مهرجانات الدولة السينمائية.. وتساؤلات مشروعة عن المصير
في غبار حرب المهرجانات السينمائية الدائرة هذه الأيام في مصر، والتي تحدثنا عنها في العدد السابق من “القاهرة”، يبدو موقف الدولة – ممثلة في وزارة الثقافة – غائما وغامضا، سواء فيما يتعلق بالمهرجانات التي من المفترض أنها تنظمها بشكل مباشر، أو بتلك التي تشرف عليها وتدعمها، وتتولى الجمعيات الأهلية مهمة تنظيمها.
ورغم أن علاقة الدولة بالمهرجانات ملتبسة منذ مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير 2011، إلا أن اللبس زاد بعد الثورة، وتحديدا بعد قرار وزير الثقافة الأسبق الدكتور عماد أبو غازي بإسناد تنظيم المهرجانات السينمائية إلى الجمعيات الأهلية، وما تبعه من تطورات تتعلق بمهرجان القاهرة تحديدا، الذي أسندت الوزارة تنظيمه لمؤسسة “مهرجان القاهرة السينمائي الدولي” التي أُنشئت لهذا الغرض برئاسة الناقد يوسف شريف رزق الله، ثم عادت وسحبته منها على خلفية النزاع القضائي بينها وبين الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما التي تطالب باستعادة المهرجان باعتبارها صاحبة حقوقه وأول جهة قامت بتنظيمه.
وبعد قرار أبو غازي، أوضحت قيادات وزارة الثقافة – ومنها المخرج مجدي أحمد علي، رئيس المركز القومي للسينما وقتها، في حوار صحفي أجريته معه ونشر في مارس الماضي – أن الدولة ستحتفظ بتنظيم ثلاثة مهرجانات من الصعب أن تقدر الجمعيات الأهلية على تنظيمها لما لها من طابع ثقافي تعليمي لا يجتذب الرعاة، وهي: “القومي للسينما المصرية”، و”الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة”، و”القاهرة الدولي لسينما الأطفال”.. لكن جاءت تصريحات أخيرة لوزير الثقافة الحالي الدكتور محمد صابر عرب لتفتح الباب أمام الجمعيات الأهلية لتنظيم جميع المهرجانات بما فيها الثلاثة السابقذكرها، ولا مشكلة في ذلك بالطبع، المشكلة تكمن فيمن يتسترون وراء بعض هذه الجمعيات من القيادات السابقة المكروهة لكي يعودوا إلى الأضواء ومواقع المسئولية!
مظلة الدولة
فقد قال وزير الثقافة – في تصريحات صحفية – إن الوزارة تدخلت لإنقاذ مهرجان القاهرة السينمائي ولخدمة الفن والسينما المصرية بعد أن كانمعرضا لمشاكل وموضوعات قضائية في المحاكم تكاد أن تلغيه هذا العام وتخرجه من السباق الدولي. وأكد أنه كان من الضروري أن يقام المهرجان هذا العامل أسباب سياسية واقتصادية واجتماعية وفنية لنؤكد للمصريين والعالم كله أنه قد آن الأوان لكي تعود مصر إلى بهجتها وعبقريتها وأداء رسالتها خاصة في مجال السينما. وأضاف: “لم نتدخل لأخذ حقوق أحد، فنحن جبهة واحدة ولسنا جبهتين”، ودعا العاملين في مؤسسة رزق الله إلى العمل معا تحت مظلة الدولة ووزارة الثقافة.
وأوضح أن وزارة الثقافة كانت تقيم المهرجان كل عام، ولكن هذاالعام رأى وزير الثقافة الأسبق أن يقيمه المجتمع المدني، ولا بأس من ذلك، ولكن عندما حدثت مشكلة تعرض المهرجان للتوقف، كان لابد من تدخل الوزارة لإنقاذه، مشيرا إلى أن القضية ليست قضية أشخاص، ولكن تكمن في أن الوزارة تقيمه وتستعين بمن تشاء للدعم والدور الفني والإداري، ودعا كل من لديها لفكرة والخبرة أن يتقدم للاستعانة به.
المهم أنه قال إنه من العام القادم ستضع الوزارة الشروط لمشاركة الجمعيات الأهلية والمجتمع المدني، مما يثير التساؤلات والمخاوف حول المهرجانات الثلاثة التي أعلنت الدولة أنها ستحتفظ بها، والتي باتت في مهب الريح، وأصبحت مهددة بالإلغاء أو الموت البطيء إذا رفعت الدولة يدها عنها ولمتتقدم الجمعيات الأهلية – كما هو متوقع – لتنظيمها.
تشجيع وترميم
وبسؤال الناقد أمير العمري، مدير مهرجان الإسماعيلية، أكد أنه مستمر في عمله، مشيرا إلى أن عقده مع وزارة الثقافة ينص على أنه يُجدد تلقائيا.. وقال إنه يواصل جهوده لتحويل المهرجان إلى مؤسسة تعمل طوال العام، وليس خلال فترة إقامته فقط، على أن يكون دورها اكتشاف وتشجيع السينمائيين الشبان الذين يتزايد إقبالهم على تصوير الأفلام القصيرة بعد أنصار تعبيرهم عن أنفسهم سهلا في عصر الديجيتال، بالإضافة إلى ترميم الأفلام القديمة التي تمثل بدايات كبار السينمائيين والمخرجين وتعد من الكلاسيكيات، كما فعلت إدارة المهرجان في دورته الأخيرة، التي أقيمت في يونيو الماضي، حين خصصت برنامجا باسم “نظرة إلى الماضي” أو “نوستالجيا مصرية” لعرض (10 أفلام لمخرجين كبار بدأوا حياتهم الفنية بصناعة الفيلم التسجيلي والقصير.
وأهم هدف لهذا القسم كان ترميم هذه الأفلام وجعلها صالحة للعرض في المراكز الثقافية والسينمائية داخل وخارج مصر، انطلاقاً من الرؤية الجديدة للمهرجان وهي ألا يقتصر دوره على استهلاك الأفلام فقط، وإنما إعطاء الفرصة لإعادة عرضها طوال العام ليكون تأثير المهرجان مستمراً وخارج إطار فترة انعقاده. ومن أبرز أفلام الماضي التي عادت إلى الحياة، “البطيخة” لمحمد خان إنتاج 1969، و”المقايضة” لـعاطف الطيب، و”حياة جديدة” تأليف رأفت الميهي وإخراج أشرف فهمي، و”طبول” لـسعيد مرزوق، و”معطف” لحسين كمال.. وفي مبادرة للحفاظ على تراثنا السينمائي، قال العمري إنه سيتم عمل نسخ ديجيتال صالحة للعرض الجماهيري من تلك الأفلام وإهداؤها للمراكز الثقافية والمهرجانات السينمائية.
وتوجه العمري إلى طهران السبت الماضي لحضور مهرجانها الدولي للأفلام القصيرة والاشتراك في لجنتي التحكيم الرئيسية والفرعية وانتقاء أفلام تصلح للعرض في الإسماعيلية. وقال إنه سيسافر إلى العاصمة الأردنية عمان أوائل نوفمبر المقبل للإشراف على عرض مختارات من أفلام الدورة الأخيرة للمهرجان في أسبوع بعنوان “أيام مهرجان الإسماعيلية في عمان” وفقا للاتفاق الموقع بين الجانبين على هامش المهرجان في يونيو الماضي، كما أنه من المقرر إقامة أسبوع أفلام مماثل في الجامعة الأمريكية خلال الفترة المقبلة.
ظروف غامضة
ما يمكن فهمه من تصريحات العمري أنه يريد تنفيذ مشروع متكامل، وليس مجرد إدارة مهرجان في توقيت معين من كل عام. ومن الواضح أنه بدأ التنفيذ فعلا، ولابد أن يستمر ليستكمل ما بدأ. ففي ظل ظروف صعبة لا تخف ىعلى أحد، لم تنجح إدارته فقطفي إقامة المهرجان، بل صنعت له ثوبا جديدا وصححت العديد من أخطائه السابقة، رغم الميزانية الضئيلة التي لم تتجاوز المليون جنيه..
فقد تم نقل إقامة الوفود والضيوف من القرية الأوليمبية البعيدة إلى وسط مدينة الإسماعيلية لتكون قريبة مندور العرض ومواقع الأنشطة، وتم نقل العروض السينمائية من قصر ثقافة الإسماعيلية إلى مكان أكثر عملية وموائمة هو دار عرض بوسط المدينة، ليقتصر دور القصر على استضافة حفلي الافتتاح والختام والندوات النوعية.. والأخيرة في حد ذاتها تعد من إنجازات الإدارة الجديدة، حيث خرجت بالندوات من حيز مناقشة صناع الأفلام بعد العروض إلى آفاق نشر الثقافة السينمائية.
أما المهرجان القومي للسينما المصرية، فقد اختفى في ظروف غامضة منذ إلغائه العام الماضي بداعي ظروف الثورة، وكان من المفترض أن يُقام 26 أغسطس الماضي، لكن الموعد فات من دون أن يحدث شيء، وكأن المقصود أن يموت ببطء بسلاح الإهمال والتجاهل.. ونفس السلاح يهدد مهرجان القاهرة الدولي لسينما الأطفال، الذي من المفترض أن يقام في مارس المقبل ولا يعلم عنه أحد حتى الآن شيئا.
هذه هي الحرب وهؤلاء هم ضحاياها، وحتى المهرجانات التي أقيمت بالفعل تهددها الخلافات والصراعات، مثل تلك الدائرة في الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما – التي تقيم مهرجان الإسكندرية السينمائي – بين رئيسها ممدوح الليثي وباقي أعضاء مجلس الإدارة، ومثل الصراع بين جهتين على تنظيم مهرجان سينمائي في الأقصر.. وهناك حكم القضاء الإداري الذي يترقبه الجميع لحسم الصراع على مهرجان القاهرة، بعد أن تحولت وزارة الثقافة من شريكل لمؤسسة “رزق الله” في القضية إلى خصم لها، وسبحان مغير الأحوال.