ينحرف في اتجاهات متعددة دون أن يمتلك البناء “الأفقي” الذي يسمح بالعبور على كل هذه الجوانب مع الاستغناء عن التصعيد الدرامي وصولا إلى ذروة درامية تقليدية، فمجدي يتمسك بهذا المفهوم الدرامي التقليدي رغم غياب الحبكة القوية التي يمكن أن تسند البناء، وبالتالي يقع الفيلم في الكثير من المشاكل الفنية ويفقد تماسكه ووحدة موضوعه.
أضف إلى ذلك أن “البطل” الذي يفترض أن يلقى الهزيمة أمام جبروت “المؤسسة”، ينتصر في النهاية، فهو يضرب المذيع عميل الأمن، علقة ساحنة، ويرفض الخضوع للأمن، يغمز ويلمز طول الوقت ضد رجال الدين التقليديين، وضد السلطة، ويسخر منهم، ثم يقف في النهاية فوق المنبر لكي يخطب (بلسان ابراهيم عيسى!) ليدين الجميع، ثم يغادر دون أن يصاب بأذى!
يريد الفيلم أن يقول كل شئ عن كل هذه القضايا المعقدة التي يستحق كل منها فيلما قائما بذاته، خاصة قضية التحول الديني وموقف المسجد والكنيسة منها، وهي قضية تعالج في الفيلم بقدر كبير من التبسيط والسطحية، بل تفسد الفيلم بأكمله. فالشاب المتحول “حسن” الذي يصر على التمسك بانتمائه المسيحي على نحو مراهق، مصرا على أن اسمه أصبح “بطرس”، هو شخصية قصد منها أساسا، أن نستمع لرد فعل حاتم وموقفه منها الذي يعكس بالطبع تسامحا مفترضا من جانب رجل أزهري. فمن الواضح أنه يؤمن بـ “حرية العقيدة الدينية”، وهو بالطبع رأي ابراهيم عيسى الذي يبدو في سائر الفيلم وكأنه يقوم بدور “الملقن” الذي يلقن حاتم ما يقوله ويضع على لسانه أفكاره التي يريد توصيلها للمشاهدين حول تسامح الإسلام، وقبول الآخر، وضرورة نبذ التكفير.
المخرج مجدي أحمد علي
إلا أن حسن- بطرس، رغم إقرار حاتم له بصحة أفكاره عن “تعصب” الإسلاميين تجاه المسيحيين، يأتي فجأة إلى مكتب حاتم لكي يحاول الانتحار بقطع شراينه، دون سبب مقنع، ثم وبدون مقدمات درامية مقنعة، سنعرف كمعلومة فقط قرب النهاية، أنه انضم إلى جماعة متطرفة، وأنه وراء التفجير الذي وقع في الكنيسة.
الخطابة والشرح
يميل سيناريو الفيلم إلى الشرح والخطاب المباشر، سواء في خطب حاتم في المسجد، أو عبر برنامجه التليفزيوني، كما يميل إلى فكرة “التكفير عن الذنوب”، فشخصية الفتاة “نشوى” (ريهام حجاج) التي يدسها الأمن على حاتم، تعود لتعتذر لحاتم عن فعلتها بعد أن سرقت الوثائق التي ائتمنه عليها الشيخ مختار، كما حاولت الإيقاع به في فخ جنسي. وهي لا تعتذر فقط بل تعطيه “فلاشة” مسجل عليها كل ما نجحت في تصويره من أوراق مختار قبل تسليمها للأمن، هذه الصحوة الأخلاقية غير مبررة أو مقنعة خاصة وأننا شاهدناها في شريط إباحي أطلعه عليه صديقه “الفنان”.
من الأفكار التي تتردد في الفيلم على لسان حاتم- ابراهيم عيسى بشكل مباشر: رجال الدين لا يمكن أن يقوموا بتبسيط الدين فلو فعلوا لما وجدوا ما يأكلون.. التمثيل ليس حراما.. لا يوجد في الإسلام سنة وشيعة بل هناك إسلام فقط.. رضاعة الكبير حديث لا يعتد به.. هناك فرق بين الدين ورجال الدين.. البلد ليست مقسومة بين المسلمين والمسيحيين بل بين فقراء وأغنياء.. زواج الرسول من زينب بنت جحش كانت لتبيان الفرق بين البنوة والتبني.. كلنا مسؤولون عما يقع من تطرف.. المعتزلة ليسوا منحرفين عن الدين، والصوفيون مخلصون للدين.. لكي تكون هناك سلطة يجب أن يكون هناك عبيد، ولكي يكون هناك أمان يجب أن يكون هناك خوف.. الخوف لا يمنع الموت بل يمنع الحياة.. المشكلة تعود إلى الذين ربوا وعلموا وأدخلوا الأفكار المتطرفة.. لو قلوبنا وجعتنا على بعض بجد فلن نحتاج إلى هذه “الميكروفونات”… إلخ
إيجابيات وسلبيات
يعاني الفيلم أيضا من الاستطرادات وتكرار الفكرة. وعلى سبيل المثال فقد اتضحت تماما علاقة السلطة برجال الدين بالأثرياء من رجال “الطبقة الجديدة”، في المشهد البديع الذي يضم هؤلاء عندما يدعوهم أحد رموز الطبقة، خالد أبو حديد (لطفي لبيب)، إلى وليمة يجمع فيها بين الشيخ فتحي والشيخ حاتم، ورجال الأمن، وبعض أصدقائه الأثرياء، وهو مشهد مصاغ سينمائيا بشكل جيد يوصل ببلاغة فكرة الزواج الشيطاني بين الثروة والسلطة والدين. لذلك لم تكن هناك ضرورة إلى مشهد “الفلاش باك” الطويل الذي يروي خلاله “الشيخ مختار” قصة الشاب الذي عاد من الخارج ثم ارتكب “غلطة عمره” عندما اتصل بابن الرئيس يذكره بأنه كان معه في المصحة التي كان “جلال” (المعادل السينمائي لجمال مبارك) يتلقى فيها العلاج من نوبات صرع، مما يعرض الشاب للاعتقال والتعذيب. فما الذي تضيفه هذه القصة الفرعية إلى الفيلم!
لمسات سينمائية
هناك رغم ذلك، لمسات سينمائية بارعة في الفيلم، الذي يتميز بتصوير جيد، ومشاهد كثيرة متقنة منفذة بمهارة حرفية عالية مثل مشهد غرق الطفل، ومشهد محاولة “نشوى” إغواء حاتم حيث تدور الكاميرا في حركة دائرية حول الإثنين مع المحافظة على اللقطة القريبة، ومشاهد البرنامج التليفزيوني التي تميزت بالحركة، حركة الكاميرا وحركة الممثل في فضاء الاستديو (للتغلب على كثرة الحوار)، ومشهد الهجوم على الصوفيين والشيعة من جانب خطيب مسجد سلفي، ولكن هناك أيضا مشاهد زائدة مثل مشهد الحوار عن “ملك اليمين” بين أحد العاملين في البرنامج التليفزيوني وحاتم، والحوار بين حاتم وسائقه عن شرائط الشيخ محمد رفعت.
من المشاهد الجيدة الجريئة مشهد مظاهرة الأقباط عقب تفجير الكنيسة، وتصوير صمت السلطة وبالإشارة إلى احتمال تواطؤ الأمن، ومشهد اقتياد حاتم إلى أمن الدولة واحتجازه والتحقيق معه وتهديده، وهو يتميز بحواره الواقعي والأداء التمثيلي من جانب صبري فواز في دور المحقق، كما يتميز بالابتكار في التفاصيل (احتجازه في غرفة مصمتة، التلصص عليه من وراء زجاج غير مرئي، تبوله على الزجاج، الصلاة معهم وسخريته منهم..الخ).
يتميز الفيلم بشريط صوت ثري يجمع بين الغناء (أم كلثوم والأناشيد الدينية)، وبين الموسيقى الحزينة، والأصوات المتداخلة والهمهمات وضجيج الشارع والآذان، وصوت ترديد آيات القرآن في خلفية كثير من المشاهد.
النهاية الصاخبة تجعل الفيلم يبقى في دائرة أفلام الميلودراما والمبالغات والدم والدموع. ولكن هذه هي طبيعة الأفلام التي يفضلها مجدي أحمد علي، فهو يعمل من داخل السينما التقليدية، يستخدم نفس قوالبها وأنماطها، همه الأول: توصيل رسالة اجتماعية متقدمة وليس تطوير طرق السرد وأسلوب التعامل مع الصورة والتقليل من الحوار. وهو بهذا المعنى أقرب إلى سينما عاطف الطيب، أي “سينما الرسالة”.
عن التمثيل
يمكن القول إن الفيلم هو أيضا فيلم عمرو سعد. إن عمرو هو الفيلم، والفيلم هو، ومن دونه لا يوجد الفيلم ولا يكون له تأثير. إنه يثبت في دور “حاتم الشناوي” أنه ممثل كبير، يتقمص الشخصية تقمصا كاملا، يتعايش معها ويعايشها، يحافظ على إيقاعه من مشهد إلى آخر، وعلى طريقته في نطق الحوار وكأن شخصيته صورت في يوم واحد وعلى لقطة واحدة. وهو يضفي على الشخصية لمسة من المرح وخفة الظل والسخرية المحببة. وهو بحركته الدائمة، وابتسامته المميزة، وقدرته على السيطرة على كل المشاهد التي يظهر فيها كخطيب في المسجد، وعلى ترديد آيات القرآن والتمكن من النطق السليم لعبارات الحوار، يرتفع كثيرا بالفيلم. ولاشك أن الفضل في اختياره والسيطرة على أدائه يعود إلى المخرج.
درة في دور “أميمة” زوجة حاتم تبدو تائهة ضائعة في الفيلم، لا نفهم دوافعها وتبدو بعيدة عن قلب الأحداث، وتبقى على الهامش، وبالتالي فالممثلة لم تختبر. أما ريهام حجاج في دور “نشوى”، فهي دون شك، صاحبة أجمل وجه لممثلة ظهرت بالحجاب في السينما المصري. لاشك أنها تتمتع بالجاذبية الطاغية، ولكن أيضا بموهبة لاشك فيها وقدرة على الأداء الجيد بنظراتها وحركات جسدها ومعالم وجهها خاصة في اللقطات القريبة.
ومن المؤسف أن يأتي أداء أحمد مجدي في دور حسن، أداء باهتا، يفتقر للإقناع ويميل للتوتر الزائد المفتعل والمبالغة، تظل ملامح وجهه ثابتة في كل المواقف.
وتألقت الممثلة الجميلة إيمان العاصي وصمدت في لقطات “الكلوز أب” القريبة لوجهها في المشهد الطويل الوحيد لها في الفيلم، حينما تقص على حاتم قصة شقيقها المتحول للمسيحية.
وجاء أداء فتحي عبد الوهاب الذي ظهر في مشهد وحيد في دور القس، أداء مقنعا واثقا، وهو يشرح لحاتم معاناة الأقباط وصبرهم، وكيف وقع التفجير محافظا على نبرة صوت تحاكي الطريقة الهادئة التي يتكلم بها القساوسة.
عن جريدة “العرب” الدولية بتاريخ 15 يناير