ملاحظات حول السينما في السعوديّة
هدى جعفر
في أبريل 2018، تأمّلت المنطقة تلك اللحظة التاريخية: افتتاح أول قاعة سينما في العاصمة السعودية الرياض، من ذات المدينة التي خرجت منها مئات الفتاوى التي تحرم الفنون بأشكالها وألوانها على لسان دار الإفتاء.
إنّها لحظة فارقة للسعودية وللمنطقة برمتها، لا يخفى على أحد أنّ هذه الخطوة جاءت ضمن توجه رسميّ سعودي مهول قلب المفاهيم رأسًا على عقب فيما يخص الصورة الذهنية للمملكة العربية السعودية وبالذات فيما يتعلقّ بالسينما.
لم تأتِ هذه الخطوة من أجل الترفيه فقط، بل لإطلاق صناعة سينمائية سعودية تكن رفدًا اقتصاديًا، وتضع السعودية في مصاف هذه الصناعة خليجيًا، ثم إقليميًا ودوليًا، بما يستلزم ذلك من تجهيز المرافق اللازمة، وتدريب الكوادر، وإعطاء التراخيص، والدعم المالي السخي للغاية.
وخلال الخمس السنوات الأخيرة لوحظ نشاط الحركة السينمائية في السعودية، وإنتاج جملة من الأفلام الجادة التي تلفت النظر، وتستحق التحليل، والمناقشة، والكثير من الإعجاب.
أشكال وألوان
لم تُقدّم السينما السعودية “نوعا” سينمائيا موحّدا، أو شكلًا مكرّرًا من أشكال المعالجات الدرامية، بغض النظر عن العمر المهني للمخرج أو خبرته الأكاديمية، فهناك أفلام الأكشن مثل “سكة طويلة” لعمر نعيم، وفيلم الجريمة مثل “المسافة صفر” لعبد العزيز الشلاحي، والدراما الاجتماعية مثل “وجدة” لهيفاء المنصور، والرعب مثل “واحد طش” لمحمد غازي هلال، والـ”ثريللر” مثل “الخطابة” لعبد المحسن الضبعان، والكوميديا كـ”سطّار” لعبد الله العرّاك، والأنيميشن أو التحريك، مثل “سليق” للمُخرجة أفنان باويّان، ، وكذلك التجريب، والسيريالية مثل “في داخلي خريف أبدي” لحسين عبد الرسول السميّن، و”مدينة الملاهي” لوائل أبو منصور، إلى جانب التنويع في أشكال الأفلام ما بين القصيرة والطويلة والوثائقية، والتسجيلية، والتحريك…الخ.
وقد ساهم ذلك في إزاحة الإرث الثقيل محليًا الذي يغذي الأفكار بشرايينه المتعددة: فمن زمن الصحوة الدينية، وحتى قصص الجدات عن غيلان “الربع الخالي”، ومن الحروب التي دارت عند تأسيس المملكة وحتى الفروق الاجتماعية بسبب المهنة والمنطقة وغير ذلك، بالإضافة إلى التنوع الثقافي والجغرافي بما يحتويه من اختلاف يطال الملابس، والأطعمة، واللهجات، وحتى الذاكرة نفسها. هذا إلى جانب مفارقات الحياة اليومية التي تصلح لتكون منبعًا خصبًا لصاحب الصنارة الأكثر ذكاءً وفنيّة.
الحياة تحدث هُنا والآن
ترفض الأفلام السعودية الانصياع للفكرة المغلوطة الرائجة التي ساهمت فيها عوامل كثيرة منها أعمال خليجية سابقة، وهي أنّ الدراما في الخليج لابد أن تدور دومًا داخل القصور الفارهة، والسيارات الباذخة، ولا يتحدث الناس إلا عن صفقات الذهب والنفط، لقد تلاشت هذه الصورة بشكل شبه كاملٍ في الأفلام السعودية إلا بما اقتضته الضرورة الدرامية، فأظهرت الأفلام كافة الطبقات الاجتماعية، من الطبقات المخملية وحتى عائلات الهامش والمنسي، ومن الحارات الضيقة التي تكسوها الغبار، حتى الشوارع العريضة التي تزيّن أشجار الغاف والتمر الهندي، والقائمة هنا طويلة بالفعل.
لقد خرجت الأفلام السعودية من الأفكار الجاهزة والمعلبة، إلى رحابة الحياة بما فيها من تناقضات ما بين غنى وفقر، وعلو وهبوط، وأبيض وأسود.
وانتقلت الأفلام من القصور ذات الحياة البلاستيكية، إلى الشقق، والحارات، والسيارات، حيث الوجوه الحقيقية، والدماء الفائرة، والدموع، والقهر، والفرح، والحياة كما يعيشها كل الناس، ونجد ذلك في أفلام عديدة، مثل: “بركة يُقابل بركة”، و”حدّ الطار”، و”خلّاط+”، و”رقم هاتف قديم” وغير ذلك.
بين الفن والقضية
إن علاقة القضايا والفنون مازالت تحصل على جدل كبير لم يتوقف عن الدوران والأخذ والرد حتى الآن بين أصحاب “السينما الرسالة و”الفن للفن”، بالذات في منطقتنا ذات المئة قضية، والألف فن!
إن السعودية، مثل أي بلد إسلامي محافظ، تحكمه بعض العادات والتقاليد، وقد زاد ذلك في زمن الصحوة الدينية التي حرّمت كل شيء تقريبًا، بما في ذلك من قمع الحريات، وهضم حقوق النساء، وشيطنة المختلف بشكلٍ كامل حتى إن لم يكن مختلفًا بالفعل، لكن الأفلام السعودية لم تتاجر بهذا التاريخ، ولم تتكسّب منه، ولم تغازل المشاهد “الأجنبي” الذي لا يرى منطقتنا إلا بذات العدسة الاستشراقية التي لم تتغير منذ قرون.
استطاعت الأفلام السعودية أن تتناول تلك القضايا دون أن تؤثر على الجوانب الفنيّة والعناصر الجمالية للسينما من تصوير، وحبكة، وبناء شخصيات، ولم تحبس نفسها في قعر العادات، والانتهاكات، والحقوق، وقد ساعدها في ذلك خطط التمويل الحكومية التي لم تضطر صانع الفيلم السعودي لأن يرضخ لمعايير “الآخر” في اختيار المواضيع التي استهلكت حتى فقدت معناها.
في الأفلام السعودية، مازالت القضايا تهدر في الخلفية كأصوات أجهزة التكييف، أو مكائن صناعة القهوة، لكن ذلك لم يؤثر على مزاج الدراما، ولا جماليات الفيلم، وقد استطاع عدد من الأفلام الموازنة بين القضية والفن، في وقتٍ تندر فيه الأعمال التي استطاعت أن تساوي بين الكفتين.
هنا نذكر “المرشحة المثالية” لهيفاء المنصور، و”سيدة البحر” لشهد أمين، و”شريط فيديو تبدّل” لمها الساعاتي على سبيل المثال.
الدعم الحكومي
إنّ الحركة السينمائية الحالية في السعودية، لم تُخلق بسبب الرغبة الشخصية لصناع الأفلام فقط، إنّها قرار سياسي أولًا وأخيرًا، ولم تكن هذه الأفلام ستظهر لولا الدعم غير المحدود الذي تقدمه الحكومة السعودية، ونتحدث هنا عن ثلاث مبادرات أو كيانات لها الدور الأهم حاليًا، وهي هيئة الأفلام، ومركز “إثراء”، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي أو صندوق البحر الأحمر تحديدًا.
تأسست هيئة الأفلام في فبراير 2020 وجاء في موقعها الرسمي أنها تهدف لتطوير قطاع الأفلام وبيئة الإنتاج في السعودية، ولتحفيز وتمكين صناع الأفلام السعوديين، وتشمل أهداف الهيئة كذلك على جذب الإنتاج العالمي للأفلام في المملكة، وتجهيز البيئة التحتية المناسبة لتصوير الأفلام، وتحفيز الطلب على الأفلام السعودية إقليميًا دوليًا حسب رؤية الهيئة.
أمّا مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي “إثراء”، الذي تملكه شركة أرامكو، فإنه يشمل على بندٍ محدد للسينما وهو “صندوق دعم إثراء للأفلام” الذي يدعم إنتاج أفلام سعودية طويلة وقصيرة، و”إبرازها على نطاق عالمي” كما جاء في موقعها الرسمي، كما أنّ مركز “إثراء” يقيم مهرجان أفلام السعودية بالشراكة مع “جمعية السينما” بدءًا من دورته الثامنة التي نُظمّت في يونيو 2022، وهو المهرجان الأكثر تأثيرًا في صناعة الأفلام السينمائية السعودية على المستوى المحلي، ومن الأفلام التي مولها مركز “إثراء” نجد “المغادرون”، و”فضيلة أن تكون لا أحد”، و”ذاكرة فوتوغرافية”، و”ولد سدرة” وغيرها من الأفلام.
وبالنسبة إلى صندوق البحر الأحمر الذي يُشرف عليه مهرجان البحر الأحمر السينمائي فقد أخذ على عاتقه الدعم السخي للأفلام، ليس في السعودية فقط، بل يمتد الدعم حتى الشرق الأوسط وأفريقيا، وقد أطلق الصندوق حملة لدعم أكثر من 100 مشروع سينمائي بمنح تصل إلى نصف مليون دولار للفيلم الواحد!
ومن الأفلام التي تم دعمها “المرهقون” من اليمن، و”فيونا: فتاة من مدريد” من رواندا وبنين وفرنسا، و”أشكال” من تونس، و”عين التوك-توك” من العراق، و”الليلة الكبيرة” من مصر، و”نوستالجيا: قصة الفصول الأولى” من سوريا، وفلسطين، وألمانيا، وإيطاليا، وغيرها كثير جدًا.
ما القادم؟
تأخرت الحركة السينمائية السعودية دون شك، لكنّ ذلك منحها فرصًا من نوعٍ خاص، إذ عفاها من الوقوع في أخطاء البدايات، بإتاحته الفرصة للاستفادة من أكثر من 100 عام من السينما في الولايات المتحدة، وأوروبا، والعالم العربي أيضًا، وكذلك الانطلاق من قواعد مهنية خالية من الأخطاء قدر الإمكان.
مازالت الحركة السينمائية السعودية في بدايتها، لكنّها بداية مبشرة وقوية ومتجهة نحو الهدف دون بطء أو تردد، مصحوبة برغبة رسمية، ورؤى محلية وشبابية، وباب للتجريب والابتكار والدعم مفتوح على مصراعيه، ورؤية ستة على ستة في تقييم السينما وتأثيرها الذي لا يقف ضده شيء، وما تم إنتاجه حتى الآن يؤكد حضور سينمائي لافت، لن يقتصر على السعودية فقط في المستقبل، بل على المنطقة برمتها دون أدنى شك.