“مريم المجدلية”.. صورة جديدة للشخصية الإنجيلية

عاما بعد عام ومنذ ظهور السينما حتى اليوم، تحتل الأفلام الدينية مكانة بارزة، فعادة ما تخصّص لها شركات الإنتاج في هوليوود ميزانيات ضخمة لكي تخرج بشكل يتناسب مع رسالتها الروحانية، وفي عام واحد هو عام 2016 ظهرت سبعة أفلام تروي قصصا تتعلق بالعقيدة المسيحية ربما يكون أشهرها وأهمها، من الناحية الفنية، فيلم “الصمت” لمارتن سكورسيزي.

أما فيلم “مريم المجدلية”  (Mary Magdalene) فهو من إخراج المخرج الأسترالي غارث ديفيز (مخرج فيلم “أسد”) مع طاقم عالمي من الممثلين والممثلات تتقدّمهم الأمريكية روني مارا في الدور الرئيسي، وزميلها جواكين فينيكس في دور المسيح، والبريطاني من أصل نيجيري شويتيل إيجيفور (بطل فيلم “12 عاما في العبودية”)، واليونانية أريان لابيد، وعدد من الممثلين الإسرائيليين كإريت شيليت، روي عساف، هداس يارون والعرب مثل الجزائري- الفرنسي طاهر رحيم، والفلسطيني توفيق برهوم، والمغربية- البلجيكية لبنى الزبال.

والمقصود من الجمع بين هذه الشخصيات المتباينة للممثلين والممثلات، منح الفيلم طابعا عالميا، وإكسابه أيضا مذاقا خاصا يرتبط بأماكن وقوع القصة في فلسطين، ولكن المشكلة أن استخدام اللغة الإنكليزية التي لا يجيد الجميع نطق كلماتها بنفس الدرجة، أدّى إلى عدم وضوح الكثير من عبارات الحوار.

شخصية مثيرة للجدل

تعتبر “مريم المجدلية” من أكثر الشخصيات المثيرة للجدل في التاريخ الحديث عموما وفي تاريخ المسيحية بوجه خاص، فهي شخصية مُختلف عليها بشدة، ما بين اعتبارها المرأة الآثمة التي تابت بعد انحرافها، وبين اعتبارها قدّيسة توازي في قيمتها الروحية الحواريين الاثني عشر أتباع السيد المسيح الذين نشروا دعوته في العالم، بل هناك أيضا باحثة أميركية زعمت في 2012 أن هناك وثيقة مصرية أثرية كُتبت على ورق البردي، تؤكد أن المسيح كان متزوجا من مريم المجدلية، وهو زعم تصدّى له وفنّده علماء الدين المسيحيون والإسلاميون مؤكدين أن المسيح لم يتزوّج قط.

ويحاول الفيلم الجديد إبراز شخصية مريم المجدلية وإعادة الاعتبار لها باعتبارها امرأة ظلمت طويلا من جانب المؤسسة الدينية، وحسب العبارات التي تظهر على الشاشة في نهاية الفيلم، فقد اعتبرها البابا غريغوري في عام 591 “عاهرة تائبة”، ولم يعترف بها الفاتيكان كقدّيسة، بقرار رسمي، ويرفعها إلى منزلة الحواريين، معتبرا إياها التابع الثالث عشر للمسيح، وأول شاهد على بعثه، إلاّ في عام 2016.

وتوجد في الفيلم جميع الشخصيات والعناصر الرئيسية في قصة المسيح، ولكن من خلال شخصية المجدلية وبتركيز خاص عليها، من أول وجودها في أسرة من الصيادين في إحدى قرى الجليل قرب بحيرة طبرية، ثم كيف ترفض الزواج ممّا يدفع أسرتها إلى الاعتقاد بوجود سبعة شياطين داخل جسدها ثم قيامهم بإيقاظها ليلا من فراشها، واقتيادها بالقوة إلى البحيرة ثم إغراقها بعنف بالغ في الماء مرات عدة، بغية طرد الشياطين المزعومة، خاصة وأن والدها وأشقاءها كانوا من اليهود المتشدّدين، حيث يبدأ الفيلم بمشهد إنشاد ديني بالعبرية داخل معبد يهودي يقوده والدها الحاخام مع شقيقها.

ويصوّر الفيلم بعد ذلك، كيف تمرّدت المجدلية على أسرتها وأصرّت على اللحاق بمجموعة من أتباع المسيح الذي ظهر حديثا في المنطقة، ثم بدأ يمارس التعميد في مياه النهر بعد أن قتل أتباع الحاكم الروماني يوحنا المعمدان.
الأحداث تقع في فلسطين، وينتقل الفيلم عبر فصوله من الجليل إلى ما يطلق عليه صناع الفيلم يهودا ثم السامرة، أي إلى الضفة الغربية، ثم إلى القدس، ونحن نشاهد كيف يطلب المسيح من أتباعه التفرّق وتبليغ رسالته بعد أن يشتدّ التضييق عليهم، ويطلب من بطرس تحديدا أن يأخذ معه المجدلية التي تعتبر نفسها الأقرب إلى المسيح.

وفي الفيلم إشارات كثيرة إلى أنها تبعت المسيح وآمنت برسالته بعد أن وقعت في غرامه، وإلى أنه كان يبادلها الحب وربما كان يرغب لو أريد له، أن يعيش معها، بل نراه في أحد المشاهد قرب النهاية وقبل الصلب مباشرة، وهو يتحسّس وجهها وشعرها الطويل الأسود المنسدل على كتفيها، ثم يسند رأسه على الجزء الأسفل من جسدها ويغمض عينيه تعبيرا عن سعادته بوجوده بالقرب منها.

لكن الفيلم لا يصل إلى درجة تصوير علاقة حسية بينهما على غرار ما فعله سكورسيزي في فيلمه “الإغواء الأخير للمسيح” (1987)، وإن كان قد صوّر هذه العلاقة في سياق حلم المسيح وهو فوق الصليب قبل أن تصعد روحه إلى السماء.

في حب المسيح

علاقة المسيح بمريم المجدلية وتقريبها إليه، تدفع بطرس إلى الغيرة منها، والتعبير عن استنكاره من قولها إن الله اختارها لكي تقود الحواريين؛ “لماذا يختارك أنت؟”، وتظل العلاقة بين بطرس والمجدلية مشحونة، ولكن على نحو خافت قليلا.

إنها المرأة التي ينتصر لها الفيلم ويصوّرها باعتبارها الأكثر وعيا وإحساسا بالرسالة من الجميع، والأقرب إلى المسيح وجدانيا لكونه يجد فيها الحنان الذي أصبح يفتقده في غياب أمه، أما بطرس فهو يبدو في الفيلم كنموذج للرجل التقليدي البطريركي الذي يعتقد أنه الأجدر بالقرب من المسيح لكونه تخلى عن زوجته وأبنائه من أجل الرسالة.

وعندما تظهر السيدة مريم أخيرا عند دخول المسيح إلى القدس، تقبل عليه وتحتضنه، فتسأل المجدلية في غيرة واضحة “من تكون هذه السيدة؟”، فتأتيها الإجابة “إنها أمه”، تقترب منها وتقول لها “لا بد أن يكون الله قد أعدّك إعدادا جيدا لهذه المهمة الشاقة”، تبتسم الأم وتجيبها “يجب أن تستعدّي بدورك للرسالة”، ثم تخاطبها السيدة العذراء قائلة “أنت اتبعت ابني لأنك تحبينه.. أليس كذلك؟”.

تصاحب المجدلية المسيح عند دخوله القدس في عيد الفصح اليهودي وثورته على المرابين اليهود وتحطيم المعبد، ثم تحضر مع الحواريين العشاء الأخير للمسيح خلافا لكل ما ورد في الأناجيل باعتبارها المرأة الوحيدة التي توجد معهم في هذه الليلة، فالفيلم يسعى دراميا إلى إعادة الاعتراف وتكريس القيمة الروحية الكبرى لشخصية مريم المجدلية، ثم نرى كيف يقول لها عيسى إنها ستكون شاهدة عليه.

وعندما تسأله ذات مرة ماذا يجب أن تفعل “هل يجب أن تتبع والديها وأهلها؟”، يقول لها “يجب أن تتبعي طريق الله”، دون أن يضيف شيئا، أما يهوذا الذي يقوم بدوره طاهر رحيم، فهو أحد أتباع المسيح، لكنه يصبح فيما بعد مُتردّدا مُتشكّكا، وموقفه الروحي غامض بشكل عام في الفيلم، مثل غموض وشايته المفترضة بالمسيح إلى الرومان، فالواضح أن صناع الفيلم حرصوا على الابتعاد عمّا يمكن أن يثير غضب الجماعات اليهودية في العالم لتفادي ردة فعل مشابهة لما حدث مع فيلم ميل غيبسون “آلام المسيح”.

وقد فضّل سيناريو الفيلم المكتوب من وجهة نظر سيدتين هما هيلين إدموندسون وفيليبا غوسليت، أن يجعل يهوذا نتيجة شعوره بالذنب، ينتحر بشنق نفسه، وتشهد الحدث المجدلية أيضا؛ فهي موجودة في جميع الأحداث. وكان من المدهش أن تجعل مصممة الملابس البريطانية جاكلين دوران، التجار اليهود في سوق القدس وحاخاماتهم، يبدون كما لو كانوا من غلاة المسلمين الشيعة (أو الدروز) في ملابسهم ومظهرهم وخاصة العمامات البيضاء التي يضعونها فوق رؤوسهم.

عن الإخراج

يميل أسلوب الإخراج إلى التعبير الرصين بالكاميرا، مع اهتمام واضح باختيار مواقع التصوير وخاصة المشاهد التي تدور في القدس، والتي تشارك فيها أعداد كبيرة من الممثلين الثانويين، كما يبدو الاهتمام بتكوين اللقطات لتوليد أكبر طاقة روحانية منها، وهو ما استلزم توزيع الضوء بشكل خاص بحيث تبدو الكثير من المشاهد كما لو كانت تدور داخل معابد أو كهوف مخصّصة للتعبّد مع منح الشعور بالتخفي.

وهناك أيضا اهتمام كبير بخلق الحركة والانتقال من اللقطات العامة إلى اللقطات القريبة في مشاهد الصحراء والجبال (الطريق إلى القدس)، وفيها يمد مدير التصوير الأسترالي غريغ فرايزر، تجربته البصرية المدهشة في فيلم “أسد” على استقامتها.

وربما تكون الموسيقى المصاحبة من أهم عناصر الفيلم الفنية، والتي كتبها الموسيقار الأيسلندي يوهان يوهانسون واضع موسيقى فيلمي “سيكاريو” و”نظرية كل شيء”، الذي توفي الشهر الماضي عن 49 عاما، وهو يمزج بين آلة التشيللو والكمان وآلات النفخ، في بناء موسيقي كلاسيكي يعلو ويخفت طبقا لأجواء المشاهد المتنوعة، وتشيع الموسيقى جوا قريبا من التراتيل والابتهالات، التي تساهم في تكثيف الحالة الروحية.

تكمن المشكلة الأساسية في سيناريو الفيلم الذي أرادت كاتبتاه استخدام كل التفاصيل المعروفة في تاريخ بداية الدعوة المسيحية: يوحنا المعمدان، ظهور المسيح، المعجزات (إحياء الميت تحديدا)، تحطيم سوق القدس، دور يهوذا، وصولا إلى مشهد الصلب ثم ظهور المسيح لمريم المجدلية دلالة على كونه ما زال حيا.. لا يموت كما تردّد هي، وهو ما يدفع بطرس إلى القول استنكارا “ولماذا لم يظهر لنا نحن؟”.

يفشل السيناريو في تطوير شخصية المجدلية دراميا، وتطوير علاقتها بالمسيح، مع بقاء المسيح نفسه هامشيا مقارنة مع المجدلية التي تحتل صدارة الصورة، بل إن ظهوره الأول في الفيلم لم يكن له تأثير خاص، ولم يكن اختيار جواكين فينيكس في دور المسيح، اختيارا موفقا، فهو غير مناسب للدور، سواء من ناحية تكوينه الجسدي أو ملامح وجهه كما بدا أيضا أكبر بفارق واضح مع المسيح المعروف أنه توفي، وهو بعد في سن الثالثة والثلاثين (فينيكس في الرابعة والأربعين من عمره).

أين صورة المسيح هنا من صورته كنصير للضعفاء والمظلومين، في فيلم بازوليني الشهير “إنجيل متى” (1964)، إن فينيكس يبدو في الفيلم كما لو كان زعيما لطائفة، يرفع صوته، ويحرك يديه، يتمتّع بقوة عضلية وملامح خشنة، حتى وهو فوق الصليب، وهي صورة لا تتّسق مع الصورة الشائعة.


ربما تكون روني مارا مناسبة من حيث الملامح الخارجية، لشخصية مريم المجدلية، لكنها لم تفلح في التعبير بعمق وحرارة عن شخصية امرأة متمرّدة ترفض الزواج والإنجاب وتختار طريقا شاقا، فقد بدت بعينيها الزرقاوين، وبشرتها الشاحبة ولهجتها، “الأميركية” الوحيدة “الأصلية”، وسط خليط ممن يتحدثون الإنكليزية بلكنة أجنبية.

ولأن المخرج أراد تقديم طبعة جديدة (تقدّمية) من أفلام المسيح، فقد حرص على إسناد بعض الأدوار إلى عدد من الممثلين من أصول أفريقية، أهمهم شويتيل إيجيفور في دور بطرس، لكنه بدا غريبا عن الشخصية، ليس بسبب اللون أساسا، بل لأن الممثل يظهر منفصلا عن الشخصية التاريخية، جامدا حبيسا داخل هذا الدور ذي البعد الأحادي، يعلو صوته كثيرا بالغضب، بحيث غاب عن أدائه أي شعور بالامتثال الروحاني، أما طاهر رحيم فهو يحتاج إلى تدريب على الإلقاء باللغة الإنكليزية.

Visited 60 times, 1 visit(s) today