ملامح الاغتراب والعزلة في السينما الحقيقية

الفن الحقيقي في  السينما، هو فن مأزوم، علي أكثر من مستوي، فأولا هناك حالة من العزلة الجماهيرية العريضة يعيشها هذا الفن، بجانب نخبويته وانفصال الفنان السينمائي الحقيقي عن المجتمع، ويعبر عن المقال عن ذلك عبر منهاجية علمية للتاريخية الاجتماعية، وثانياً التحليل الثنائي لعلاقة الفنون بالمجتمع وذلك علي المستوي العام للفنون وليس السينما فقط، ثم مستوي الاغتراب الداخلي للفن السينمائي الحقيقي نفسه، نتيجة لمحاولاته الدؤوبة الاقتراب من الحقيقة البائسة لعالمنا، وذلك عبر المدخل الماركسي لعلم الجمال والفن، ونقده بالفكر النيتشوي من باب العدمية.  ثم طبقية الفن، وأخيرا ايجابيات الفن الحقيقي في السينما علي مستويين. وهو ما يحاول المقال شرحه في السياق التالي.  

عزلة السينما العظيمة

الفن الحقيقي في السينما والذي يمثله تيار من المخرجين الكبار والفنانين العظام، يعاني من عزلة جماهيرية فهناك عدد قليل من الافراد يتابعونه، وذلك لأنه يكشف عن حقيقة العالم المعاصر البائسة، من قبح المجتمع والحضارة المعاصرة الصناعية الرأسمالية البشعة، بما فيها من مراكز صناعية كئيبة ومدن مزدحة قذرة، وتحول الانسان الي كائن استهلاكي تسطير عليه قوانين لا تعرف الرحمة، وهناك كثير من الأفلام تتحدث عن هذا الجمود الانساني. ويقابل الجمهور العريض من المجتمع هذا الفن الجاد والحقيقي بالازدراء والاحتقار، أو يقابله بالتجاهل وعدم الاكتراث، مما يؤثر علي عظمة الفن السينمائي وميله الي الانسحاب التدريجي، ووجود حالة من اللاجدوي تجاهه.

هذا التجاهل والانفصال يحدث لأن الانسان لا يمكنه أن يتحمل مواجهة الحقيقة، ورؤيتها بصريا علي الشاشة، وخاصة ان تكون الحقيقة قاسية وتعبر عن دواخله البائسة والعدمية، فهو يهرب دائما منها، ويحتاج الي السينما لكي يشعر معها بالراحة والمتعة  والتسلية فكيف أن يجده بؤسه متجسدا أمامه في لقطاته مشهدية. يعايشها مرة أخري ويتأمل تفاصيلها، ليشعر بالحزن والحسرة، فالانسان كائن هروبي يبحث عن السعادة والمتعة دون المعاناة والألم والحزن. فهو دائما يهرب من الفن الحقيقي في السينما مهما كلفه الأمر.

عزلة الفنون

هذه السمة الانفصالية والانعزالية للفنان السنيمائي الحقيقي، تأتي في اطار السمة الانعزالية للفنان بوجه عام، والذي يشهدها العالم ذلك خلال القرنين الماضيين، حيث حدث تغير ضخم في مركز الفنان في المجتمع، فقد اخذ يزداد انفصالا عن بقية مجتمعه، واصبح ينظر الي نفسه علي أنه مميز عن الباقين، بفضل قدراته الخلاقة أو عبقريته، وفضلا عن ذلك فإن نشاطه الابداعي اصبح منفصلا عن الوظائف الأخري للمجتمع، وذلك لاسباب التي ذكرت اعلاه حول قباحة المجتمع الحديث الصناعي. وذلك بعد ان كان الفنان عضوياً في المجتمع، ومشتركا في كل ابعاده الاجتماعية والدينية، خلال القرون السابقة قبل القرن التاسع عشر، اصبح كائنا مغتربا عنه، خارجه من لحمه وتفاعلاته الحيوية، يعاني الفنان من ذاتوية فردية حزينةـ تبحث عن المجتمع مرة أخري دون جدوي.

عزلة المشاهد

 ونتيجة لهذه السمة الانعزالية للفنان العظيم للسينما، سنجد ان المشهدية هي لذاتها، هي فن ذاتوي، داخلي فمن يهتم به يجد نفسه نخبوياً، و يحمل كبتا يعبر عن وحدته وعزلته البرادة تجاه هذا الفن العظيم،  فهو يريد مشاركة الجميع هذا الفن الحقيقي، ويحادث نفسه دائما عن ذلك، كأنه يسير في الطرقات والمقاهي ليناقش افكار هذه الافلام علي الجالسين والسائرين، ولكن لا احد يسمعه مطلقا، هذا كبتاً يجعله يشعر بالاكتئاب والعزلة الكلية.

فالفن الحقيقي يسيطر علي متذوقه كل السيطرة لأن هذه السينما تهدف الي تنوعات مختلفة من خطابات المتعة وخطابات اللذة، بمستوياتها المتعددة، بعيدا عن هدف التسلية وقضاء وقت الفراغ، و بعيدا ايضا عن التماهي مع فن تجاري، لأن هذا الفن الأخير هو فن وقتي لا يترك اثرا علي المشاهد، كما يفعل الفن الحقيقي للسينما.

الاغتراب المضاد الاكتئابي

رؤية الحقيقة

رغم أن المخرجين العظام اصحاب الفن الحقيقي مثل بيلاتار المجري، وبرجمان السويدي، وتاركوفسكي الروسي، هم اصحاب الفن الطليعي أو الفن اليساري بمعناه الجمالي والفني، والذي يعني ماركسيته الجادة وميله لازالة اغتراب الانسان عن التشيؤ وصناعية الفن والحياة والابتذال العام والتذوقي، الا أن ذلك يؤدي الي حياة اغترابية وتذوق جمالي اغترابي، وهو ما اسميه الاغتراب المضاد الاكتئابي، لان السلام الداخلي يفقد لأن الفرد يري الحقيقة بعينها دون تفاعل جماهيري عريض وصلب واتحادي الوعي والفعل.

أنطونيوني وبرجمان

هذه الاكتئابية النفسية نتيجة ارهاق بصري وفكري حقيقي وجاد، أتي بالتضاد في الهدف والرسالة السامية له، حيث فقد هدفه بإزالة الاغتراب وتحول إلي بعد مرضي كبير، هذه الشرنقة، التي يعيش فيها المشاهد الجاد، هي تخوف نيتشوي من الاقتراب من الحقيقة، حيث يكون الانسان في درجان الجنون، وهذا ما حدث مع نيتشة نفسه.

 هناك غلاف فكري وحضاري يعيش الفن الحقيقي للسينما فيه، هو اكتئابي عدمي ايضا، حيث مفردات الحداثة المكونة من التشيؤ والفوضي الذهنية والفكرية وفقدان الانسان لمركزيته في المجتمع وفي حركة التاريخ، وبالاضافة الي الطبيعة الروتينية والصناعية المبتذلة للحضارة العالمية،  وذلك ينعكس علي وعي الفنان السينمائي الحقيقي حيث يحدث اغتراب وعزلة لوعيه، وعلي منتجاته السينمائية .

الطبقية والاغتراب السينمائي

الجماهير العريضة والتي يمثل اغلبها تراتيبة طبقية فقيرة ومتوسطة الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية والمعيشية، تشعر بالاغتراب تجاه الفن الحقيقي للسينما، لأنها لا تمتلك ادوات الانتاج السينمائي، لأن الفن براجوزي رأسمالي حتي لو كان فلسفي، لانه يحتاج الي حياة ارستقراطية الي حد ما، ومحددات ثقافية نخبوية، حتي لو كانت هذه السينما تعبر عن الفئات المهمشة والمعاناة والفقر. وهناك اراء ماركسية تطالب هذه الجماهير العريضة التي تمثلها الثقافة البروليتارية بأن تثور وتكون لها ثقافتها الخاصة في الفن، وان تستقل عن الثقافة البرجوازية، وهذا يخلق استحالة فنية متبادلة بين هذه الجماهير والسينما الحقيقية، لوجود اسباب كثيرة تؤكد استحالة ذلك فيقول تروتسكي المفكر الماركسي  أن البرجوازية في أدوات الإنتاج المادية والذهبية داخل المجتمع الأقطاعي قبل قرون من وصولها إلى السلطة السياسية. وكانت تملك الظروف والكثرة الضرورية لنمو وازدهار الفن.

أما ظروف الطبقة العاملة عند إستيلائها على الحكم فكانت مختلفة تماماً، فهى لم تملك في أي وقت أدوات الإنتاج المادي والذهني في المجتمع القديم، وخرجت من ذلك المجتمع مستغلة وغير متعلمة وفي حالة فقر ثقافي شديد، ولذلك فلم يكن هناك سبيل لأن تدشن الطبقة العاملة علي الفور مرحلة جديدة في تطور الثقافة البشرية، تصل البروليتاريا للحكم وهى فى حالة جهل بالتراث الفني والأدبي، ولذا فمطالبتها بأن ترفض التراث للبرجوازية ليس له معني. أن مهمة البروليتاريا هي إستيعاب ذلك التراث والتفاعل معه ومن خلال ذلك تجاوزه، ومهمة الثورة ليست خلق ثقافة جديدة لكن الإستيعاب النقدي للثقافة الموجودة ونقلها للجماهير.

قوة الفن السينمائي الحقيقي

ذكرنا فيما سبق نقديا حالات الاغتراب والعزلة للفن السينمائي العظيم، وذلك عبر علاقته بالمجتمع، والجماهير العريضة، ثم علاقته بالحقيقة ثم بالملامح الحضارية، وكل ذلك كان به من البعد النقدي السلبي بما يكفي، لوجود ازمات في جدوي هذا الفن العظيم، وتحقيق اهدافه، وهذه الابعاد هي ابعاد مادية صلبة، بها كثير من الاصطدام والحتمية، ترفض الفن العظيم، وهو اشار اليه افلاطون وكان حديثه حول الفن، “فهو يرى ضرورة طرد الشعراء والفنانين من المدينة، لأنه يرى أن الفن يقلد الطبيعة، التي هي مجموعة أشباح وظلال كاذبة للعالم المعقول، فعمل الفنان محاكاة للشيء المقلد”.

ويحاول المقال في الجزء التالي، عرض بعدين إيجابيين للفن الحقيقي، يؤكدان علي أصالة حقيقتها، وعلي خطابه الخاص، واستمراريته في الفعل الجمالي، والفعل الاجتماعي، فهو مستمر ولديه تأثير ملحوط كفن من الفنون، حيث يعتبر الفن السينمائي لديه قواعده الخاصة التي تدل علي خصوصيته وحيويته.

 الا أن السينما في ذاتها، هي جماليات وبها فن يفعل الانسان ويستمد منها حيويته، وبها كثير من الجوانب الايجابية، فالمقصد النقدي هنا هو الحكم علي السينما باعتباره عمل فني من خلال قيمته الجمالية. فهناك كثير من الاعماق السينمائية التي تستحق التأمل والمشاهدة.

وهناك آراء عدة، لبعض الفلاسفة تؤكد الاستقلالية الجمالية للعمل الفني، منهم الفيلسوف الالماني كارل ماركس، حيث أذعن لوجود نوع من الخاصة الكلية أو اللا زمنية في الفن. ولأن القطع الفنية التي أنتجت في أشكال اجتماعية عفا عليها الزمن من الممكن أن تظل تمنحنا متعة جمالية، وتظل أيضًا معيارا ومثلاً أعلى. وفي كتاب “الأدب والثورة” يسلم الفيلسوف الماركسي ليون تروتسكي في معرض جداله مع المدرسة الشكلية الروسية، بأن للفن مبادئه وقواعده الخاصة، قائلاً أن: “الإبداع الفني تغيير وتحويل للواقع وفقًا لقوانين الفن الخاصة”.

بيلا تار

ومن جانبه يؤكد الفيلسوف المجري جورج لوكاتش أن المجتمع وجدله التاريخيينعكس داخل بنية العمل الفنيويتحور ليلائم مقاييس جمال العمل الفني وهنايتضح تأثر لوكاتش الواضح بهيجل من خلال مقولة الكلية أو الجوهر الكلي،فالعمل الواقعيالحقيقييستقل بذاته من خلال انعكاس الجوهر الكليللواقع داخل بنية العمل الفني.

تثوير السينما والتناقضات

رغم معاناة الفن السينمائي الحقيقي من عدة تناقضات مرتبطة بعزلته واغترابه كما ذكرنا اعلاه في المقال، إلا أن قواعده الخاصة الفنية تسعي دائما لتثوير هذه التناقضات والتفاعل معها، والخروج منها بمساحات من الاستفادة، مثل قدرة الجماهير العريضة التي لا تملك ادوات انتاج هذا الفن، علي التفاعل معه والدخول في عالمه، فهناك بعض المخرجين والفنانين الذين كانوا يعيشون ضمن طبقة فقيرة، دخلوا السينما وانتجوا اعمال تعبر عنهم وعن معاناة هذه الجماهير العريضة، ومنها مثال السينما الافريقية، فكثير من مخرجين الافلام عانوا في مسيرتهم الفنية.

وايضا فيما يتعلق بوصول المشاهد الي حالة اكئتاب عندما يشاهد الفن الحقيقي للسينما، فهناك جوانب معرفية قد حصل عليها متعلقة بمسائل الحقيقة في الحياة، من موت وحب، وعلاقات اجتماعية، ومخالفة القانون وعلاقة السلطة بالمجتمع والافراد، وايضا مع مرور الوقت، يستطيع المشاهد التخلص من هذه الحالة الاكتئابية وتجاوزها، وذلك باستيعاب البعد المعرفي المكثف، والسيطرة عليه، وتحديد تأثيره، بجانب ان المشاهد في هذا العالم السينمائي الحقيقي يعيش حالة انسانية راقية، تجعله اكثر انسانية واخلاقية، ليرتقي الي السماء، ويبعد عن شر الأرض، فهذا الجانب الايجابي يكفي كثيرا، لمعالجة الانسان المعاصر روحيا، والذي يعاني من مشاكل وجودية وحياتية متعددة.

Visited 59 times, 1 visit(s) today