“أمور شخصية”.. بلاغة شعرية في العمل الأول

أمير العمري

يثير الفيلم الأول للمخرجة الفلسطينية مها حاج الذي عرض في قسم “نظرة ما”بالدورة الـ69 بمهرجان كان السينمائي، التساؤل المتكرر حول هوية الفيلم، إلى ماذا يجب أن يُنسب، فإذا قيل إن فيلمنا هذا “إسرائيلي” الهوية، فإننا نكون قد ظلمناه ظلما وظلمنا مخرجته التي تعبّر بوضوح في فيلمها عن هويتها الفلسطينية.

وإذا قلنا ببساطة وبشكل قاطع إنه فيلم فلسطيني قلبا وقالبا، ينطق باللغة العربية، يصور شخصيات فلسطينية، لقيل لنا إن هناك أطرافا “إسرائيلية” أو تحمل الجنسية الإسرائيلية مشاركة في الفيلم وإنه حاصل على دعم من صندوق الدعم السينمائي الإسرائيلي، وهو بالمناسبة يدعم كل الأفلام التي تنتج داخل إسرائيل، بغض النظر عن توجهاتها الفكرية، وإن الهوية التي ترجع إلى ما يطلق عليه “أصل المنشأ” أو الدولة الرئيسية في الإنتاج، هي هوية إسرائيلية، وهو موضوع شائك يفرض نفسه باستمرار مع الأفلام التي يصنعها الفلسطينيون داخل فلسطين المحتلة.

يعبّر فيلم “أمور شخصية” ولو على نحو خافت، عن ذلك الإحساس المكتوم الداخلي، بالقهر، بالعجز عن التواصل، بفقدان الشهية للتماثل مع الواقع، وبالرغبة في صم الآذان عن حكايات الماضي، والحلم بالفرار إلى حيث الطبيعة المفتوحة، أو البحر المتّسع المطلّ على الدنيا..

هنا شخصيات تتحرك بدافع من التوتر العصبي الحاد الناتج عن تشابك المشاعر، ما بين الشعور بالملل من الحياة الزوجية الطويلة التي فقدت معناها بعد أن أصبحت محصورة في المكان والزمان دون حركة، أو من علاقات لا تتحقق، أو هجرة لا تحول بين المهاجر والحنين للوطن.

شخصيات مرتبكة

لدينا أولا الزوجان اللذان تقدم بهما العمر: صالح ونبيلة، الرجل يقضي يومه أمام شاشة الكمبيوتر يطالع المعلومات عن الكائنات المختلفة، والزوجة إما مشغولة في طهي الطعام أو مشاهدة المسلسلات. الاثنان لا يتبادلان سوى ما يلزم فقط من الكلمات، والابن طارق لا يتردد عليهما سوى نادرا بعد أن اختار الابتعاد عن منزل العائلة في الناصرة وذهب إلى الجانب الآخر، أي إلى رام الله في الضفة الغربية، والابنة حامل لكنها تتمتّع بطاقة هائلة وقوة شخصية تفرضها فرضا على زوجها الميكانيكي البدين الحالم بالخلاص من واقعه والذهاب إلى البحر الذي لم يره في حياته (في إشارة رمزية إلى عزلة الفلسطيني داخل بلاده).

كما تتشاجر مع شقيقها الذي يرتبط بعلاقة مع صديقتها ميساء، لكنه لا يريد أن يقطع على نفسه وعودا بالالتزام المتوقع منه، أما ميساء فهي شديدة الرفض لكل ما تشتم منه رائحة الذكورية الأبوية التي يمكن أن تصدر عن طارق ولو من دون أيّ قصد منه، وسيؤدي مجرد وصفه لها بكونها “صديقته”-لا خطيبته- إلى أزمة كبرى تقود إلى اعتقالهما من طرف قوات الأمن الإسرائيلية

أما الابن الثاني هشام، فقد فضل الابتعاد تماما عن الواقع بكليّته، وآثر الهجرة وبدء حياة جديدة في السويد. وهو يلح الآن على والديه لكي يقوما بزيارته، تارة بحجة قطع الملل، وتارة أخرى بدعوى أنه مريض.

أما الجدة العجوز التي يتصور الجميع أنها لم تعد تدرك من أمور الواقع شيئا، وأنها مجرد عجوز مخرفة تدمن تناول الحلوى رغم إصابتها بمرض السكري، فهي تفاجئنا بذاكرة حديدية مدهشة يمكنها استعادة تفاصيل من طفولتها مع والدها في فلسطين، كما تفاجئنا بقدرتها على هضم الحلوى والنهوض من الغيبوبة دونما حاجة إلى أيّ مساعدة طبية

الشخصيات تتحرك وتتحدث وتستخدم الإيماءات وتتشاجر معا، ولكن دون أن تكشف عن سرّ توترها، لكن الفيلم يمنحنا الإحساس بأنها جميعا تعاني من الإحساس بنوع من الحصار، من فقدان القدرة على رؤية المستقبل، بالرغبة في الإفلات من أسر الواقع. هل لهذا علاقة ما بالوجود قرب الآخر الإسرائيلي الذي يبيح لنفسه التعامل مع الجميع كما لو كانوا من المشتبه فيهم؟

زوج الابنة جورج، يعثر على عمل مؤقت للظهور في فيلم أميركي يجري تصويره في حيفا، ولكنه غالبا كما يتوقع الجميع، سيكون في دور إرهابي.. الصورة التقليدية للعربي أو الفلسطيني في الأفلام الأميركية، ولكنه يعتبرها فرصة للوصول إلى شاطئ البحر، وهناك يترك لنفسه العنان لمعانقة الماء بحيث ينسى تعهده بالظهور في الموعد المحدد في موقع التصوير حسب ما اشترطت المخرجة

أما طارق وميساء اللذان نكتشف قرب النهاية أنهما زميلان في ثنائي يرقص التانجو، فيتعرضان للاعتقال -كما ذكرت آنفا- وهما في طريقهما من رام الله إلى القدس، ويتم استجوابهما بعد أن يشك الإسرائيليون أنهما ذاهبان للقيام بعمل “إرهابي”

يعبّر كلاهما عن التعالي على الموقف بالرقص البديع داخل الحجز، كما تنتهي رحلة الثنائي العجوز صالح ونبيلة إلى السويد إلى تكثف الشعور بالعزلة في تلك البيئة التي تخلو من التواصل رغم جمال الطبيعة، ويدركان أن حياتهما معا في أرض الوطن هي الأبقى وهي التي تمنحهما الشعور بالألفة الإنسانية فيقرران العودة.

عن الأسلوب

مها حاج

هذا فيلم بليغ بلاغة الشعر، بسيط في أفكاره ولغته، تهتم مخرجته كثيرا بالصورة وتفاصيلها الثرية، تنتقل انتقالات محسوبة جيدا بين الشخصيات، لا تفلت منها الخيوط، تصف الشخصيات والأحداث في مسار أفقي أكثر ممّا تمنح الفيلم سياقا دراميا يسير رأسيا، نحو حبكة معقدة، وهو يذكرنا في الكثير من مشاهده وأسلوبه في بناء المشاهد وتعبيره الساخر عن الشخصيات، بأسلوب إيليا سليمان في “يد إلهية” و”الزمن الباقي”

تتفوق ميساء عبدالهادي التي تلعب دور شخصية فتاة متمردة على الخضوع للرجل، لكنها في الوقت نفسه ترغب في العلاقة مع الرجل الذي تحبه دون أن تظهر ضعفها تجاهه، تريد أن تدفع العلاقة طبقا لشروطها هي، تستنكر في لحظة من اللحظات، ما تتصوره ضعفا منه.

أو ترددا فتثور عليه. وهي تبدع في مشهد رقصة التانجو في غرفة المحبس التي يتركهما فيها رجال الأمن الإسرائيليون ويراقبون سلوكهما خلسة من وراء حاجز غير مرئي

ويتميز أيضا كلّ من إبراهيم وسناء شواهده واللذان قاما بدور صالح ونبيلة، الزوجان الصامتان اللذان يشعران بملل الحياة الزوجية، ويعتمد أداؤهما على تعبيرات الوجه أكثر من الحديث، رغم أنهما ليسا من الممثلين المحترفين. ويتماثل زياد بكري ببراعته المعهودة في دور طارق، وهو الممثل الذي اكتسب الكثير من الخبرة من فيلم إلى آخر. النتيجة أننا أمام فيلم يخفي أكثر مما يظهر، ويعبّر من دون صراخ بعيدا عن هستيريا الخطاب السياسي المباشر، عن المشاعر الفلسطينية المرتبكة.

Visited 26 times, 1 visit(s) today