مهرجان برلين السينمائي: مشاعر المرأة الجياشة
قليل جدا من الأفلام التي نشاهدها في الدورة الحالية من مهرجان برلين السينمائي، كما في كل مهرجانات الجزء الشمالي من العالم الذي اخترع السينما وعرفها قبلنا وتمكن مخرجوه وسينمائيون عموما من صنع تحف فنية خالدة على مر العصور، الذي لا يستخدم الجسد البشري العاري في التعبير، والمقصود، مشاهد الجنس الجريئة الصريحة للتعبير عن الحب. ولا أتذكر الآن من هو المخرج المرموق الذي دافع عن تصوير الجنس في السينما باعتباره أحد أهم النشاطات البشرية عبر العصور منذ أن خلق الله الإنسان على سطح كوكب الأرض. ومن الجنس تحديدا تمكن عالم النفس العظيم فرويد من تحليل الكثير من الظواهر والسلوكيات البشرية. وعلى أي حال فالسينما الإيرانية- “المحجبة”- شبه غائبة تماما عن عروض المهرجان!
ضمن مسابقة الدورة الـ72 من مهرجان برلين السينمائي الدولي، عرض الفيلم الفرنسي الذي يحمل أكثر من عنوان، فالعنوان الفرنسي الأصلي له هو Avec amour et acharnement أي “بالحب والعزم”، والعنوان الإنجليزي له هو Both Sides of the Blade أي “نصلا الشفرة”، إلا أن الترجمة العربية الأفضل للعنوان هي في رأيي “اللعب على الحبلين”. أو الانتقال بين الحبيبين. أما العنوان الانجليزي الذي سيعرض به الفيلم في الأسواق العالمية وأهمها بالطبع السوق الأمريكية فهو “نار” Fire.
في المشاهد الأولى في الفيلم الذي أخرجته المخرجة الفرنسية الشهيرة كلير دونيس (76 عاما)، مشهد حب يدور في الماء بين البطل والبطلة، أي بين جوليت بينوش وفنسنت ليندون، ثم مشهد آخر يدور على الفراش داخل منزلهما بعد عودتهما مباشرة من العطلة الجميلة التي قضياها معا على شاطيء البحر. وتريد المخرجة من خلال هذه المشاهد الحميمية التي تتكرر في الثلث الأول من الفيلم، أن تؤكد لنا بشكل واقعي ملموس تماما، حميمية العلاقة بين “ساره” (بينوش) و”جون” (ليندون). كلاهما في منتصف العمر. وهي تقيم معه من دون زواج وظلت تنتظره كما سنعرف، تسع سنوات كاملة قضاها في السجن بعد أن تورط في عملية لا يشرحها الفيلم، وليس مهما أن نعرفها فليس هذا من الأفلام البوليسية. لكن المسألة ذات صلة بعلاقة عمل كانت تربطه في الماضي بـ”فرانسوا” (جريجوار كولن)، ولكن الآن يكفي أن نعرف أن جون يحب ساره بجنون، وهي أيضا تحبه بشكل غير معقول لدرجة أنها تكرر كلمة “حبيبي” كثيرا جدا وهو يطارحها الغرام على الفراش، مرة ومرات.
هذا “التأكيد” على حميمية العلاقة بينهما أساسي في الفيلم وسنعرف السبب بعد قليل. وفي مشاهد تالية نعرف أيضا أن “جون” لديه ابن، في الخامسة عشرة من عمره، أنجبه فيما يبدو من سيدة افريقية الأصل، سوداء، بالتالي الإبن “ماركوس” وهو أسود أيضا، يعاني من أزمة هوية في المجتمع الفرنسي رغم أن والده يحبه ويريده أن ينجح في الحياة ويدرس ويصبح ذا شأن في المجتمع ولا يدخل السجن كما حدث له. ولكن لأن ساره تقيم مع جون، فماركوس يقيم مع جدته، والدة جون. وما يحدث أن جون يتلقى عرضا للعمل مع “فرانسوا” الذي كان الحبيب السابق لساره.
وفي حوار بديع على الفراش بين ساره وجون، تذكره ساره كيف كان لقاؤهما الأول، ولماذا قررت هي أن تهجر فرانسوا وتقرر العيش معه. هي تحبه دون شك، لكن مجرد عودة فرانسوا الى الزهور بعد كل تلك السنين يشعل جذوة الحب في قلبها مرة أخرى، تعود فتلتقي به ويعود الهيام والولع والحب، لدرجة أنها تمارس معه الجنس رغم ما في ذلك من خيانة لحبيبها الحالي “جون”، لكنها بسبب حيرتها واضطرابها العاطفي الشديد، تقع في هذا المحظور الذي لا تشعر بأنه محظور بل تنساق إليه بفعل العاطفة القديمة التي أعيد إحياؤها مجددا بكل قوة. لكنها لا تريد أن تفقد جون، بل تنكر ما يلاحظه هو عليها من تغير وميل واضح الى فرانسوا.
فرانسوا بعد ان يستبد به الأمر، دون أن نعرف هل يريد الانتقام من الرجل الذي اختطف منه فتاته قبل عشر سنوات، أم أنه يريد حقا إعادتها إليه، يذهب إلى جون ويكشف له أوراقه كاملة باستثناء أنه لم يحدثه عن مطارحة ساره الحب على الفراش.. ويطلعه على رسائلها النصية التي تفيض هياما. ويقع الصدام الذي كان مؤجلا بين جون وساره التي تبدو متمسكة تماما بجون رغم أنها تحب فرانسوا، ولكنها تحب أيضا جون. وتتحول العلاقة الرومانسية الملتهبة بين جون وساره، إلى علاقة توتر وهياج عصبي ومشاحنات وصراخ وتصل إلى أن يطلب منها أن ترحل وتتركه ولا تعود إليه. لكنها تتمسك بكل قوتها بالبقاء معه، تبرر وتشرح وتحاول العثور على أي شيء يحفظ علاقتهما رغم اعترافها بأنها وقعت في الخيانةـ لكنها تقول إنها لم تكن تخونه بل كانت تخون نفسها!
الفيلم في الحقيقة عن المشاعر الغامضة للمرأة عندما تقع في الحب: هناك منطقة رمادية تقع فيها المرأة أحيانا، حينما تصبح مشاعرها متضاربة متناقضة، لا تعرف كيف تتحكم فيها تماما، بل يمكن أن تنجرف وتفقد السيطرة عل مشاعرها، تتوق إلى الحب القديم خصوصا بعد أن تكون قد عبرت مرحلة الشباب، ودخلت في عمق أزمة ما بعد منتصف العمر، ولكنها تود في الوقت نفسه الاحتفاظ بالرجل الذي يمنحها الحب بكل صدق. بل هو رغم كل ما حدث يظل على استعداد لأن يكمل معها لو أنها استطاعت حسم موقفها وتحديد اختيارها. ولكن هل تقدر؟
تصوير رقيق مرهف في النصف الأول من الفيلم. شخصيات واضحة، علاقة مشروحة بعمق بين الأب وابنه الواقع في أزمة هوية، وتصوير يميل إلى الانتقال بين اللقطات الكبيرة للوجوه لأن المخرجة تريد أن تقربنا كثيرا من مشاعر الشخصيات، كيف تتفاعل مع المواقف المختلفة، ثم في الانتقال من الهدوء والإشباع، إلى القلق والشعور بانعدام الوزن. فساره تقاوم الانجراف في مشاعرها تجاه فرانسوا، لكنها لا تنجح وفي الوقت نفسه تريد أن تقهر مشاعرها، لكنها تصبح أكثر انجرافا. وعندما يواجهها جون تنكر في صدق أنها عادت الى فرانسوا رغم أنها عمليا ذهبت الى الفراش معه.
ما يجعل من هذا الفيلم عملا كبيرا، ليس موضوعه الذي يمكن أن نكون قد شاهدناه من قبل كثيرا: الثلاثي التقليدي الرجل والمرأة والحبيب، أو امرأة بين رجلين، بل أولا تلك الكيمياء التي تجمع بين جوليت بينوش وفنسنت ليندون، ونجاح المخرجة في خلق تلك الألفة فيما بينهما رغم أنها المرة الأولى التي يشتركان معا في فيلم سينمائي. ولا شك أن الخبرة الكبيرة التي يتمتع بها كلاهما، ساهمت في خلق ذلك الأداء العبقري بحيث أن المشاهد لا يمكنه أن يتخيل أصلا تدخل المونتاج أو التوقف والانتقال بالقطع من لقطة الى أخرى، فالأداء يتدفق بين الاثنين، ولا شك أن المصور كان يلهث وراء الشخصيتين في مشاعرهما مشاحناتهما لكي يرصد ادق الخلجات من دون أن تأثير سلبي على الممثلة أو الممثل. هذه سينما خالصة حقيقية على الرغم نت الحوارات الطويلة في النصف الثاني من الفيلم. لكن الحوار في حد ذاته، أساسي لخلق التباين بين الشخصيات. وثانيا: أنه لا يصدر أحكاما أخلاقية على الشخصية الرئيسية بل يعرض لحالتها ومشاعرها المتضاربة دون الحكم عليها، وهو أمر صعب كثيرا في الدراما. ولكنه يترك للمتفرج أن يقرر بنفسه ولنفسه
ربما أنت تدرك أن فرانسوا يخدع ساره ويسوقها للعودة إليه لكي ينتقم من جون، وجون نفسه يشعر بالجرح لكن حبه الكبير لساره يجعله يميل الى التسامح، لكن يتعين على ساره ان تقرر ما الذي تريده.. لكن ساره لا تعرف لأنها تمر بمرحلة توهج عاطفي ناتج عن العيش في الذكرى القديمة التي لا تستطيع أن تغادر ذهنها.. وهو هروب من مواجهة الواقع الذي يقر بأن عشر سنوات قد مضت من العمر. ولكن هذا الحلم المستحيل باستعادة الماضي، ماضي الشباب، يراودنا جميعا. والشاطر من يتمكن من تجاوز الذكرى وخلق حاضر أجمل من الماضي.