مفهوم “الميكروكوزم”.. السينما ذلك الكون الصغير

سيرجي جروتوفسكي سيرجي جروتوفسكي

عندما شاهد الأديب ماكسيم جوركي السينما لأول مرة قال: “في الليلة الماضية كنت في مملكة الظلال. آه لو كنت تعلم كم كان غريبا أن تكون هناك. إنه عالم بلا صوت، بلا لون. كل شيء هناك – الأرض، والأشجار، والناس، والماء، والهواء-مصبوغ بلون واحد هو الرمادي. إن الأشعة الرمادية تسقط من الشمس عبر السماء الرمادية، لتصبح العيون رمادية، والوجوه رمادية، والأوراق والأشجار بلون رمادي شاحب.

 إنها ليست الحياة وإنما ظلها، إنها ليست الحركة وإنما طيفها الذي لا صوت له.” تصغير العالم (ميكروكوزم) هو منشأ فكرة الرمزية على الشاشة، حيث يكون الفعل البشري في حيز ضيق محدود كأنه يتم اختصاره بفعل عدسة محدبة عن السلوك أو الوضع الإنساني في الكون اجمالا.

في البيئة الجديدة (الأصغر) يبذل الفنان عناية خاصة لعزل الشخصيات عن المؤثرات الخارجية كافة بحيث يتبدى الكون الأصغر مكتفيا بذاته. هنا يمكن عزل مجموعة من البحارة في بارجة حربية، نزلاء في فندق محبوسين في مصعد، ناجين على جزيرة مهجورة، ويبدأ المشاهد في تأمل شتى أنواع النشاط الآدمي في الميكروكوزم ومشابهات قوية لما يحدث فيه من العالم الأكبر وأن يكون للفيلم مضامين عامة. ويمكن النظر إلى أفلام مثل: (بين السما والأرض) و(البداية) و(التفاحة والجمجمة) على أنها جميعا عوالم صغيرة.

بين السما والأرض

لا أحد من بين كل المخرجين الذين نناقش أعمالهم الآن، ينكر أنه قد بدأ عمله كمخرج باقتناع تام أن يعامل ممثليه باعتبارهم مادة خاما، وينقل بيئة وأحداث العمل المكتوب إلى نمط كوني مصغر، وتغير هذا السلوك وتطور إلى الحد الذي أصبح معه يرى دوره الآن ببساطة كمحفز لقوة الخلق لدى الآخرين وأعماله السينمائية في النصف الثاني من مسيرته انتقلت من كونها منمنمات لأعمال أدبية كبيرة إلى ما يشبه التجارب التفاعلية الحرة. طبعا هذا التحول كان بمثابة صفعة في وجه المفهوم الأرسطي وقبلة على جبين الجماهير العريضة والقوى الفنية غير المركزية والغير راضية عن ذاتها والتي انتشرت انتشارا سرطانيا على اتساع العالم في أواخر الستينات تستهين بالمقتضيات الصارمة لأخلاقيات كان لها أصداء واسعة لدى أساتذة وأعضاء فرق حملوها إلى ما وراء نطاق السينما والمسرح لتحدد أسلوبا للحياة.

هذه الظاهرة التي تمثلها بوضوح حالة جروتوفسكي، المخرج الذي انتقل من مدرسته الكلاسيكية إلى ترك العنان لممثليه، بقى الكثير منها موضع سوء فهم وحجب في التأملات الغامضة حول قوله المأثور (ما يحدث ما هو إلا ثمرة التوليفة البولندية المميزة من الكاثوليكية والوجودية) ونتيجته هي البحث شبه العملي في إعادة تعريف طبيعة مهنة الممثل، وعلاقة الممثل بالمشاهد (المسألة التي عالجها ببراعة منقطعة النظير نجيب محفوظ في روايته أفراح القبة) وتطور مفهومه لدور المخرج في العملية الإبداعية، ومنطقه في رفضه اللاحق للحدود الصلبية للقيد في مرحلة التحول إلى الفن النظير (Para Art) أو الثقافة الفاعلة (Active Culture).

“الفن في صميمه نسب محسوبة بين العناصر التي تكونه، ومن ثم كانت معايشة الإنسان للمبدعات الفنية سواء أدب أو تشكيل لابد أن ينتهي به إلى ميزان داخلي، ففي تكوينه يجعله مستريحا لما يراه، أو رافضا، أي ذا وقفة ثقافية لها طابع خاص.” (علاقة الأدب بالفن التشكيلي، سهير شكري – مجلة جسور – يناير 2019).

 في بدايات جروتوفسكي كان العمل حرفيا ومحمل على نحو كثيف بمفاهيم عن التأثيرات والاصطناعات المسرحية ويعكس بناءا جديدا يؤكد على التصميم (Design) والوسيلة التقنية (Technical Media) للمنتج الفني بحيث يبني دور الممثل ويهذب ويؤسلب بشكل راقي. كان ينظر إلى الممثلين باعتبارهم دمي تساند رؤية المخرج باعتباره طاغية والمؤلف النهائي للفيلم أو العرض المسرحي. وتميز العمل بتجارب البدايات حول إمكانية المونتاج النصي والمحتوى المؤثر لعلاقات الفراغ، والحصة المخصصة من الأدوار للمتفرجين (على سبيل المثال فإنه في (قابيل) لبايرون قصد أن يكون المتفرجون هم سلالة قابيل!).

وبالرغم من أنه كانت تبدو على تلك الأعمال علامات النضج والاكتمال في هذه المرحلة إلا أن المضمون بدا لا ينفصل عن الشكل، في هذا التوقيت صمم جورافسكي مسرحه بحيث يشترك الجمهور ويتكاملون مع الممثلين خلال الحدث حيث وضع أفراده في أماكن ظاهرة العشوائية داخل مكان العرض فأجبرت التقاربية الجسمانية للممثلين مع الجمهور، إلى جانب اضطرارهم أن يأخذوا في الاعتبار ملاحظتهم لغيرهم من المشاهدين وردود أفعالهم، أجبرتهم على الدخول في علاقة جديدة تماما من المواجهة مع أسطورة البطولة، ها هو الكون الأكبر يخضع للأصغر!

هنا نرى الممثل يحمل مكنسة على ظهره وليس صليبا، وفي الديالكتيك الجروتوفسكي للتأليه والسخرية فإن الجروتسك يصاحب التراجيديا والمزاح يرافق المقدس. مع بداية الستينات ظهر عرض (كورديان) للمؤلف الرومانتيكي البولندي يوليوس سوفاتسكي، كورديان هذا وطني مثالي وقاتل فاشل أودع أحد المصحات العقلية بسبب جرائم بلهاء، وخلال هذه البيئة أصبحت كل عواطفه المبذولة للتضحية بالذات موضع سخرية. إنه مجنون ومحكوم عليه بالإعدام.

من مسرح جروتوفسكي

كانت مشاهد مستشفى المجانين هي جوهر الدراما في نسخة جروتوفسكي فوضع الحدث كله داخل المصحة ومن ثم قدم الفردية المجنونة لكورديان باعتبارها الجنون العاجز للمريض، أما دمه المهرق المهدور فإن شاعريته لا تمنع المعالجة الطبية الصارمة على فراش بالمستشفى في أيدي أطباء قساة عمليين، والمعنى: تحليل الفعل الفردي في زمن يكون الفعل والتنظيم الجماعي هو الضمان الوحيد للنجاح.

والرجل الذي يحاول اليوم إنقاذ العالم بمفرده إما مراهق أو مختل. هذه البنية المسرحية تخلق علاقات فراغية جديدة ذات مغزى لكل عرض: إن حيز أرض الغرفة متعدد المستويات، والديكور الوحيد المستخدم كان أسرة المستشفى المثبتة في الحوائط، وجعلت المستويات للحدث ومقاعد الجمهور على حد سواء عندما فرضت على أفراده أن يلعبوا أدوار المرضى!

في 1962 قدم جروتوفسكي منظوره الجديد عن علاقة الممثل بالمتفرج عبر (أكربوليس)، النسخة المنقحة من نص ستانيسلاف فبيانسكي التعبيري ذي الرؤية المتشائمة، على سبيل التطهر النفسي الجماعي، من خلال حكاية من التراث البولندي حدثت في أحد أيام عيد الفصح عندما بعثت أشكال مطرزة على لوحة من قماش معلقة في قصر كراكوف الملكي لتعرض أحداثا أسطورية من الإنجيل. لونها جروتوفسكي بالسم والسواد وقسوة النفس والشعور بالإثم وركز على فكرة أن القصر ما هو إلا مقبرة للقبائل لتصوير قيم حضارية يجري بها مواجهة التجربة المعاصرة حيث تحول معمله الفني (الميكروكوزم) بالكامل من خلال مونتاج إلى شذرات من النص الأصلي إلى أوشفينشيم، أفران الغاز التي أحرق فيها النازيون اليهود، هكذا يمكن تمثيل النزوات والأساطير الأزلية بتصوير الإنسانية في تطرفها داخل بيئة شيطانية، فهي نقطة التحول التاريخية التي تختصر مسيرة حضارة البشر المنهارة للقرن العشرين ولقد مثل الممثلون الموتى، أما المتفرجون الذين أجلسوا في مجموعات منعزلة  فوق أقراص مرتفعة على أسطوانات داخل وحول حيز المنتصف فكانوا هم الأحياء غير القادرين على إدراك الرعب الذي يجسده الموتى.

لقد عزل الممثلون المتفرجون مع سبق الإصرار وعاملوهم كدخلاء يراقبون التجربة من عالم الأحياء المعاكس، وقد ظل العالمان غير مختلطين مقابل كل منهما الآخر برغم الكلستروفوبيا التي أثارتها التقاربية الجسدية للممثلين والذي شدد من الإحساس به التشييد الطقسي للبناء الهندسي القابض من الحبال والمعدن حولهم وفوقهم كأحشاء قبر.