“مزار الصمت” مرثية بصرية لملاك صامت
محمد جمال الروح
لأن الملائكة لا تعرف منطق البشر لم تنطق ليلى بكلمة، ظلت في صمتها تطعم عصافير الصباح من ضي أصابعها، وتحنو على حملان جاءت من البراري تتمسح في براءتها، كانت العيون الشاردة نحو المدى تروي ألف حكاية عن الفقد والغربة وعذابات الشتات.
عن ليلى الفتاة السورية التي رحلت في موكب الملائكة وبقيت ذكراها في قلوب الناس، يحدثنا فيلم “مزار الصمت” للمخرج السوري ثائر موسى، الذي قدم لنا عملاً لم تقف إشراقاته عن حد التشكيل البصري البديع، أو تناغم البناء الدرامي مع البناء البصري في خلق تلك التجليات الصوفية والطاقات النورانية التي أحاطت الفيلم، بل امتدت هذه الاشراقات لوجدان المشاهد واطلقت العنان لحواسه كي يتذوق الجمال ويثمل من عذوبة متعته البصرية. ويكون في الأخير ما يمكن أن نطلق عليه جماليات التأمل.
أسر الأرواح
في غياهيب السجون يقع أحمد “عيسى العيسى” ضحية التعذيب والتنكيل، مثله مثل الألاف من الشباب الذين أرادوا تذوق الحرية تهرب الأم وابنتها من ويلات الدمار إلى دولة مجاورة مع جموع اللاجئين، ومنذ غياب الأخ/ السند تفقد ليلى النطق كمداً على شقيقها الحي الميت، تتحول لأيقونة حيه من الجمال الصامت وكأنها ابتلعت وجع الكون.
وفي مخيمات اللجوء المحاطة بالأشواك والصبار تصبح الحرائر مطمعاً للجائعين ولصوص الأعراض وراغبي الزواج المجاني من الصغيرات التائهات في دروب المأساة. هنا يظهر زيدان “محمد بكري” يتزوج ليلى مقابل وعد كاذب بتحرير أحمد من سجنه.
هكذا خدع زيدان الأم التي تعلقت في أي أمل ينجي وحيدها من عذابه. يتزوج زيدان من ليلى دون مهر وهي في عمر بناته أملاً في إنجاب وريث، ذلك الهاجس الأزلي للرجل الشرقي مهما طال به العمر.
ليلى تساق إلى بلدة زيدان وقد جعلت منها الحرب سبية من سبايا الزمن الجديد، زمن الحديد. تعيش ليلى في بيت زيدان مع زوجته الأولى وبناته، لكن زيدان لم يتمكن من ليلى التي كانت تهرب كل ليلة قاصدة مقام أحد الصالحين وتشعل من وجعها شموع الضريح، حتى مستها يد الملائكة، وبانت الكرامات التي وشحتها بقداسة نادرة.
جماليات الصمت
حقاً الصورة قصيدة بصرية مكتوبه بلغة الضوء. أبدع المخرج السوري ثائر موسى في صياغ قصيدته البصرية وفق لغة سينمائية بليغة استعارت مفرداتها من قاموس الجمال.
نحن أمام لوحات بديعة التكوين محملة بدلالات ناجت الإدراك الحسي الجمالي للمشاهد حتى تظن أنها كانت هدفاً مستقلاً في ذاتها يتجاوز أحياناً خطوط الفعل الدرامي، لكن بنية تركيب العناصر التشكيلية كانت مرآة حقيقية للبعد الدرامي للفيلم وإيقاعه، جرى هذا بالتعاون مع مدير التصوير المجتهد حاتم ناشي الذى نجح بكل مهارة في استغلال كل خصيصة لعدساته متنوعة الأبعاد لخلق التأثير الدرامي المطلوب خاصة في لقطات البورتريه المتوسطة والقريبة التي خلق منها باستخدام الإضاءة والألوان لوحات تشكيلية سيحفل بها سجله المهني. وحقيقة يحتاج جهد ثائر موسى ومدير تصويرة في وصف شخصية ليلى بصريا إلى دراسة مستقلة، عن حركة الكاميرا وحركة العدسة قرباً وبعداً وتنوعها، وحركة ليلى وانعكاسات الضوء على ملامحها وإنارة وجهها، وحتى رصد قطرات الماء على شعرها والوصل بها بصريا لمرحلة القداسة جهد كبير ومتعة بصرية لا محدودة.
فيلم ثائر موسى يثبت أن الفيلم الجيد لا يقترن بالضرورة بميزانية ضخمة، الأزمة الحقيقية هي أزمة إبداع وتحاور مع الجمال، ورؤية يجتمع حولها فريق عمل جاد.
“مزار الصمت” الذي تم تصويره في تونس وبممثلين أغلبهم تونسيون، فيلم اجتمعت فيه عناصر الإجادة وخاصة على مستوى الأداء التمثيلي: سوسن معالج في دور “سعاد أم ليلى”، وشاكرة رماح في دور “زوجة زيدان الأولى”، طاقات أدائية معتبرة نجح ثائر موسى في إدارتهم بذكاء واستخراج مخزون الموهبة داخلهن، وعيسى العيسى في دور “أحمد”، هو ممثل واعد يحمل ملامح قادرة على التشكل الدرامي. نورا حجري في دور ليلى وهي أكثر وجه تعاطت معه الكاميرا تستحق الاحتفاء على هذا الأداء الصامت الرصين والقدرة على تصدير الانفعالات الداخلية الحزينة لهذا الشخصية التي أخرستها الأوجاع وعصفت بها الحياة، ثم العبور بالشخصية لمرحلة أخرى من الشفافية والنورانية والقداسة.
أما في الكفة الأخرى فيجلس متربعاً الممثل الفلسطيني القدير محمد بكري بأداء متقدم المستوى، فاهم ومتقن موغل في ثنايا شخصية زيدان التي مرت هي الأخرى بمرحلتين مرحلة الشيخ الانتهازي الطامع في فتاة جميلة تنجب له صبياً، ثم مرحلة الاعتكاف والعزلة حزنناً على رحيل ليلى التي يروي قصتها الغرائبية بنبراته التي تأتى من عمق الروح.
عودة الغائب
يعود أحمد بعد ثلاث سنوات باحثاً عن لحمه الضائع، يقرر الانتقام من زيدان الذي سرق أخته وخدع أمه، لكنه يجد بقايا رجل أنهكه الزمن، يبدأ زيدان في سرد قصة ليلى وتعود الأحداث (فلاش باك) منذ أن أتى بها للدار حتى تحولت لتلك الأسطورة التي سكنت قلوب الناس.
لم يخرج سيناريو ثائر على الخطوط الدرامية التقليدية ولم يهتم بالتأصيل لشخصياته، وكان الرهان على تفاصيل الصورة وما ترويه رموزها الدالة، فجاءت الشخصيات مبتورة من جذورها بل نجده يزرع شخصيات هامشية لمد الخط الغرائبي للقصة وإضفاء النبرة الشاعرية كشخصية حسن عازف الربابة الشخص الغريب الذي خرج من عزلته ليلاً ليؤبن رحيل ليلى بعزف شجي أبكى الكون ثم اختفى للأبد.
موسيقى حمزة بوشناق الساحرة بكل تنويعاتها المتناغمة كانت جسراً عبر من خلاله الفيلم إلى وجدان المشاهد مع الشريط الصوتي المتقن، وديكور صوفي عبد الكافي البسيط بتفاصيله الفنية الدقيقة، أما النسخة النهائية للفيلم فكان الفضل فيها مع رؤية المخرج لمونتاج (أنس السعدي) الذي حافظ على تدفق الإيقاع الدرامي والانتقال المشهدي المتناغم مع الحس الصوفي والشاعري للفيلم.
“مزار الصمت” تحفة فنية تبقى في الذاكرة والوجدان ومرثية بصرية شديدة الشجن لشعب تجرع مرارة الشتات والفقد. وتحيه صادقة لنساء سوريا الحرائر ولأطفال سوريا الذين ينامون على الثلج تاركين عرائسهم حزينة وسط ركام الدمار والحرب.