“ملحمة بوهيمية”: صعود فريدي ميركوري وكيف سار نحو الموت
اختار صناع فيلم “ملحمة بوهيمية” Bohemian Rhapsody الذي يروي سيرة مغني الروك البريطاني “فريدي ميركوري”، أن يبدأ الفيلم وينتهي من حفلة فرقة “كوين” Queenفي ملعب ويمبلي عام 1985، ذلك الحفل الذي نظمته إذاعة Live Aidلصالح ضحايا المجاعة في أفريقيا، وشهد الظهور الأسطوري لـ فريدي ميركوري مغني الفرقة الرئيسي، وعلى الرغم من أن حياته امتدت لعام 1991 إلى أن الفيلم أعتبرها لحظة الذروة، وكل ما تلاها لا يستحق أكثر من سطور قليلة قبل ظهور تترات الفيلم، أما ما قبلها فهو تمهيد طويل لظهوره أمام الملايين في ويمبلي أو على شاشات التليفزيون.
ليس من المكن اعتبار الفيلم سردا لحياة المغني البريطاني “فريدي ميركوري” بقدر ما هو رؤية أعضاء فرقة “كوين” لحياة زميلهم الأسطورة، فجاءت الحكاية بتفاصيلها من الخارج دون أن ننفذ إلى داخل شخصية ميركوري شديدة التعقيد، مما أضاع فرصة ذهبية لكي نعرف سره الذي ظل حبيسا طوال السنوات الماضية.
أضف إلى ذلك أننا شاهدنا رجلا يرتدي زي طاووس مزهوا بذاته، وكأن حياته أشبه بعرض مسرحي طويل دون فواصل، وكانت النتيجة قلة عدد المشاهد المفعمة بالمشاعر. في المقابل هناك المزيد والمزيد من الأغاني والعروض الموسيقية مع مشاهد تستعرض ميركوري فخورا بنفسه ومنطلقا، مع أن أي شخص تضع أمامه مجموعة من الحقائق عن فاروق بولسارا أو “فريدي” فيما بعد، سيقول لك أن هذا الشخص تركيبة معقدة وليست كما تبدو على الإطلاق، ناهيك عن كلمات الأغاني التي كان يؤلفها لفرقة “كوين” خاصة الأغنية التي حمل الفيلم اسمها.
تكوين الشخصية
أظهر الفيلم شخصية ميركوري كشاب متحمس وصاحب ذكاء حاد، قيادي بالفطرة، طموح وموهوب على نحو خاص، مليئ بالطاقة على المسرح وخارجه، لدرجة إنه أصبح معروفا ضمنيا بأنه قائد فرقة كوين دون أن يقول هو ذلك أو أحد أعضاء الفرقة، كما أن ملابسه الغريبة والملفتة أظهرته كشخصية محبة للاستعراض والتمرد على كل التقاليد، بالإضافة إلى قدرته على تجاوز السخرية من تركيبته عموما وشكل أسنانه خصوصا وتحويل دفة الحوار إلى دون أن يتيح الفرصة لأحد أن يسخر منه.
في المقابل رأينا كم يبدو “فريدي” ساذجا وسطحيا ومتعجرفا، وميالا للمرح بشكل مبالغ فيه. ورغم ذلك نشعر بعدم الارتياح، كأن هناك شيئا ناقصا، ومع مرور أحداث الفيلم وحتى النهاية ندرك أن هناك نوعا من الخداع، فالملصق الدعائي للفيلم “الأفيش” يبشرنا بأننا سنشاهد قصة فريدي، لكن بدلا من ذلك نرى وجهة نظر أصدقائه فيه، فالرؤية السطحية لعلاقة فريدي بوالديه المحافظين، لم تكن لتظهر كذلك لولا إنها جاءت من أشخاص لا يعرفون الكثير عن العائلة، فاختصروا كل ما له علاقة بهذه الأسرة، أي إن فريدي كان على خلاف معهم، وهم لم يعجبهم على الإطلاق عمله كمغني إلا عند عرض ويمبلي، الذي نال إعجاب الملايين حول العالم.
ليس هذا فقط، فالسنوات التي تلت انفصال فريدي عن الفرقة لكي يغني منفردا، لم نعرف عنها شيئا من حيث نشاطه، بل على العكس رأينا شخصا ضائعا، يقيم الحفلات الصاخبة، ويخضع بشكل غريب لسيطرة شريكه “بول”، الذي تعمد عزله عن أعضاء فرقته وحبيبته السابقة ماري وعن مدير أعماله، دون أن يدرك فريدي ذلك، بل من خلال عتاب “ماري” له على عدم استجابته لمكالمات هاتفية تلح عليه الانضمام للفرقة في الحفل لصالح ضحايا المجاعة في أفريقيا.
كان المونتاج اللاهث لهذا الفيلم سببا من أسباب تبني وجهة نظر أعضاء الفرقة: براين ماي وروجر تايلور، لم يكن لدينا فرصة لكي نستوعب مراحل حياته، بل كنا نركض خلفه لاهثين من سرعة المشاهد، جلسات العمل، التسجيل، الحفلات، الجوالات الغنائية، الاجتماعات والحفلات الصاخبة، حتى وجدنا أنفسنا قرب نهاية الفيلم أمام حقيقة إصابة فريدي بمرض نقص المناعة وإنه على مشارف الموت، وعليه أن يستعد لحفلة ويمبلي رغم متاعبه، كما اختصرت علاقته بعائلته في مشاهد قليلة مبتورة، لكن النقطة الإيجابية الوحيدة هنا كانت الخط الدرامي الذي سرد قصة الحب بين فريدي وماري، كانت مشاهدهما من اللحظات الإنسانية التي يمكن أن نصدق إنها في حياة فريدي، جميلة وناعمة، وتقول الكثير عن شخصيته بعيدا عن الفرقة والحفلات.
مثلت علاقة “فريدي” و “ماري” كل ما كان يبحث عنه في حياته، خاصة في مرحلة النضج، أنقذته من الوحدة، وقدمت له الحب والدعم الغير مشروط، وجاء تصريحه بميوله الجنسية كخط فاصل عن ما سبق من علاقتهما كشريكين أو زوجين، إلى صديقين مقربين، ومن المشاهد التي تعلق في الذاكرة، مشهد انفصالهما، وكلماته القليلة التي اختارها لكي يطلعها على تغير مشاعره، ومع ذلك يرغب في أن تستمر في حياته لإن كل منهما يؤمن بالآخر، لكن “ماري” رأت إن حياة “فريدي” ستكون صعبة جدا، وهو ما كان!
لعب الفيلم على “ثيمة” صعود شاب موهوب من أسفل السلم الاجتماعي إلى أعلى، وكان حريصا على إظهار الفارق بين ملابس شاب ينتمي إلى أسرة مهاجرة فقيرة في لندن، يعمل حمالا، وبين موسيقي مشهور يهوي الاستعراض ويرتدي ملابس غريبة باهظة الثمن، ويمتلك منزل واسع بحجرات متعددة رغم إنه يعيش بمفرده تقريبا، فيقرر أن يمنح كل واحدة من قططه غرفة، ويدعو عشرات الأشخاص إلى حفلات صاخبة في منزله، ويوزع عليهم الأموال كهدايا!
عن العنوان والممثل
لكن لماذا اختير عنوان أغنية Bohemian Rhapsody ليكون هو نفسه عنوان الفيلم؟
كانت أغنية “ملحمة بوهيمية” التي كتبها فريدي ميركوري ضمن ألبوم “ليلة في دار الأوبرا” الذي أنتج عام 1975، مدتها أكثر من 6 دقائق، وهي واحدة من أشهر أغاني فرقة “كوين”، ومازالت مصنفة ضمن أفضل الأغاني على الإطلاق، وبالنسبة لفيلم يسرد قصة صعود فريدي ميركوري، فهي تعبر كثيرا عن تشابك المشاعر وتعقيدها داخل روحه، فالأغنية تتحدث عن رجل يسير إلى الموت بعد ارتكابه جريمة قتل لكنه “مجرد صبي مسكين لا أحد يحبه، من عائلة فقيرة”، لكن في المقابل يرغب في الخروج والذهاب بعيدا، و”لاشيء يعنيه سواء أحبه الناس أو بصقوا في وجهه”، وبالنسبة لحياة شخص مثل فريدي ربما نفهم أنه يعاني بسبب كونه من عائلة فقيرة محافظة ترفض تمرده، ومهاجرة في مجتمع عنصري، بالإضافة إلى إنه مثلي في زمن لم يكن هناك من يتقبل المثلية بل على العكس، وشهرته والمال الذي يمتلكه لم يغير شيئا من شعوره بأنه مازال مسكينا وفقيرا، يحاول أن يكون شجاعا يظهر كذبا بأنه غير مكترث بنظرة الناس له، سواء أحبوه أو كرهوه!
حصل الممثل الأمريكي من أصل مصري “رامي مالك” على جائزة “جولدن جلوب” كأحسن ممثل في دور رئيسي، عن أدائه لشخصية فريدي ميركوري، وهو فوز مستحق-في رأيي، ليس فقط للمجهود المبذول لمحاكاة أداء ميركوري الحماسي على المسرح، لكن لجرأة اختياره أداء الشخصية بالأساس، فهي معقدة للغاية، حتى وإن كان السيناريو تناولها بسطحية بناء على رؤية أعضاء الفرقة خاصة براين ماي وروجر تايلور، فتجسيد شخصية موسيقي ومؤلف أغاني مولود في تنزانيا لأبوين من الهند، هاجرا فيما بعد إلى بريطانيا، مثلي الجنس، متمردا وصاخبا في الظاهر، ويخفي تعقيدات داخلية لم يفصح عنها صراحة، ليس بالأمر السهل، كما إنها مسؤولية بالنظر إلى مشوار مالك الذي مازال في بداياته، لكن السؤال الأهم هنا: إلى أي مدى يمكن أن يُعلي الأداء التمثيلي المتميز من قيمة الفيلم؟ أعتقد إن الأداء التمثيلي أضاف الكثير لقيمة الفيلم، وبدون أداء رامي مالك كان من الصعب أن يتم الالتفات إلى الفيلم بالأساس.
على الرغم من رواية القصة من وجهة نظر آخرين، لكن أداء رامي مالك والأغاني التي تخللت الفيلم جعلته فيلما مسليا وممتعا، كما فتح نافذة للبحث عن فريدي ميركوري، بالإضافة إلى النهاية المدهشة التي تحدث فيها “فريدي” بشجاعة عن إصابته بمرض نقص المناعة قائلا: “ليس لدي وقت لأكون ضحيتهم، ولد ملصق الإيدز، لا.. أنا أقرر من أكون.. سأكون ما ولدت لأكون عليه.. مغني يعطي الناس ما يريدونه”!