من أفلام مهرجان الجزيرة: شهادات وعيون الحرية
في فيلمها الطويل -70 ق- “شهادات” قامت مي اسكندر باتباع استراتيجية بسيطة للغاية لعرض فكرتها حول وضع المرأة الحالي في المجتمع المصري خاصة في شريحة الشباب التي تنتمي إليها نسبة كبيرة من الفتيات الائي تعتبر “هبة عفيفي” محور الفيلم نموذجا لهن.
الإستراتيجية تكمن في اختيار نموذج مثل هبة بأبعادها الدرامية الواقعية من مستوى تعليمي جيد وثقافي مرتفع واجتماعي متوسط ومهنة تعكس احتكاك حقيقي وأكيد بالشارع وهي مهنة الصحافة, ثم تتابع مي نموذجها الانثوي عبر كاميرا بتكنيك الشخصنة او كانها شخص اخر يعايش هبة في البيت والعمل والسيارة واللحظات الخاصة متخذة وجهة نظر موضوعية بحتة تترك مساحة جيدة للمتلقي كي يتعرف على ملامح الشخصية الرئيسية وازماتها بالأضافة إلى توظيفها للقطات الواسعة والمتوسطة من أجل أن تظل الخلفية المجتمعية سياسية أو أسرية او مهنية جزء من عالم الشخصية والبيئة التي تتحرك فيها وتصارع ضدها من أجل تحقيق ذاتها.
أعفتنا المخرجة من وجود أي تعليق صوتي خارجي وإنما الشهادات التي تقصدها في عنوان الفيلم فهي تلك الاحاديث الأسرية والمهنية والذاتية التي تدور ما بين هبة واسرتها أو زملائها أو بينها وبين نفسها او حتى بينها وبين من تحاورهم من مواطنين اثناء تغطيتها الصحفية لمليونيات التحرير أو احداث المحافظات المشتعلة.
ثمة عفوية راقية وغير مصطنعة في تعامل الكاميرا مع هبة خاصة أن كلاهما-الكاميرا وهبة- لا يدريان عادة إلىما سوف ينتهي بهم اليوم من احداث في ظل مجتمع متقلب يعاني من انفلات أمنى وأوضاع غير مستقرة ونجد هذا في مشهد تغطيتها لاحداث الفتنة الطائفية عندما تازمت الامور وكاد زمامها ان ينفلت من قبضة الجيش الذي كان يحاول السيطرة على الأوضاع حيث يشعر المتلقي بالخطر الحقيقي الذي يحدق بتلك الفتاة الرقيقة اثناء تأديتها لعملها في ظل حالة هياج شعبي واحتقان طائفي واضح او في مشهد عودتها للمنزل ليلا فوق كوبري 6 اكتوبر والكاميرا معها في السيارة بينما تحدث أمها التي تبدو مذعورة وخائفة عليها من أي قلاقل امنية.
تنجح المخرجة هنا في الربط بين وضع هبة الاجتماعي ونظرة أسرتها لها ومدى نجاحها في عملها وبين الظروف الاجتماعية والسياسية التي تشكل في النهاية الضمير والوجدان الجمعي للمجتمع ككل وهو جوهر ازمات هبة او كما تصيغه امها في جمل متواترة حول رفضها لسفر هبة لتغطية اي احداث خارجية لمجرد أنها فتاة بينما هبة تصر على انها صحفية وليس مجرد فتاة وحتى لو كانت مجرد فتاة فماذا يمنع من ان تسافر وتعمل كما يعمل الرجال.
أزمة الفيلم تحديدا جاؤت في عنصرين الاول هو جلوس افراد اسرة هبة بالحجاب في المنزل نظرا وهو ما افقدنا الشعور بحميمية الاجواء الأسرية او عفويتها او بساطتها فبدت الأسرة متكلفة شكلا وملبسا نتيجة عملية التصوير داخل البيت كما بدت بعض المواقف ايضا داخل البيت اقرب لاعادة التمثيل أو البناء من أجل التصوير حيث بدت كثير من السجالات بين هبة وأمها واختها استعادة لاحاديث سابقة تمت في فترة ما من علاقتهم ولكنهم يحاولون استعادتها الأن امام الكاميرا.
كذلك جاءت نهاية الفيلم نموذجا للتشوش وفقدان الاتجاه وضياع بوصلة الموضوع، فالفيلم ليس عن الثورة ولا ما بعدها ولكنه عن كيان انثوي يمثل نموذجا لشرائح انثوية كثيرة فلا يوجد أذن منطق من أن تختم المخرجة فيلمها بكتابة لا نهائية على الشاشة تتحدث عن تطورات الوضع السياسي في مصر منذ المشهد الاخير الذي لا تزال تتجول فيه هبة في احد مليونات التحرير للحصول على شهادات المواطنين من أجل موضوع صحفي كانت هذه النهاية لهي اوقع واكثر فنية ومنطقية واتساقا مع الموضوع الذي كرست له المخرجة طاقتها طوال اكثر من ساعة ولكن ان يتحول الفيلم في النهاية إلى نشرة اخبار سريعة عن حال البلد من انتاخبات رئاسية وتخلي العسكر عن السلطة وصدام مع الاخوان فهذا لا شأن للفيلم به وليس هو نهاية الفيلم او ان أحدا سوف يطالب صناعه به ليس لانه معلوم وليس بجديد ولكن لانه خارج تماما عن اطار الفكرة والأسلوب والغرض الدرامي والحكاية التي تشكلت ابعادها عبر شخصية رائعة واختيارات ناضجة لمواقف حياتية ومهنية اعمق بكثير من مجرد كلام اخباري مرسل فشل في اكسابنا ذروة تليق بتجربة ممتعة وخاصة وذات رونق وثائقي ودرامي حقيقي.
عيون الحرية.. ثرثرة الموت
في فيلمهم السابق “18 يوم” لم يتمكن الأخوان سوني من تجاوز عشرات الأفلام التي قدمت عن ميدان التحرير والثمانية عشر يوما اللذان شكلا بدن الثورة المصرية والمادة الأساسية لأغلب الافلام او لنقل التجارب والمحاولات التي قدمت لرصدها وتتوثيقها واحيانا تحليلها.
وفي فيلم الجديد “عيون الحرية.. شارع الموت” ثمة هدفين اساسين يشتتان من جهود المخرجين الشابين الاول هو صناعة تجربة تحوي شهادات توثيقية لما حدث اثناء احداث محمد محمود الاولى في نوفمبر 2011 والثاني هو اثبات موقفهم السياسي ضد الشرطة والجيش وكل من “تآمر على الثورة والثوار” ولا يزال.
كلا الهدفين مشروعين لاي صانع فيلم سواء التوثيق او الاعلان عن الموقف ولكن الازمة تكمن في الاسلوب والوسيلة والقدرة او لنقل الرؤية، فالتوثيق يتم بالفعل خلال الفيلم عبر مادة ارشيفية واسعة من تصوير الأخوين أحمد ورمضان خلال الاحداث وبشكل لا شك تعرضا فيه للكثير من خطر الرصاص ومواجهة الغازات وهراوات الشرطة وخرطوشها, ولا شك انها مادة جيدة وموظفة في اطار توثيقي ناضج ومحكم على مستويات كثيرة كذلك فانه ثمة تقاطع مونتاجي جيد بين طبيعة المادة وبين شهادات من عاشوا الاحداث واستغرقوا فيها, كذلك ثمة توظيف للمادة كمعادل بصري للشهادات التي تم تصويرها عقب انتهاء الاحداث وتحول اسم الشارع على يد الثوار وفناني الجرافيتي إلى عيون الحرية نسبة إلى كم العيون التي فقأت نتيجة المواجهات بين الشرطة والثوار.
هذا فيما يخص التوثيق اما فيما يخص اعلان الموقف فقد تخبط صناع الفيلم في اعلان موقفهم خاصة مع التعليق الصوتي المستخدم والذي بدا شديد السذاجة والمراهقة السياسية وصبغته روح ساخرة لم تكن متسقة مع طبيعة التراجيديا والمآسي التي تعرض على الشاشة او يحكي عنها في الشهادات، كما ان الحديث بضمير جمع المتكلم على اعتبار ان المتظاهرين وصناع الفيلم جبهة واحدة لم يخلق موضوعية راقية بل أضر إلى حد ما بصدق الشهادات وحميميتها ونقائها الثوري خاصة ان التعليق الصوتي شابه الحنق والتوعد-ناهينا عن انه مكتوب بعامية ركيكة- وهو ما اشعرنا أن صوت المعلق هو شخص لم يظهر في الفيلم وكان الاولى ظهوره بدلا من خروجه علينا صوتيا بهذا الشكل السمج والسطحي.
وقد تنافر المستوى المتواضع للتعليق الصوتي مع المستوى الراقي والمؤثر للشهادات التي تم تنسيقها واتخاذ زاوية انسانية ثورية واضحة في عرضها حيث كانت الشهادات تتنوع بين الحديث عن موقف المتظاهرين والثوار في حمايتهم للميدان من اقتحام الشرطة وليس مهاجمة وزارة الداخلية بالأضافة إلى وجود العنصر الانساني المتمثل في الحديث عن المشاعر أو الشهداء او الجرحى وقد حافظ المخرجين على كلا العنصرين في اغلب الشهادات التي ضمها الفيلم عن الاحداث.
لا شك أن تجربة “عيون الحرية” أحد اهم التجارب التي استطاعت ان توثق أحداث محمد محمود أعتمادا على مشاركة فعلية ووجود حقيقي للكاميرا وسط الحدث وليس الاعتماد على ارشيف مجمع بنظام القص واللزق مثل كثير من الأفلام التسجيلية والتجارب التي ادعت انها ترغب في التوثيق أو تتخذ موقف من حدث لا يزال في طور التشكل والأفراز.