مهرجان مراكش الدولي للفيلم: إقصاء وجدل واحتفاء!
بلغ مهرجان مراكش الدولي للفيلم دورته السادسة عشرة، وهي فرصة لتأمل التجربة التي وضعت المغرب على خريطة المهرجانات الدولية الكبرى من حيث الإشعاع، فقد عَرَضَ المهرجان عددا كبيرا من الأفلام، واستضاف ثلة من صناع السينما، منتجين ومخرجين، ومَرَّ على بساطه الأحمر نجوم السينما المعروفين من شتى بقاع الأرض، وغطت فعالياته منابر صحافية وقنوات تلفزيونية متعددة، والأهم من هذا كله احتفاؤه بسينمات مختلفة المشارب والتصورات، وقدوم مخرجين مبدعين ومفكرين كبار لتقديم خبراتهم ضمن فقرات الماستر كلاس السينمائية. لكن الملاحظ أن مُؤَشِّرَ دوراته لم يكن دائما تصاعديا، بل يشبه منحنى التخطيط القلبي؛ إذ لا تشبه الدورة الأخرى من حيث جودة الخدمات وفرادة الأفلام المعروضة وقيمة الضيوف المدعوين مما يستدعي ضرورة مراجعة جذرية له بعد أن كانت فعاليات هذه الدورة متواضعة للغاية.
وينجلي التواضع من خلال القيمة الفنية للأفلام المعروضة ضمن المسابقة الرسمية وفقرة “نبضة قلب” ليظل تكريم السينما السوڤياتية والروسية نقطة الضوء الوحيدة ضمن برمجة هذه الدورة التي انتصرت لتكريس المد الفرنكفوني، فإذا ما عدنا إلى الأفلام نعثر على ما يفوق عشرين فيلما فرنسيا إما بطريقة مباشرة أو عن طريق الإنتاج المشترك أو الدخول ضمن نطاق شبكات التوزيع الفرنسية مما يقصي سينمات أخرى يمكن للتجربة المغربية الفتية، والمتمادية في الرسوخ أيضا، أن تستفيد منها، وخاصة تجارب أمريكا اللاتينية وأستراليا وآسيا وأوروبا الشرقية بعد أن أتخمتنا التجربة الفرنسية والأمريكية والهندية بما يكفي من النجوم والموضوعات والكليشيهات والإيديولوجيات غير البريئة.
لم يصل مهرجان مراكش، وهو في دورته الحالية، إلى رسم استراتيجية واضحة المَعَالِم تتجاوز الطابع الاحتفالي والبهرجة وكذا التعامل الدوني مع السينما المغربية سواء من حيث حضورها في المسابقة الرسمية أم في “فقرة نبضة قلب” أم في البرمجة بشكل عام فضلا عن دعوة أكبر عدد من المهنيين (منتجين ومخرجين ونقاد…)؛ إذ من البديهي أن يكون المغرب كبلد منظم وممول حاضرا بقوة في فعاليات المهرجان، ومنظما فعليا له، وبالتالي فرض ما يخدم مصالحه، وعدم الاكتفاء بتأثيث الفضاء. إن إقصاءه بدعوى عدم جاهزية “الكبار” أو “عدم التفضيل الإيجابي” لهو مجرد نقاش مغلوط وذريعة بائسة للتغطية على ضرب تجربته السينمائية الرائدة إفريقيا وعربيا، وتناقض صارخ مع توجهات البلاد العليا المنفتحة على محيطها المغاربي والعربي والإفريقي، ومحاولة لإقبار المكتسبات. لقد أصبح المهرجان انطلاقا من الإحصائيات منصة للترويج لما يريده المدير الفني للمهرجان، وهذا ما يعني أن الوقت قد حان لإحداث قطيعة جذرية مع هاته الممارسات التي ستؤدي بالمهرجان إلى التراجع كواجهة فنية إنسانية للتعريف بالثقافة والحضارة المغربيتين المرفودة، دوما، بانفتاحها على الآخر.
هيمنة فرنسية
تطرح هيمنة الأفلام الفرنسية وغياب السينما المغربية مشكلة كبيرة على الجهات المعنية بتنظيم المهرجان، ومدى قدرة الطرف المغربي على جعل الفرنسيين مجرد موظفين تنفيذيين لا منظمين فعليين كما يظهر من البرمجة واكتساح جل الوظائف في هرم الطاقم المشرف على المهرجان فضلا عن أكبر عدد من الضيوف والسابحين في نطاق المد الفرنكفوني، والتفضيل المبالغ فيه لكل ما هو فرنسي، ولنكون واضحين أكثر، فقد حظيت السينما المغربية بتكريم الراحل عبد الله المصباحي مع الاكتفاء بعرض لقطات من منجزاته، وإتْبَاعِه في نفس الوقت بتكريم الممثل الكوميدي (في المسرح والتلفزيون) عبد الرحيم التونسي الملقب بعبد الرؤوف نسبة إلى اسم الشخصية التي جسدها طيلة حياته تقريبا عارضة فيلما تلفزيونيا لا قيمة له في حين كان الأجدر تقديم فيلم للمكرم الأول مع العلم أن تكريم النجمة الفرنسية إيزابيل أدجاني قد حظي بثلاث شهادات وعرض عدة أفلام أخرى!قد يعترض البعض بأنه لا مجال للمقارنة، ولكن هذا التمييز قد سرى على جميع مكرمي هذه الدورة من الأجانب، وهم لا يقلون قيمة وعطاء عن الممثلة الفرنسية. وقد أدى ذلك التعامل التمييزي والتهميشي والإقصائي لكل ما هو وطني إلى ارتفاع أصوات المناوئين لتلك السياسة؛ إذ طالب بعض المهنيين بتخصيص مقعد لهم داخل إدارة المهرجان للدفاع عن مصالح السينما المغربية التي لا تنفصل عن مصالحهم داخل هذه التظاهرة ما دام تسويق مقولة “انتظار الكبار” جزء من تخاريف الفرنسيين حول المهرجان الذي لا يكبر دون وضع أفلامنا أمام حَرَجِ العرض والنقد والتشريح والمقارنة.
بدأت إدارة المهرجان منذ عدة دورات تكرس التفرقة بين مهنيي السينما على مستوى البادجات التي تميز على مستوى الألوان وغيرها بين مهني وآخر مع ازدياد معاناة المهنيين المحليين غير المقربين في الحصول على دعوات الافتتاح والاختتام وولوج كافة خدمات المهرجان، وهنا نطرح السؤالين التاليين: كيف يمكن للجمهور العادي أن يستفيد من خدمات المهرجان بعد أن صعب على المهنيين الاستفادة منها؟ ألا يمكن مساءلة المؤسسات المحلية المنخرطة في دعمه بدعوى عدم استفادة السكان منه؟
مشاكل الصحافة
ويمكن الإشارة إلى أن عدة نقاد وباحثين مغاربة يجدون صعوبات كبيرة في الحصول على بطائق الاعتماد لمتابعة فعاليات المهرجان مع العلم أن بطاقة الانتماء إلى جمعية النقاد غير معترف بها من لدن المهرجان مع أنها شريكة للوزارة الوصية على القطاع!هذا وإن لاحظنا أن المهرجان لا يقيم ندوات صحافية ولا لقاءات مفتوحة مع السينمائيين الحاضرين مكتفيا بكل طقوس البهرجة من جلسات التصوير والمرور على السجاد الأحمر الذي أصبح مفتوحا في وجه كل من هب وذب، وفي ذلك تغطية على الحضور الضعيف للنجوم فضلا عن حدوث بعض الارتباك وسوء التنسيق بين الساهرين على الأمن والمضيفين والمضيفات على مستوى ولوج بوابات قاعة العرض الكبرى وحفلي الافتتاح والاختتام، والتوزيع المحدود لنشرة المهرجان التي تقلصت إلى مطوية لا تتجاوز الصفحات الأربع بعد أن كانت مفتوحة على مشاهدي الأفلام مما يجعلها غير موجودة فعلا ولا تقوم بدورها الإعلامي والتثقيفي لعموم القراء والمتفرجين الذين يتقلصون سنة بعد أخرى؛ إذ كنا نعاين حجم الفراغ الملحوظ أثناء العروض.
كانت لحظة تكريم السينما السوڤياتية والروسية في محلها، وفي ذلك درس بليغ، ربما، لم ينتبه له المنظمون وهو أن الدولة الروسية قد خصصت العام الحالي سنة للسينما الروسية، وذلك بأمر سام من رئيس الدولة، ووعيا منه بصناعة الصورة المحلية وتكسير الصورة التي ترسخها أمريكا عن نفسها في العالم، وذلك بغلاف مالي ضخم يضعها في مصاف السينمات الكبرى التي تلجمها الهيمنة الأمريكية عن التواجد في سوق التوزيع، وهي التي عرفت مسارا حافلا بالتحف السينمائية والمقترحات الفنية التجديدية في تاريخ السينما، ولعل بانوراما هذه السنة قد عبرت عن ذلك بجلاء كما برهن عليه فيلم التكريم “المبارز” للمخرج “أليكسي ميزگيريڤ” وكذا الفيلم المشارك في المسابقة الرسمية “عِلْمُ الحيوان” للمخرج “إيڤان تڤيردوڤسكي” فضلا عن حضور هذه السينما النادر واللامع من خلال مشاركاتها السابقة في المهرجان وخصوصا تكريم المخرج المتميز “أندري كانشلوڤسكي”.
عن النتائج
جاءت نتائج هذه السنة مقنعة في عمومها، وقد توزعت على الشكل التالي: انتزع نجمة مراكش الفيلم الصيني “المتبرع” للمخرج “زانغ كِيوُو”، وفاز بجائزة لجنة التحكيم فيلم “ميستر يونيڤيرسو” للمخرجة الإيطالية “تيزا كوڤي” والمخرج النمساوي “راينر فريميل”، وعادت جائزة الإخراج للمخرج الصيني “وونغ كْسِيِّيبُو” عن فيلمه “سكين في الماء الصافي”، وجائزة أحسن أداء نسائي للممثلة الإيرانية الشابة “فيريشته حسيني” عن دورها في فيلم “رحيل” للمخرج الأفغاني الإيراني “نڤيد محمودي”، وتقاسم جائزة أحسن دور رجالي الممثلين الإيسلنديين الشابين “بالدير إنرسون” و”بلايير هنركسون” عن أدائهما المتميز في فيلم “قلب من حجر” للمخرج “گودموندير أرنر گودموندسون”.