“كان يا ما كان في غزة”.. طموح لم يكتمل

أثناء تصوير الفيلم من داخل الفيلم أثناء تصوير الفيلم من داخل الفيلم

الآن تمكن الأخوان طرزان وعرب ناصر من صنع فيلمها الطويل الثالث بعد “ديغراديه” (2015)، ثم “غزة مون أمور” (2020)، وهو الفيلم الذي يحمل عنوانا مثيرا هو “كان يا ما كان في غزة” ويستوحي عنوانه من أفلام سيرجيو ليوني الشهيرة، لكنه في الحقيقة، أبعد ما يكون عن أفلام ليوني. إنه محاولة لصنع فيلم يدور بين الكوميديا والإثارة البوليسية، أي إثبات أنه في غزة أيضا، يمكن أن يوجد ما يشبه أفلام التشويق الأمريكية التي يبدو الأخوان ناصر مولعين بها. وفي فيلمهما هذا كثير من الاقتباسات من السينما الأمريكية. لكن هذا ليس هو الموضوع.
لكن من كان ينتظر أن يأتي هذا الفيلم للعرض في قسم “نظرة ما” بالدورة الـ78 لمهرجان كان السينمائي، متوقعا أن الفيلم لابد وأنه سيتناول موضوع الساعة، أي الحرب الإجرامية التي تشنها إسرائيل على غزة وسكانها منذ نحو عشرين شهرا، سيخيب أمله، فأحداث الفيلم تجري بين 2007 و2009، أي بعد في بدايات سيطرة حركة حماس على القطاع. فمشروع الفيلم يرجع إلى ما قبل أحداث السابع من أكتوبر 2023. وتصويره جرى في الأردن كبديل عن غزة التي لم يعد لها وجود عمليا الآن.

ومع ذلك، ورغم انفصال الفيلم عما يجري في غزة اليوم، إلا أنه يبدأ بداية ذات صلة- قبل نزول العناوين- من الواضح أنها أضيفت إلى الفيلم في اللحظة الأخيرة أي قبل إرسال نسخته للعرض في مهرجان كان. فعلى لقطات لشاطئ البحر في غزة تحت ضوء الشمس، يأتينا صوت الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهو يتحدث عن ما يوفره القطاع من فرصة مذهلة لعمل شيء كبير، أو تحويلها إلى ما يطلق عليه “ريفييرا الشرق الأوسط”!

هذا المدخل الساخر يتماثل مع الطابع الساخر الذي سيسود الفيلم خصوصا في نصفه الثاني، ولكنها سخرية ممزوجة بالمرارة، وكوميديا سوداء، لا تميل للتحليل والتأمل، بل تكتفي بالتعليق من الخارج. فنحن من البداية نستمع إلى من يقول لنا إن غزة سوف تشهد أول فيلم يشبه أفلام رامبو. ولكننا الآن نشهد جنازة شاب يدعى يحيى، يشيعونه، هذا الشاب نفسه أي “يحيى” (نادر عبد الهادي) سيعود إلى الحياة لنرى أنه عامل بائس في مطعم “فلافل” أو مساعد لصاحبه الذي لا يقل بؤسا عنه أي “أسامة” (مجد عيد) رغم ما يبدو على سكنته وجسده الضخم من قوة، فهو يلجأ لزيادة دخله من مطعم لا يحقق له شيئا، عن طريق حشو شطائر الفلافل بحبوب الترامادول المخدرة ثم تكليف يحيى بتوصيلها إلى الزبائن في منازلهم.

أسامة هذا يرتبط بعلاقة ملتبسة مع ضابط الشرطة الملتحي التابع لحركة حماس “أبو سامي” (رمزي مقدسي). وأبو سامي يضغط على أسامة يريده أن يعمل جاسوسا له، يزوده بأسماء الزبائن الذين يشترون منه المادة المخدرة في قلب شطائر الفلافل، لكن أسامة يعتبر نفسه “رجل مباديء”، أي لا ينبغي أن يخون الثقة التي وضعها الآخرون فيه، وهنا يقع الشجار والمواجهة التي تنتهي بأن يقتل أبو سامي صاحبنا المسكين “أسامة” في مشهد دموي.

الجزء الثاني من الفيلم يجري بعد مرور عامين، في 2009، حيث يرغب يحيى في استكمال دراسته فربما يمكنه الإفلات من واقعه المزري والعمل في الخارج. وهو أصلا طالب جامعي يدرس التجارة، تحول السلطات الإسرائيلية بينه وبين الذهاب إلى الضفة الغربية لزيارة والدته (هنا يطرق الفيلم فكرة الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع، وعزل الفلسطينيين عن أهلهم ومنعهم من الحركة الحرة)، لكن حضور الاحتلال يبدو أكثر هامشي، من خلال طائرات الاستطلاع التي تتوجه إليها الكاميرا بين حين وآخر، أو نسمع صوت أزيزها يملأ الأجواء.

من الواضح أن الفيلم ينتقد حماس من خلال شخصية “أبو سامي” الضابط الفاسد المرتشي الذي يبتز أسامة لكي يقتسم معه ما يحصله من مال، مقابل أن يتغاضى عما يقوم به، كما سيعود لنقد مفهوم حماس ونظرتها للسينما. ولكن المشكلة أن الفيلم سيخرج تماما عن هذه القصة الأولى، ويستدرجنا إلى قصة أخرى ترتبط ارتباطا واهنا للغاية بالقصة الأولى من خلال شخصية “يحيى” الذي يراه مخرج سينمائي فلسطيني يعتزم إخراج فيلم دعائي لحساب حركة حماس، عن البطولة والتضحية والمقاومة.. إلخ، ويعرض عليه أن القيام بدور البطولة. وبعد تردد يقبل فليس لديه ما يخسره.

وفي اجتماع في بيت المسؤول السياسي في حماس أو عمدة المدينة، يجتمع مخرج الفيلم ومنتجوه ويحيى بالطبع، يتحدثون عن الفيلم الذي يطلقون عليه “المتمرد”، وعن قلة الإمكانيات السينمائية المتاحة، وغياب المؤثرات الخاصة في غزة، وبالتالي فإنهم سيستخدمون البنادق الحقيقية والذخيرة الحية
ولكن أن تستنتج ما سيحدث بعد ذلك خلال التصوير، ويربطنا بمشهد جنازة يحيى التي شاهدناها في البداية!

هناك مشهد طريف في الفيلم عند مهاجمة الجنود الإسرائيليين المكان اعتقادا منهم بأن هناك في الأفق عملية مسلحة ستجري، لكن المفارقة أن شبابا فلسطينيين هم الذين يقومون بأدوار الإسرائيليين في هذا المشهد، ولكن أهالي المنطقة لا يفهمون ذلك فيتصدون لهم، ويقتضي الأمر أن يشرح لهم المخرج أنه مجرد مشهد من فيلم يجري تصويره!

الأخوان ناصر في مهرجان كان

العلاقة بين أسامة ويحيى منسوجة بشكل جيد، وهناك مشهد يأتي في موقع متأخر من الفيلم، هو مشهد عودة إلى الوراء، لسرد بدايات العلاقة بين الاثنين، التي تبدو وكأنها علاقة بين الأب والإبن. لكن الفيلم يخلو بشكل عام من طابع “الحكاية الخيالية” التي يوحي لنا بها عنوانه.

شخصيا لم أجد في الفيلم الكثير من الطرافة، بل وجدت أنه عمل يعاني من الترهل خاصة في النصف الثاني، كما تثقله الكليشيهات، وربما أن هناك أيضا من السخرية التي لا تضحك أحدا، كما أن الخلل الواضح في بناء الفيلم (وهو خلل موجود أصلا في السيناريو المتعثر من البداية) ما بين النصف الأول، ثم النصف الثاني الذي يختلف تماما في طبيعته وأسلوبه، يربك الفيلم كله، بل وكثيرا ما يجعلك أيضا تتساءل عن المقصود من تلك الخلطة المرتبكة المبعثرة؟

صحيح أن الفيلم يبرز أداء الممثلين الثلاثة الذين يقومون بالأدوار الرئيسية. وصحيح أن هناك تصويرا جيدا خصوصا في المشاهد التي تدور في معظمها في الليل، من كاميرا نفس المصور الذي أجاد كثيرا في تصوير “غزة مون أمور” وهو الفرنسي كريستوف جرايلو، لكن ما الفائدة ونحن أمام عمل مفكك، غير واضح المعالم، يبدو متواضعا في مستواه وطموحه الفني، بغض النظر عن كونه لا يلمس المشكلة الأساسية التي ينتظر الجميع أن يلامسها، أي مشكلة الاحتلال، لمجرد أن يقول لنا إن أهل غزة لديهم أيضا مشاكلهم الداخلية، وأن من الممكن أن يكون لديهم فيلم مثير عن الجريمة

والصراع في العالم السلفي، لكن حتى الفيلم الذي يدور داخل الفيلم، ينتهي إلى كارثة نتيجة الاستخفاف بالتعامل مع الأسلحة. فهل هذه هي الرسالة التي يريد الفيلم توصيلها لنا في الوقت الحالي.