ملفات فينيسيا (10): “فرانكنشتاين” الجديد.. تحفة سينمائية
أمير العمري- فينيسيا
حسب المعلومات المتوفرة، قدمت رواية ماري شيلي الشهيرة “فرانكنشتاين” Frankenstein (1818) في السينما- في 422 فيلما روائيا طويلا، و192 فيلما قصيرا، و300 مسلسل تليفزيوني وحلقات تليفزيونية. وكان أول الأفلام التي ظهرت عن الرواية هو الفيلم القصير الذي أنتجته شركة توماس إديسون عام 1910(إخراج ج سيرل داولي) وقد تم إنقاذ هذا الفيلم واستعادته عام 1970. أما أول الأفلام الروائية الطويلة عن الرواية نفسها فهو الفيلم الذي ظهر عام 1915 بعنوان “حياة من دون روح” Life Without Soul ولم يكن يتجاوز أكثر من 70 دقيقة، وهو من إخراج جوزيف سميلي.
إن ما يمكن ملاحظته بوضوح هو أن ما أغوى صانعي الأفلام في هوليوود وغيرها، وجذبهم إلى تناول رواية ماري شيلي الخالدة، كان الجانب المثير الغامض الذي يلاءم أفلام الرعب، وهي من أكثر أنواع الأفلام رواجا في تاريخ السينما حتى يومنا هذا. هذا الجانب من الاهتمام، يختلف تماما عن الاهتمام بالرواية في الأوساط الأدبية والأكاديمية. فرواية ماري شيلي– حسب ما يقول هشام فهمي مترجم الرواية (طبعة دار التنوير- 2015)، هي نموذج للروايات القوطية.. والمقومات الأساسية لها هي الغموض والرعب والأشياء الخارقة للطبيعة. ثم يستدرك فيقول إن الرواية “أكثر من مجرد رواية رعب، فالشخصيتان الرئيسيتان فيها أي طالب العلم والمخلوق شبه البشري الذي يصنعه، مليئتان بالمركبات الأخلاقية والعاطفية والعقلية، ومن خلال صراعهما تطرح شيلي أسئلة عميقة عن العلم والمجتمع، وعن الجانبين الإيجابي والمدمر في الطبيعة الإنسانية”.

وفي ظني أن فيلم فنان السينما المكسيكي الكبير جييرمو ديلتورو “فرانكنشتاين” الذي عرض في المسابقة الرسمية للدورة الـ82 من مهرجان فينيسيا السينمائي، قد يكون هو أكثر ما ظهر من أفلام عن الرواية الشهيرة، طموحا من الناحية الفنية والبصرية والإبداعية (صوت وصورة وحركة وتكوينات مرئية وتصميم ديكورات وإيقاع وأداء تمثيلي وموسيقى)، ثم أكثرها عمقا وتعبيرا عن الرؤية الفلسفية للرواية وتجسيد الإشكاليات العديدة التي تطرحها وتكمن بين ثنايا الأحداث والصور والشخصيات. إنه بهذا المعنى سيمفونية بصرية ممتعة لمن يمتلك البصر والبصيرة والرغبة في التأمل والاستمتاع. وهو أيضا من فضائل منصة “نتفليكس” التي منحت المخرج 120 مليون دولار لتحقيق مشروعه القديم بكل مما أراد من إمكانيات.
إن كل شيء في هذا الفيلم محسوب بدقة، كل حركة وإيماءة ونظرة وزاوية للنظر والتلصص، محتارة بعناية، وكأن الفنان السينمائي رسم لقطاته وتخليها في ذهنه قبل أن يصممها ثم ينفذها ويشرف على توليفها معا من خلال المونتاج. نحن أمام رؤية بصرية مذهلة تعيد تجسيد كل محتويات الرواية العظيمة: السفينة التي تعطلت وانغرزت في الثلوج، القلعة الأسطورية، قاعة الدرس في الجامعة، القصر المجهول، الشيخ العجوز الذي يمنح الحكمة للكائن المخلوق، الذئاب التي تهاجم المنزل وتكاد تلتهم الشيخ، مشاهد الطبيعة الثلجية المذهلة التي تتلون بالأحمر القاني، لون الدم، الضباب الذي يغلف الصورة ويضفي عليها غموضا وسحرا، الانفجارات المدمرة التي تقضي على القلعة..
إلا أن “فرانكنشتاين” (2025) ليس مجرد استعراض فني للصور والأصوات، بل هو أساسا- حوار عميق ممتد بين الخالق والمخلوق، الخالق الذي أراد أن يحاكي حكمة ومهارة الصانع الأكبر، لكنه يصنع مخلوقا ناقصا، مشوها، كونه جمع أجزاء جسده من جثث ميتة بالفعل، دفع فيها الحياة عن طريق تيار أو طاقة غامضة في عصر ما قبل ظهور الكهرباء.

سيتعلم ذلك المخلوق المشوه الكلام تدريجيا. ولكن عندما يتسع وعيه ويبدأ في التفكير الأكثر عمقا، سيصبح مدركا لمأزقه الوجودي، ويتصاعد شعوره بمأزقه الوجودي. هذا المأزق الذي يتمثل أساسا، في أنه يعش حياة فارغة من المعنى، فهو يخيف الجميع ماعدا تلك الفتاة الجميلة البريئة “إليزابيث” (ميا غوث) خطيبة شقيق العالم “فيكتور فرانكنشتاين” (أوسكار أيزاك) التي ستصبح أكثر الناس قربا منه وشغفا به وإدراكا لمأساته.
وأما مأساة العيش عند هذا المخلوق المشوه، فهي أنه “لا يموت.. وفي الوقت نفسه، “لا يستطيع أن يعيش وحده”، وهي العبارة التي يرددها لصانعه في النهاية، أي أن خيط الحياة يبدو عنده لا نهائيا ومن دون أي معنى، فما معنى أن يخلق كائن شبه بشري لا يمكنه التعايش مع البشر، لن يستطيع أن يجد الرفيقة أو الحبيبة، وعندما يتخيل أنه قد عثر عليها في إليزابيث، تنتهي حياتها بالموت وهي تحاول الدفاع عنه أمام من أرادوا الفتك به.. إنه كائن كتب عليه أن يمضي وحده في حياة أبدية فارغة.

العلاقة بين الخالق ومخلوقه المعذب، تتجسد بكل دقة في الفيلم.. هي علاقة صراع، ونضال، من جانب المخلوق ضد خالقه الذي ارتكب خطأ كبيرا عندما جاء به إلى العالم من دون أي معرفة لما سيكون دوره، ومن جانب المخلوق الذي يلجأ إلى خالقه يريد أن يفهم منه مهمته في الحياة لكنه لا يفهم، فينشأ الغضب الشديد والرغبة العارمة في التدمير. ومع ذلك فهذا الكائن الذي يبدو ضخما وعملاقا وقبيحا تتغير صورته في الفيلم عندما يلتقي بإليزابيث ويلمس كيف أنها تتعامل معه برقة وود وحب. أما الشيخ الكفيف أو القس، فيدرك بحدسه أنه أمام كائن غريب، لكنه يرى أن جميع المخلوقات هم “أبناء الله”، فيحن عليه ويرعاه ويمنحه الحكمة ويفتح قلبه على الوعي، وبالتالي تصبح الصورة التي يريد الفيلم أن تصل إلينا هي أن كلا من الصانع والمصنوع، هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة، فكلاهما يملك الخير والشر معا.
سيناريو الفيلم ينقسم إلى مقدمة تبدأ في الحقيقة من النهاية أو قرب النهاية، أي من مشهد السفينة التي تنغرز في الثلوج وتعجز عن الحركة، ثم يلجأ إليها فيكتور فرانكنشتاين الذي يتحرك بزلاجة تجرها الكلاب مصابا في ساقه، يسير بصعوبة يحاول الهرب من مصيره.. ثم فصلين، الأول هو الفصل المخصص لفيكتور نفسه لكي يروى قصته على ربان السفينة ونعود معه لمشاهدة الأحداث من وجهة نظره، كشاب مصاب الغرور الشديد والإيمان بقدراته الخاصة الخارقة على ابتكار ما لم يبتكره أحد من قبل أي تحدي الخالق الأعظم، ثم الفصل الثاني المخصص لرواية المخلوق الذي يصل إلى السفينة متحديا كل العوائق صامدا أمام الرصاص الذي لا يخترق جسده ولا يقتله فهو محصن ضد الموت فقد خلق من الجثث الميتة أصلا، فهو يروي قصته على ربان السفينة كما خبرها وعاشها. فهو هنا إذن يصبح لديه القدرة مثل الإنسان “الطبيعي” على استرجاع الذاكرة والتوقف أمام الألم الشخصي والتعبير عن أحزانه. هنا يتخلص الفيلم تماما من سمة الرعب وإثارة الفزع، ويصبح مبارزة ممتعة بين “عقلين”: عقل الصانع الذي يشعر بالذنب، وعقل المصنوع الذي يشعر بمأزقه الوجودي السرمدي.
الفيلم يطرح من خلال رؤية جريئة إشكالية العلاقة بين الخالق والمخلوق، والعلاقة بين الإنسان والطبيعة، والنظرة إلى العلم، وغرور العلماء، وكيف يمكن أن يتسبب ابتكار علمي جديد طموح في التدمير (تدمير القلعة يرمز لتدمير العالم)، كما يمكن أن يتسبب في تشويه صورة الإنسان، وترك ذلك “الاختراع” وراءه يملأ العالم رعبا. ومع ذلك فنحن لا نرى أن مخلوق فرانكنشتاين في هذا الفيلم كائنا بشعا مخيفا شريرا، بل هو أولا وأخيرا، ضحية غرور صانعه وثقته اللانهائية بنفسه، وسيمر بعض الوقت قبل أن يكتشف حقيقة عجزه عن مضاهاة الخلق، فيصب جام غضبه على مخلوقه ويحاول تدميره ولكن دون جدوى.

إن ديلتورو ينجح في تحويل المشاعر التي تنتج عن النص الأدبي إلى صورة حية نابضة بالحياة، تصدمنا بجمالها وقبحها، برونقها وقسوتها، بنعومتها وغرابتها. ويمكن أن يلمس المشاهد كيف يعبر عن مشاعر كتلك التي تصفها ماري شيلي نفسها في تقديمها للطبعة الثالثة من روايتها حينما كتبت تقول: “خيالي وحده أرشدني وجمح بي حاملا الصور المتتابعة التي استيقظت في عقلي بوضوح غير عادي، ورأيت بعينين مغلقتين وعقل يقظ- تلميذا لفنون سوداء ملعونة يركع إلى جوار الشيء الذي جمع أجزاءه، رأيت الصورة البشعة لرجل ممدد ثم تعمل محركات قوية فتدب فيه الحياة ويتحرك حركة متشنجة، لابد أنه مشهد مخيف، لكن المخيف أكثر أن يحاول أي إنسان أن يهزأ بالآلية المذهلة التي يعمل بها الكون بإرادة خالقه. يرى الفنان نجاحه فيصاب بالرعب، سيفر من عمل يديه البشع، بقلب راجف، سيأمل أن تنطفأ شرارة الحياة التي أشعلها، سيأمل أن يموت الشيء الذي تحرك، وقد ينام مؤمنا بأن صمت القبر سيخمد إلى الأبد، الوجود العابر في الجثة الشوهاء التي اعتبرها في البداية مهد الحياة، ينام لكنه يستيقظ ليرى الشيء البشع واقفا إلى جوار فراشه، يزيح الستار ويرمقه بعينين صفراوين دامعتين يبدو فيهما توسل ما”.
لم يكن تجسيد الخيال في مثل تلك الأجواء الصقيعية والمتجمدة، والانتقال من الظلمة إلى النور، ومن الداخل إلى الخارج، وتصوير مشاهد الانفجارات الهائلة، ممكنا سوى بقدرة فنان سينمائي كبير، هو مدير التصوير دان لاوستن، مع توليد المشاعر المختلفة وتجسيد التناقض بين الشخصيات بواسطة التصميم الخاص المتميز للملابس الذي صنعته بعبقرية كيت هاولي التي منحت كل شخصية طابعها الخاص، فإليزابيث مثلا ترتدي ملابس تبرز قوة شخصيتها واهتماماتها الجدية رغم حداثة عمرها، وفيكتور فرانكنشتاين يرتدي ملابس تظهر استهتاره بالتقاليد السائدة، ونزعته المتمردة على تقاليد الجامعات في عصره، وملابس المخلوق تجعله في صورة الضحية ولكنها تخفي تحتها (تحت قلنسوة الرأس مثلا) غضبا وعنفا يجد متنفسا للتعبير عنه اقتضي الأمر. والصور كلها تكتسب أبعادا أعمق واقوى في تأثيرها مع موسيقى الفرنسي ألكسندر ديسبلات الأوركسترالية المدهشة التي تصنع أجواء قوطية شديدة الخصوصية لا تشبه غيرها.

ولعل من الخصائص التي منحت الفيلم تأثيره الكبير، أن جييرمو ديلتورو لم يلجأ إلى برامج توليد الصور CGI من برامج الكومبيوتر ولا إلى الذكاء الاصطناعي، بل اعتمد على تشييد ديكورات هائلة طبيعية بالحجم الطبيعي، كونه أراد أن يشعر المشاهد، ويلمس بشكل مباشر، طبيعة الأماكن الغريبة، والمختبرات الغريبة والقصور والكنيسة والقلعة والسفينة، وكلها ديكورات صممت طبقا لتصورات ديلتورو واختياره لألوانها. ومن أهم الديكورات ذلك المكان الخاص الذي حبس فيه كائنه العملاق بعد ان تبين مدى خطورته، ووضع سلسلة حديدية في قدميه، بحيث يحدد مدى حركته، وفي هذا المكان سيكتشف الكائن المخلوق الماء والأزهار. وعندما تكتشف إليزابيث وجوده وتقابله سيمنحها إحدى وريقات الزهور في مشهد خلاب. لقد حول ديلتورو قصة الرعب والاختراع الخطأ، إلى أوبرا رومانسية تفيض بالألوان والحركة والسحر والموسيقى والجمال.
أوسكار أيزاك يعبر عن العالم الشاب الذي يتحدى عصره، ثم يسقط ضحية غروره، فيصبح هو نفسه كائنا مكسورا يستحق الشفقة، كونه لا يمكنه التكفير عن خطأه. لقد كان مدفوعا بالأنانية والرغبة في الاستحواذ: أراد أن يستحوذ لنفسه على خطيبة شقيقه إليزابيث، ثم قتل عمها تاجر السلاح الجشع “هنريش هالاندر” (الذي يقوم بدوره كريشتوف فالتز) والذي كان يطمع في استغلال “الاختراع” الجديد لاستخدامه كسلاح وبالتالي تحقيق أرباح، أي أنه نموذج للجشع الرأسمالي الذي نشا في عصر الثورة العلمية والصناعية.. وهو شخصية لا وجود لها في رواية ماري شيلي.

ويمنح الممثل الأسترالي جيكوب إلرودي شخصية مخلوق فرانكنشتاين أبعاد الكائن المأساوي، الذي تنظر إلى عينيه فتلمح فيهما حزنا عميقا وخوفا من المجهول الذي ينتظره، ومن العالم الذي وجد نفسه فيه على غير إرادته وغير اختياره بل، على تلك الصورة المشوهة التي تخيف الآخرين وتصيبهم بالرعب. إننا لن نراه هنا يحمل طفلة صغيرة ثم يلقي بها في مياه النهر دون اكتراث، كونه لا يدرك مغبة فعلته، بل سنرى كيف أنه يتعلم أن يغفر أيضا لصانعه في النهاية، ويتسامح ويمضي في طريقه ليدفع السفينة التي جنحت وانغرزت في جبال الثلج، إلى أن يخلصها ويعيدها إلى مسارها الأول، قبل أن يمضي هو إلى مصيره الغامض.
في المؤتمر الصحفي الذي عقد في مهرجان فينيسيا لمناقشة الفيلم صرح المخرج ديلتورو بأن فيلمه ” عن الرحمة، والحب، وفهم الآخر في زمن “الخوف الطبيعي” وليس نقدا لعصر الذكاء الاصطناعي”.. والفيلم أخيرا، وفي رأيي المتواضع، تحفة بصرية وسينمائية، لابد أن تصبح مستقبلا إحدى كلاسيكيات السينما.
