“مواطن ومخبر وحرامي”.. فوضى الى حدود العبث
إذا كان هناك فيلم واحد فقط يقدم تعبيرا عميقا وساخرا ولامعا عن العشرين عاما الأخيرة من القرن العشرين في مصر، فإن هذا الفيلم سيكون بالتأكيد “مواطن ومخبر وحرامي” من تأليف وإخراج داوود عبد السيد (2001)، والذي بدا وقتها كما لو كان رؤية صادمة لفرط واقعيتها، رغم أن المعالجة الكوميدية، والأغنيات، والخليط الغريب من الشخصيات، كل ذلك خفف كثيرا من مأساوية كامنة في النص، ومن عبثية تضرب في أعماق التحليل، عن مستقبل أكثر عشوائية يمكن مشاهدته من خلال عالم الفيلم، وقد تحقق هذا المستقبل الى مداه الأقصى فيما بعد الى حد كبير.
قانون الفيلم هو السخرية، ومنهجه هو إقناعك بأن هذا العصر هو زمن جمع المتناقضات وتحالفها، فالأحداث التي تبدأ في العام 1980، تنتهي، أو فلنقل تأخذ شكل التحالف العبثي، مع زمن العرض، في بداية الألفية الجديدة، وقد نجح بناء الفيلم الذكي في تحقيق ذلك، وبطريقة بسيطة للغاية: فكلما تقدمنا في الأحداث، تراجعت الدهشة، وزاد تقارب الشخصيات، وإمكانية حدوث ما يمكن أن نظنه مستحيلا.
الأمر العجيب الذي استغربناه في البداية لم يعد كذلك، بل وبدا أن هناك خللا كامنا من الأصل في كل شخصية، جعلها في نفس الإتجاه دون أن تدري مع الشخصية الأخرى، أي أن ما كنا نعتقده مسافات بين الشخصيات، بحكم اختلاف المواقع والثقافات والطبقات، لم يكن سوى عامل تقارب كامن لم يحن وقت ظهوره بعد.
إذابة الفوارق
“مواطن ومخبر وحرامي” يذيب الفوارق الطبقية بطريقة جديدة شعارها “التواطؤ”، فقد أدّى التغير الإجتماعي العنيف الى هزة حقيقية في الأفكار، وفي مدى ملاءمتها الواقعية لإنقاذ صاحبها، أو لرفع مستواه، فلا يجد كل طرف إلا أن يتعلق بأقرب شخص إليه، تذوب الفوارق هنا بمنطق المصلحة، خاصة عندما يكتشف أبطال الفيلم الثلاثة، أن تحوّلهم من وضع “المراقب”، الذي يتكرر في أفلام داوود، الى صفة “المتورط والمشارك”، سيحقق لهم صعودا صاروخيا، وسيكتشفون أيضا أن العصر هو زمن “الخلطبيطة” و”الفخفخينا” و”التورلي”، الصنف ذو الطعم الواحد أصبح موضة قديمة، والجديد هو أن تضع كل شيء في طبق واحد مثل السلاطة، كل الأصناف معا، ولكن دون أن يصل إليك طعم صنف بعينه، الكل يستفيد من التغيير بدلا من البقاء خارج الصورة، بل وسيصبح هذا المزيج المتنافر هو عنوان المرحلة، والمبشر بجيل جديد يخرج من قلب العشوائية والفوضى.
يمكن القول باختصار إن الفيلم ينتهي بالتحليل الى أن هذه السنوات قد أفرزت ثقافات عجيبة، تمتلك كل واحدة منها تناقضاتها الداخلية، فكيف سيكون الحال لو امتزجت هذه الثقافات المتناقضة معا؟
الفيلم يتتبع بذور هذه الثقافات من البداية، ثم يقدم بالتفصيل عوامل تناقضها وتقاربها، بحيث نصل الى ثقافة واحدة، هي ثقافة المصلحة والصعود السريع، وبحيث لا توجد في النهاية سوى طبقة واحدة جديدة تطفو على السطح، تدافع عن مصالحها، وتضع الكل في خندق واحد، كل فرد نسي ماضيه، ونسي صراعا افتراضيا سابقا، أما الجيل القادم فهو ابن هذه الطبقة الأخيرة الجديدة، وابن هذا التحالف العبثي الذي لا يصدق.
ثقافات ثلاث
الثقافة الأولي في الفيلم هي ثقافة النخبة التي احتفظت ببعض الثراء بالوراثة، والتي تعلمت وقرأت وتذوقت الفنون، ويمثلها المواطن سليم سيف الدين (خالد أبو النجا).
منزله الذي يحتاج الي دهان، والذي يحتفظ فيه ببعض التحف والأثاث القديم، يدل على طبقة غاربة تبحث عن شيء يجعل لحياتها معنى، حتى علاقته الجسدية مع مديحة( رولا محمود)، يراها سليم منشطا إبداعيا لكي ينجز رواية، وعزاء عن حكايات حب لم تسعده، ومديحة أيضا تبحث في حريتها الجسدية عن معنى يشغل الفراغ، عالم خاص مغلق تماما على أصحابه، فيه موسيقى وحفلات وكتب، ولكنها حياة فارغة، تدور حول نفسها، ثقافة معزولة وهشّة تخص أفرادها فقط، هنا سيكون سليم معرضا بسهولة لاختبار من ثقافات أخرى فى مجتمعه، لم يكن يعرف أصلا أنها موجودة.
الثقافة الثانية هي الثقافة الأمنية السلطوية، وهي بالتأكيد ناتجة عن النظام السياسي بل والأنظمة البوليسية التي غرستها ورسختها من القمة الى القاع، ويمثلها في الفيلم المخبر فتحي عبد الغفور (صلاح عبد الله)، والذي يتعمد داوود أن يجعل خدمته في كل الإدارات الشرطية تقريبا، آداب ومخدرات وأمن دولة، ليمثل الفكرة الأمنية عموما، وليمثل المهنة أيضا.
هو الآن مخبر في قسم مصر الجديدة، مصر القديمة لم يتغير فيها شيء حتى تصبح جديدة، فالمخبر بعصاه الطويلة، وبفضوله السمج، هو أيضا عنوان سنوات القرن الأخيرة، وهو ليس مجرد فرد، وإنما طريقة تفكير، وثقافة تجعل الأمن فوق الجميع، وفوق المواطن نفسه، وتعتبره رجل الأمن ممثلا ورمزا للسلطة.
وعندما يتحدث المخبر عن التقارير التي كان يكتبها عن المواطن سليم وهو فى الجامعة، وعندما يستخدم المخبر المواطن العنف مع الخادمة (حياة)، لكي تعترف بالسرقة، في محضر هو الذي أملاه، وعندما يلتقي المواطن سليم بالضابط (أحمد كمال)، الذي يفلسف قصة السلطة والأمن، والذي يبدو حزينا لأن السلطة ليست مطلقة، ولأن الهويات شديدة الإختلاط، فإن كل هذه المشاهد تستكمل ببراعة ملامح ثقافة كاملة، صار لها خدامها ومنظّروها، وهي ثقافة متعددة العيون والأذرع، ولذلك كان لابد أن تصل الى المواطن المنعزل سليم.
الثقافة الثالثة وهي الثقافة الشعبية البسيطة، والتي يمثلها الحرامي شريف المرجوشي (شعبان عبد الرحيم)، أول ما نلاحظه أن هذه الفئة ما زالت محاصرة بالفقر والجهل، ولم تفلح الجهود في نقلها الى مستوى آخر مختلف، ورغم اتصاف شريف بالجدعنة التي تجعله لا يسرق غلبانا، كما تقول كلمات أولى أغنياته في السجن، فإن ثقافته عشوائية تماما: خبرات الحياة اختلطت مع روايات المغامرات ذات الهدف الأخلاقي، ثم ظهرت لديه ميول للتوبة وللتنظير الإيماني، متاثرا فيما يبدو بنبرة مماثلة في المجتمع، وانعكست هذه المصادر المختلطة على شخصية شريف الحافلة بالمتناقضات، حيث يغطي التمثال العاري، بينما يستحل أن تسرق التمثال نفسه، يتحدث شريف عن ضرورة وجود مغزى أخلاقي للفن وللرواية، بدلا من مشاهد الحب والزنا، بينما لديه عشيقة لا تربطه بها أي ورقة ! لم نعد أمام الحارة المصرية التقليدية في سينما الأبيض والأسود، وإنما أصبحنا أمام حارة أضيق، وأكثر فقرا وانعزالا عن المدينة، والثقافة الشعبية صارت جهلا وتناقضا كاملا، لا يحاول أن يسمع أو يتعلم، وإنما يريد أن يفرض هذا التناقض على الجميع، صرنا في زمن الجهل النشيط، جهل بالفن وبالدين وبكل شيء.
جسور غير متوقعة
بعد التعريف بالشخصيات الثلاث وثقافاتهم المتناقضة في داخلها، يبدأ داوود بحرفة كاتب سيناريو كبير في مد الجسور بين الشخصيات، لا تبنى الجسور مرة واحدة، وإنما تتسلل كل شخصية الى عالم الشخصية الأخرى على استحياء، والسخرية الحقيقية هي أن المخبر سيصبح هو الجسر الأهم بين المواطن المنعزل والمراقب، وبين الحرامي التائب، عاشق الفن والثقافة، وصاحب نظرية الفن الأخلاقي الملتزم، يقول الضابط (أحمد كمال)، إنه من الطبيعي أن يتبع المخبر المواطن ليحصل على معلومات عنه، ومن الطبيعي أن يطارد المخبر الحرامي، ولكن المواطن والمخبر والحرامي لا يمكن أن يجتمعوا إلا في جريمة، هذه العبارة تلخص ما حدث بالضبط، ولكن كيف حدث ذلك؟
لولا المخبر ما عرف المواطن الخادمة حياة (هند صبري) التي ستدخله الى حياة لم يكن يعرفها، حياة أيضا ابنه الثقافة الشعبية الفقيرة، وهي أيضا لصة تسرق ما تيسر من البيت، ومعها رواية المواطن، تطاردها مخاوف أصوات تناديها في عز الليل، ثم إنها نقيض مديحة على طول الخط، علاقة حياة الجسدية مع سليم لن تتم إلا إذا خلعا ملابسهما، وصارا عاريين، فتزول الطبقة مع كل قطعة ملابس منتزعة، ويعودان الى الحالة العاريةالأولى، ولكنها علاقة عابرة رغم كل شيء، ولذلك لن تسفر عن طفل.
ولولا المخبر ما وصل المواطن الى شريف المرجوشي، ولما استمع الى آرائه وتنظيراته الفنية والأدبية، ولما وصل تصادم الثقافتين (النخبوية والشعبوية) الى صراع خطير، أدى الى حرق الرواية، واقتلاع عين الحرامي.
جعل الرواية المكتوبة في بؤرة الصراع كان دليلا على أن الصراع انعكاس لثقافة ولرؤية للحياة، وعلى عكس ما نتوقع بأن يؤدي الإحتراق ثم الإقتلاع الى فراق نهائي بين الرجلين والطبقتين، إلا أن المعركة ستكون سببا للتقارب والتحالف الكامل، بعد أن اكتشفا أنهما يستطيعان نتاج ثقافة جديدة مبتكرة، تضع المواطن النخبوي المنعزل في قلب المجتمع، وتتيح للحرامي التخلص من ذنوب الأمس، وارتداء ثوب جديد أبيض أو مزركش بألوان التناقضات التي يحملها.
تدريجيا نكتشف أن الثلاثة لم يكونوا على مسافة بعيدة كما كنا نظن، وخصوصا عندما يتغير الثلاثة، ويتنازل كل واحد عن جزء من ثقافته: المواطن اقتنع بالهدف الأخلاقي للفن، والمخبر قرر أخيرا أن يعمل لحسابه، بدلا من أن يعمل لصالح الثقافة الأمنية للنظام، توقف عن مراقبة المواطن، وتعذيب اللصوص الغلابة، ليتفرغ للصعود الى أعلى النظام نفسه، والحرامي وجد أن صناعة النشر أفضل من صناعة النشل والسرقة، وأن صبغ كل شيء بالأخلاق والدين، يخفف من اثقال كل ما فعله ويفعله نقيضا للدين وللأخلاق.
حياة ومديحة
ليست الرواية وحدها هي سبب علاقة شريف وسليم، ولكن حياة أيضا هي الجسر الجديد، وبينما تبدو العلاقة بين الثلاثة موضعا للصراع في البداية، فإن دخول مديحة على الخط، يجعل الأمور منطقية، حيث تذوب الفوارق الطبقية والجنسية معا، ويولد جيل جديد من رحم هذا الخليط العجيب، وتصبح إشراقات سليم الإيمانية، وهواجس حياة ومخاوفها، وصعود شريف وفتحي، أمورا عادية تماما، أو بمعنى أدق: لقد تحقق أعجب ما يمكن تخليه، فلم يعد هناك أي شيء آخر يدعو للعجب.
يمكن أن تقرأ الفيلم أيضا بالعكس من نهايته، فلو بدأ داوود الفيلم بحفلة النهاية باٌقنعتها، وبأغنية الماكارينا، التي تتحول فجأة الى أغنية لشعبان عبد الرحيم، ولو عاد السيناريو الى الماضي، لكي يكشف حقيقة كل شخص وراء القناع، لأصبحنا أيضا أمام تحليل عظيم للطبقة الجديدة المتصالحة مع تناقضاتها، والتي صنعت جيلا آخر لا يمكن أن تفصل جيناته عن بعضها.
هذا إذن بناء محكم تأخذك فيه البداية الي مشهد الحفلة الأخير، ثم يعيدك مشهد النهاية ذهنيا الى البدايات، لكي تعرف ما وراء أقنعة التنكر، ولكي تتأكد أن الثالثة كانوا فعلا مواطنا ومخبرا وحراميا، وأن الماضي صار لعبة وأغنية فى الحاضر التعيس، وأن هيمنة الحرامي على تكوين اللقطة الأخيرة حجما ومساحة، وظهور الجميع أمامه في شكل غائم “فلو”، ليس أمرا عفويا، ولكنها صورة المرحلة الجديدة.
وعندما يغني شعبان عبد الرحيم من كلمات إسلام خليل:” اسمع وافهم كلامي/ مواطن ومخبر وحرامي/ فيها إيه لو نبقى واحد/ ونغيّر الأسامي؟”، وعندما يتحدث عن سياسة العهود، التي ستجعل الفأر ينجب فئرانا مقطقطين، بعد أن تزوج الفأر من القط، فإن معنى الرحلة يصل أخيرا الى الجميع: هذه معالم الثقافة الجديدة، الناتجة عن فوضى إجتماعية وسياسية مزلزلة، وهي لذلك ثقافة مناسبة لزمنها، وملائمة له، ذابت الهويات واختلطت، ولم يعد أحد يعرف أصل ولا فصل الصاعدين الى القمة.
اختلط الفن بالدين بالبيزنس بالطموح الشخصي بالسياسة الأمنية، فلم يعد هناك فارق بين العين الحقيقية، والعين الفالصو، بل إن شريف يقول إنه يرى بالعين الفالصو أفضل من العين الحقيقية، ونرى شريف في إحدى بروفاته الغنائية في الأستديو، وهو يقترب من غرفة المراقبة والسيطرة المحاطة بجدران من الزجاج، بل ويحاول اقتحامها على مهندس الصوت الغاضب، لقد انتصر شريف على كل الجبهات، الى درجة هذا المشهد الغريب يجعلنا نتساءل: وهل ما زالت هناك أصلا غرفة مراقبة وسيطرة بعد أن انصهر المواطن والمخبر والحرامي في سبيكة واحدة؟!
تناقضات الشخصيات
الثقافات الثلاث كانت تحمل في الأصل تناقضات غريبة: المواطن النخبوي وجد في الكتابة مجرد وسيلة لملء الفراغ، ولإعطاء المعنى لحياته، تماما مثل علاقاته النسائية، وهو مهمش من الطبقة العليا إذا جاز التعبير، لأنه كان يفضل الإنعزال، ويرفض أن يمد طرفه بما يجعله منفتحا على طبقات أخرى، يصعب فعلا أن نعتبره موهوبا أو فنانا حقيقيا، وإلا لرفض أن يملي عليه الحرامي مواصفات الرواية المحافظة الجديدة، وقد فشل المواطن في أن يعود الى حالة الكتابة الأولى الحرة والممتعة، بعد أن صار كاتبا تحت الطلب في الزمن الجديد، كما فشل في أن يرفض علاقة النسب الجديدة، لأن الجيل الطالع المهجن سيختار بنفسه ولنفسه في النهاية.
والمخبر فتحي عنوان الدولة البوليسية له تناقضاته، فرغم لماحيته ومكره، إلا أنه يبدو فى مشاهد كثيرة كما لو كان الوجه الآخر للإجرام، هو أيضا يظلم ويضرب ويلفق التهم، وهو أيضا لديه تلك النفحات الدينية الشكلية، المتناقضة تماما مع ما يفعل، وبما يذكرنا بما كان يفعله شريف المرجوشي، ولذلك كان سهلا أن يتحالف مع المواطن والحرامي، وكأنه اكتشف نفسه الحقيقية معهما.
أما تناقضات شريف فهي واضحة مضمونا وشكلا، وهو، مثل المخبر والحرامي، متصالح تماما مع هذه التناقضات، مثلما تصالحت في حجرته المدفأة، والكتب التي تغذي هذه المدفأة، وقد كان اختيار المغني الشعبي شبعان عبد الرحيم، بملابسه المتنافرة، وبساعاته المكدسة على معصمه، ملائما بشكل مدهش للشخصية، لدرجة أتاحت ل داوود أن يلغي المسافة بين الدور وشخصية شعبان، حيث قام شريف المرجوشي بتغيير اسمه بعد عمله كمطرب، فأصبح اسمه شريف عبد الرحيم!
المسافات عموما بين دوري المواطن والمخبر وبين الممثلين اللذين لعبا الدورين لم تكن بعيدة: خالد أبو النجا بهيئته وبطريقته فى النطق وبنظراته المندهشة للعالم وللشخصيات الشعبية كما لو أنه ينظر الى شخصيات فضائية، كل ذلك جعله أنسب من يقوم بدور المواطن، وصلاح عبد الله ابن البيئة الشعبية، بل إنه أيضا “بتاع بولاق الدكرور” مثل فتحي، جعله يقدّم شخصية المخبر بكل تفاصيلها، وهي أفضل أدواره على الإطلاق، الشخصية لا يمكن أن تكون شريرة على طول الخط، إنه أب يبحت لابنه على عمل، وزوج ينتظر لحظات متعة خاطفة مع زوجته البدينة، ولكن عندما يظهر وجه فتحي الصارم والعنيف تحت تأثير الخمر، يتحول صلاح عبد الله الى وحش حقيقي، وهو يعذب الخادمة حياة.
كانت هند صبري ايضا جيدة جدا في دور امرأة شعبية مصرية، هند وقتها كانت ما زالت في أدوارها الأولى فى السينما المصرية، ولكنها نجحت في أداء الشخصية، بالذات في فترة عملها الأولى لدى المواطن، وفي مرحلة الصراع عليها بين المواطن والحرامي.
وكان أحمد كمال أيضا مميزا، كما هو الحال في كل أدواره في أعماله مع داوود عبد السيد، شخصية الضابط تبدو مثيرة للدهشة وللرثاء وللسخرية معا، فيلسوف الدولة البوليسية المتأمل لا يفارقه مسدسه، ولكنه ينصح بالحب والتواصل بين كل الهويات والفئات.. أي عبث وأي جنون وأية سخرية.
قدم داوود في هذا الفيلم رولا محمود في دور كبير وهام، وكانت ممثلة واعدة وممتازة، وأسند لها محمد خان بعد ذلك بطولة فيلم “كليفتي” أمام باسم سمرة، ولكنها سرعان ما ابتعدت، ثم اختفت تماما لأسباب مجهولة، دور مديحة من أبرز أدوارها، والشخصية صعبة ولها عدة مراحل متناقضة، وهي أيضا دليل على زمن الفوضى التى وصل الى حدود العبث.
لا يستغني داوود في أفلامه عن راجح داوود كمؤلف للموسيقى التصويرية، وعن أنسي أبو سيف كمشرف فني وكمهندس ديكور. موسيقى راجح تلونت هذه المرة لتعبر عن هذا الخليط العجيب من الثقافات، وبدت متعاطفة بشدة مع عالم الطبقات الشعبية الفقيرة، ومتعاطفة أكثر مع حيرة وأزمة حياة، التي جمعت بين الجمال والجهل والفقر، كما عبرت الموسيقى عن عالم سليم النخبوي بمعزوفة للكمنجات بدت كما لو أنها قادمة من حفل بالأوبرا، في تنافر مقصود مع عالم المهمشين في الأسفل، الذين صنع موسيقاهم وألحانهم شعبان عبد الرحيم، كما كانت كلمات الأغاني التي كتبها إسلام خليل، من أبرز ملامح التميز في الفيلم، قلقد عبرت بأبسط وأقرب العبارات عن معنى كل موقف، وكانت سخرية الكلمات امتدادا لسخرية الفيلم كله.
أما لمسات أنسي ابو سيف فقد كانت واضحة في التباين الحاد بين قصر سليم، والوكر العجيب الذي يقيم فيه الحرامي، والبيت المتواضع الذي يقيم فيه المخبر، ثم في مشهد الحفلة الأخيرة بكل ألوانه وأقنعته وملابسه العجيبة، المكان فاخر، ومساحات واسعة من اللون الأبيض في كل مكان، ولكن الخليط متنافر، والألوان متضاربة، والأقنعة تكشف عن تشوه واضح.
داوود عبد السيد ليس غريبا عن العالم الذى كتبه، تحس أنه يعرف شخصياته، ولديه عناية فائقة بالتفاصيل: فمثلا التفاحة التي قضمها المخبر فى السوبر ماركت أصبحت دليلا على اهتمامه بأن يكون في مستوى أفضل، حتى لو سرق التفاحة، والتفاحة نفسها سيرميها المواطن من جيبه، لأنه ما زال مترددا في أن يتقارب مع هؤلاء الأوغاد اللصوص، ثم نشاهد تفاحة أخرى ولكن حمراء تقضمها حياة، بعد أن دخلت عالم سليم نهائيا والى الأبد ، من التفاصيل أيضا لقطة خلخال حياة حول ساقها وهي تصعد سلم القصر، ثم نكتشف أن الخلخال سيكون فيما بعد وسيلة سليم لكي يتعرف على حياة، وهي في لقاء حميم مع شريكها الحرامي.
العناية بالتفاصيل يمكن أن تراها أيضا فى عصا المخبر المصنوعة في الغالب من الرمان أو البامبو، والتي ستتحول الى عصا فاخرة مغلفة بالجلد عندما يصبح من رجال الحزب.
هناك ايضا دمج جيد الى حد كبير لأغنيات شعبان ضمن دراما الفيلم، وخصوصا عند استخدامها على لقطات الفوتو مونتاج، او كأغنيات متداخلة أحيانا مع صوت الراوي طارق ابو السعود، الذى أضافت رصانته في الإلقاء مزيدا من السخرية الى المشاهد، هذا مراقب جاد جدا، يعلق بمنتهى الهدوء على مواقف تدخل فى باب المسخرة!
معظم أحجام اللقطات متوسطة، تجعلنا نراقب ونـتأمل ونتعجب، ثم تأتي اللقطات القريبة لكي تمارس التأثير في مواقف بعينها، ويختار داوود أن يبطيء إيقاع مشاهد بعينها لأهميتها، مثل مشهد تعذيب الخادمة، أو مشهد لقاء سليم مع الضابط في مكتبه.
يمكن أن تصل دراسة إجتماعية الى رصد الفوضى التى رصدها فيلم “مواطن ومخبر وحرامي”، ولكنها لايمكن أن تكون بمثل هذا التأثير المكتسح.
لقد صار الفيلم نفسه، بجرأته، وبسخريته، وبعمق تحليله، دليلا جديدا على أهمية الفن الحر والصادم، فكان داوود هزم منطق الرقابة على الفن مرتين: مرة بقوة الفيلم نفسه، ومرة بإسناد منطق الرقيب الأخلاقي الى لص جهول وعجيب ومثير للسخرية، ذلك أنه داعية وناقد ومغني في شخص واحد.
هذا فيلم لا غنى عن شهادته أبدا حول ما فعلته التغيرات الاجتماعية في المجتمعات القديمة والتليدة، وهي تغيرات ستصل الى ذروة أخرى أكثر عبثية مع أيام مبارك الأخيرة.
إنه ليس فيلما عن سرقة رواية، وإنما عن سرقة وطن بأكمله.