مغزى رحلة البطلة في فيلم “امرأة شابة واعدة”

رشا كمال

منذ أن تعالت أصوات النسوية والصوابية السياسية” في السينما الأمريكية مطالبةً بضرورة أن تحتل المرأة مساحة أكبر في الافلام، ظهرت على الساحة السينمائية أفلامٌ كثيرة تتخذ من المرأة محورًا لها، وتطرح وتناقش قضاياها وهمومها في المجتمع، مستغلةً في ذلك مختلف الأنواع الفيلمية، وعلى سبيل المثال فيلم «المرأة الأعجوبة» Wonder Woman الصادر عام 2017 الذي يعد أول فيلم بطلة خارقة تخرجه امرأة (باتي جينكينز)، ورغم أنه فيلم من بطولة امرأة، وشاركت في كتابته وإخراجه امرأة، لكنه يتخذ من رحلة «البطل» نموذجًا للرحلة، مثله في ذلك مثل أفلامٍ عديدة ذات توجهات نسوية وبطولات نسائية اتخذت من نموذج رحلة البطل بنية سردية لهامهملة خصوصية البنى السردية التي تخص «البطلة»، وتعني بالتطورات النفسية والروحية والعاطفية والجسدية الخاصة بها.

وكانت الكاتبة والمعالجة النفسية “اليونجية”- نسبة إلى المحلل النفسي كارل يونج- “ميردوك” أول من أتت بنموذج هذه الرحلة في كتابها “رحلة البطلة: بحث المرأة عن الكمال”. وفيه تولي كبيرًا بالجانب النفسي لدى الأنثى، والتحولات الطارئة عليها طوال رحلتها.   
والرحلة التي تقوم بها كاسي (كاري موليجان) بطلة فيلم “امرأة شابة واعدة”
Promising young woman الصادر عام 2020، سيناريو وإخراج “إيمرالد فينيل” في أول عمل روائي طويل لها، تتماشى مع النموذج السابق.

ويجمع النص السينمائي للفيلم في بنائه السردي بين عناصر رحلة البطلة وحالة العزلة في رحلة البطل، لتتلاعب من خلال هذه التوليفة بتوقعات المتفرج، مستغلة السمات المعروفة لنمط أفلام الانتقام لخدمة الحكاية التي ترويها.

تمر “كاسي” خلال رحلتها بالمراحل الثلاث حسب نموذج كاليجر، أولها مرحلة الهبوط أو المشاكل التي تعاني منها البطلة. وتتعمد المؤلفة إخفاءها في مرحلة تأسيس الشخصية لتعزيز رسم صورة مضللة عنها، فنحن نقابل البطلة في أول الفيلم وهي تخفي هويتها الحقيقية لاصطياد الرجال من الملاهي الليلية بعد اقناعهم بأنها ثملة، لتفاجئنا المخرجة بعكس ذلك، لتزرع بذلك أسئلة كثيرة في عقول المتفرجين.

استخدمت الكاتبة في بناء شخصية كاسي عقدة “مادونا والعاهرة”، فشخصيتها تنطوي على تناقضات عديدة، فهي تعمل في أحد المقاهي بعد تركها دراسة الطب فجأة، تخرج ليلًا لاصطياد الرجال وتسجل أسماءهم وأعدادهم في مذكراتها دون توضيح السبب أو حقيقة ما يحدث بينها وبينهم.
ولم تكتف المخرجة بذلك على مستوى السيناريو ولكن امتد أسلوبها في استخدام التضاد وتمويه الحدث ليشمل بقية العناصر الإبداعية الأخرى في الفيلم، مثل تصميم المشهد المصاحب للعناوين الافتتاحية، ويسبق هذا المشهد مشهد تحرش أحد الرجال بكاسي واصطحابها لمنزله بعد اعتقاده أنها في حالة سكر شديدة، ثم تقطع المخرجة المشهد بعد أن يكتشف الشاب أنها واعية وغير ثملة.

ويبدأ المشهد المصاحب للعناوين في اليوم التالي، وكاسي تمشي حافية القدمين، مرتديةً ملابس غير مرتبة، وملطخة بسائلٍ أحمر نعتقد في أول الأمر أنه دماء، ولكن باستعراض الكاميرا صعودًا على جسدها نكتشف أنها تتناول طعامًا يتساقط منه سائلٌ أحمر يلطخ ثيابها وجسدها، حتى تبتعد الكاميرا عنها، تصاحبها في الخلفية الموسيقية للمشهد أغنية «إنها تمطر رجالاً».

ونظرًا لأن رحلة البطلة تتفق مع رحلة البطل في ضرورة عدم توافر كافة المراحل، ولا أن تتواجد بنفس الترتيب وذلك لخدمة السرد. تعمدت المؤلفة تأجيل الكشف عن السبب وراء انسحاب البطلة اللاإرادي من الحياة، أي الأسباب وراء ترك كاسي للدراسة وهو الحادث المأساوي الذي فقدت بسببه صديقتها المقربة، والعيش برفقة أهلها، وإصرارها على العمل في مكان لا يلائم إمكانياتها.

واستعانت المؤلفة بمحاولات الدعم من جانب الأسرة، وصاحبة المقهى جيل (قامت بالدور الممثلة لاڤيرن كوكس) لتقديم يد العون للبطلة دون جدوى.


تنتقل كاسي إلى المرحلة الثانية من الرحلة وهي مرحلة البحث عندما يلتقيها ريان (بو برنهام) زميلها السابق في كلية الطب. يحدث بينهما إعجاب متبادل ليبدأ من هنا خط درامي خاص بهذه العلاقة يمثل في رحلتها خطوة محاولة إنشاء وتكوين علاقات بديلة تعويضا لما فقدته في حياتها. ويصبح ريان محفزا للأحداث، فمثلا عندما يذكر اسم آل مونرو (كريس لويل) أمام كاسي تعلو ملامح الاضطراب على وجهها، وتقترب منها الكاميرا لتكن هذه هي النقطة المحفزة التي تبدأ عندها مرحلة البحث في رحلتها. وقد استعانت المؤلفة بحالات العزلة والمخاطرة من نموذج رحلة البطل كنتيجة لحدث فقدان صديقتها المقربة مما دفعها للتحرك نحو مواجهة العبء المحمل على كاهلها من الماضي.

 أما حيلة التخريب فقد استخدمتها البطلة في مخططها الانتقامي لمعاقبة المسؤولين عن مأساة صديقتها، لكنه لم يكن انتقاما عنيفَا، فبدأت بالبحث عن معلومات عن هؤلاء الأشخاص، والبداية كانت مع احدى صديقات الدراسة الجامعية وكانت شاهدة على الواقعة ساندي (أليسون بري)، ولجأت كاسي لاستخدام نفس الأسلوب الذي ينتهجه معها المتحرشون بها ليلاً، فقد استدرجتها، وجعلتها تثمل، ثم ذكرتها بموقفها السلبي، وعندما لم تبد أي ندم تركتها ثملة، لتترك رقم الغرفة لأحد الرجال لتطلب منه إتمام المهمة، تقطع المخرجة تدفق الحدث مؤجلة الإجابة عن حقيقة ما حدث لمشهد مفصلي لاحق.

تنتقل بعد ذلك إلى الهدف التالي على قائمتها – حيث عنونت المخرجة كل قسم من رحلة البحث والانتقام بنظام العصا tally marks مثلما تدون كاسي في مدونتها بعيد انتقامها من المتحرشين بها ليلاً.

أولا هناك عمدة الجامعة والكر (كوني بريتون)، التي نصبت كاسي أولا فخا لابنتها المراهقة، ثم ذهبت لمواجهتها في الجامعة، وعند تذكيرها بموقفها تجاه مأساة صديقتها نينا، جاء رد العميدة استفزازيا متحيزا لجانب الجاني، فتوهمها كاسي بالخطر المحدق بابنتها، ليتحول ميزان القوة في هذا المشهد مرة أخرى إلى كاسي بعد توسلات العميدة لها، وهنا تستخدم المخرجة مشهدا بليغا لتقديم صورة مجازية عن المعاناة التي قد تواجه الفتيات عند التوجه بشكواهم للمسئولين.

ولأن الانتقام كما سبق وذكرت ليس من خصال البطلة مقارنة بالبطل في رحلته فهي تخضع لضميرها وينعكس رد فعلها في سلوكها التدميري المنعكس في حياتها الليلية التي تستمر فيها، حتى يكشفها رايان مصادفة ليتأزم وضعها أكثر في الرحلة.

تتدرج كاسي في رحلتها الانتقامية، فتبدأ بالصديقة (موقف المجتمع)، ثم عميدة الجامعة (موقف النظام)، ليأتي الدور على جوردن محامي الجناة (موقف القانون) الذي قام بدوره الممثل الكبير (ألفريد مولينا) في واحد من المشاهد الجميلة على مستوى الكتابة والتصميم البصري، وكان هو الوحيد ممن على قائمتها الذي يعذبه الشعور بالذنب جراء فعلته، واستحق أن ينال منها المغفرة. وقد طغى اللون الرمادي على المنزل، في تكوينات بصرية متماثلة (سيميترية)، ونباتات ذابلة في أرجاء الغرفة، فكان كل شيء في المكان يعكس ثقل الذنب والخراب النفسي الذي يعتصر ساكنه.

مع اقتراب البطلة من استكمال رحلتها الانتقامية، تستكين وتهدأ بعد اعترافها بالذنب الذي يعتصرها أمام والدة صديقتها وتتلقى منها نصيحة بتخطي الأمر ومواصلة حياتها.

ومع تلك النصيحة تدخل البطلة مرحلة القبول والتسوية والعدول عن معاقبة أخر وأهم شخص على قائمتها، فتبدأ في لم شتات حياتها وتعدل عن مخططاتها الانتقامية، وتصلح علاقتها مع ريان ليسود الاستقرار حياتها لوهلة، ولكنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة، فتتغير دفة الأحداث بتلقيها معلومة جديدة تعيدها مرة أخرى إلى مسار رحلتها الانتقامية مستكملة آخر فصولها وهو مرحلة الصعود.

استغلت المخرجة كل الخيارات الإبداعية المتاحة لها إلى جانب الاستعانة بنموذج رحلة البطلة لتقديم صورة مضللة عن بطلتها تتفق مع النظرة الذكورية الخاطئة عنها في الفيلم تارة، لتعود وتتهكم من تلك النظرة في مشهد آخر تارة اخرى، مثل استخدامها للنظرة الأنثوية في أول مشاهد الفيلم لأجساد الرجال وهم يتمايلون في ساحة الرقص.

ويزخر الفيلم بالألوان الهادئة، على عكس الصخب اللوني للحياة الليلية للبطلة، وتؤطر كاميرا المخرجة بطلتها دائما في إطار أيقوني مثل أيقونة العذراء بالألوان الأزرق الفاتح والأبيض، أو تستغل إطارات معينة في بعض المشاهد لتمنحها أجنحة مثل الملائكة، مانحة إياها هالة القداسة في رحلتها الانتقامية.

لهذا تخدم البنيات السردية المختلفة لرحلة البطلة في التعليق على المشاكل الاجتماعية مثل التحرش والاغتصاب كما في فيلم “امرأة شابة واعدة”، وتقديم سرد مختلف عن السائد لمخالفة توقعات المتفرج وحثه على المشاهدة والمشاركة الإيجابية للعمل السينمائي.

Visited 1 times, 1 visit(s) today