“مرسيدس”.. كابوس مغلّف بالسخرية
يمكن أن نعتبر فيلم “مرسيدس” من تأليف وإخراج يسري نصر الله شهادة فنية باذخة الثراء عن سنوات التسعينيات في مصر، وتحديدا الأعوام الأولى من تلك السنوات.
قيمة الشهادة ليست في مضمونها فحسب، وإنما أيضا في الطريقة التي قدمت بها، فالسرد يؤشر الى أمور وحوادث واقعية تماما، ومع ذلك لسنا أمام الواقع البسيط المباشر، ولكن يتحول هذا الواقع الى ما يقترب من الكابوس، بما نراه من غرابة العلاقات، وأزمة البطل العبثية، كما أن هذا الكابوس مغلّف بسخرية مريرة، ورغم كل ذلك، فإن الحكاية متماسكة ومؤثرة، والحالة التي ينقلها الفيلم واضحة التفاصيل والمعالم.
هناك ثلاث مقولات تتردد في الفيلم، يمكن أن تشكل مفاتيح لقراءته، العبارة الأولى تقولها وردة الأم حيث تصف حكايتها الغريبة بأنها “حواديت الكذب والحزن”، بينما يقول ابنها نوبي معلّقا على ما مر به من بقاء في مستشفى الأمراض العقلية لمدة أربع سنوات ثم خروجه: “أنا كنت فاكر انه كابوس طلع ميكي ماوس.. الكابوس لسة جاي”، أما المقولة الثالثة فترددها روحية الراقصة التي تعاني من شلل الأطفال، وهي أيضا عرافة المستقبل، فبعد أن تخبر نوبي بأن عددا كبيرا من الناس سيقتل، تقول له: “بس قلبك ح يتفتح.. وعينك حتشوف”.
هي إذن رحلة اكتشاف للتغيرات التي حدثت وتحدث، من خلال بحث نوبي، الخارج من مستشفى الأمراض العقلية، والداخل الى الجحيم، عن أخيه جمال.
العالم القديم لم يتداعى فحسب، ولكن هناك عالما مجنونا سيحل محله، وعندما يفتح نوبي عقله، وعندما ترى عينه واقعا أقرب الى الكابوس، نكون نحن من رأينا وعرفنا، ويكون ما نراه واقعا أقرب الى العبث أو الجنون، وسنحاول، مثل نوبي، ان نحتفظ بعقولنا بعد هذه التجربة القاسية.
وبينما يبدأ يسري نصر الله بذكاء من العائلة المضطربة بعلاقاتها الغريبة، وهي هنا عائلة مسيحية، فإنه ينتقل تدريجيا من الأسرة الى المجتمع وما يحدث فيه، لينتهي الفيلم بما يحدث في العالم كله، ونكتشف أن عمر الرحلة طويل جدا، فمن عام، 1956 حيث بداية علاقة وردة مع الدبلوماسي الإفريقي، والد ابنها نوبي، ننتهي الى العام 1990، حيث مباريات الفريق القومي المصري لكرة القدم في إيطاليا، وخروجه من الدور الأول بعد الهزيمة من انجلترا بهدف دون رد.
تناقضات غريبة
أزمة نوبي، وهو بطل الرحلة بلا جدال، مزدوجة، فقد جاء من قلب تناقضات غريبة للغاية، فنشأ مختلفا ومتفردا حتى من حيث شعره الأبيض، الذي لا يتناسب مع سنوات عمره كشاب، لقد خلق مختلفا، وهو يدرك ذلك وسعيد به.
أمه وردة أنجبته من الدبلوماسي الإفريقي، وهو الرجل الوحيد الذي أحبته، وجدّته كانت تخشى أن يولد أسود اللون، فكانت تصب اللبن الأبيض على رأس ابنتها الحامل، وردة تزوجت رجل ثري، ثم تزوجت من يوسف شقيق الرجل الثري، وأنجبت منه ولدا أطلقت عليه اسم جمال، نكاية في الأثرياء، لأن جمال عبد الناصر هو الذي أمم أملاكهم.
لا يعرف نوبي من هو والده، ولا يعرف أن له أخ اسمه جمال، ولا يعرف أن عمه تزوج من أمه، ثم تزيد أزمته، ويزيد اغترابه عندما ينتمي الي التجربة الناصرية تماما، ثم يشهد تحولات الإنقلاب عليها، وعندما يتبرع بأمواله للفقراء، تحجر أمه عليه، وتودعه مستشفى الأمراض العقلية، وعند خروجه يجد العالم كله قد تغير، الشيوعية تنهار، يعدمون شاوشيسكو، ويجد في انتظاره عالما أكثر جنونا مما رأى في المستشفى.
كلمة “مرسيدس” هي أيضا مفتاح هذه التغيرات، وكما نسمع من محمد طاهر، الضابط السابق ورجل الأعمال، فإن نصف المصريين لديهم مرسيدس، ونصفهم يحلمون بأن تكون لديهم مرسيدس، إنها رمز الحلم بالثراء، بأي وسيلة، وهي أيضا رمز المكانة الإجتماعية، وقد كانت كذلك في تلك السنوات، وما زالت تحتفظ بنفس المكانة، وكأنها عنوان على الصعود والمكانة، وقد تفنن المصريون في إطلاق أسماء محلية على موديلات السيارة الألمانية الفاخرة، فهذا الموديل اسمه “الخنزيرة”، وهذا الموديل يستحق اسم “التمساحة”، وهذا الموديل اسمه “الزلمكة”… الخ
مرسيدس إذن لافتة تصلح تماما كعنوان للعصر الجديد، ولكن يسري يستخدمها أيضا كاسم لزوجة العم يوسف، والتي تقوم بتريبة جمال، كما أن عربة المرسيدس التي تركبها صديقة عفيفة، تتحول في النهاية الى عربة انقاذ من الكابوس، والخروج من النيران، حاملة معها المهمشين الثلاثة: نوبي وجمال وعفيفة.
الثلاثة نجحوا في النهاية في الخروج من الجحيم، استخدموا المرسيدس ليهربوا بها ومنها، وانطلقوا الى عالم بسيط للغاية، عفيفة تقبّل نوبي، وجمال يلهو مع الخيول والحمير، عالم بدائي يعيد سيرة الحياة، بعيدا عن جنون البشر.
سخرية مزدوجة
أما الرحلة الشاقة نفسها، فإن يسري نصر الله ينتقد فيها بمنتهى السخرية أحوال وحكايات العائلة، بنفس الدرجة التي ينتقد بها أحوال وحكايات المجتمع.
في حفل زواج يوسف من رئيفة هانم، نرى ألوانا من البهجة الفارغة، وألوانا من البشر المتحولين، وخصوصا من رجال اليسار القدامى، الذين صاروا اليوم من رجال الحزب، ومن أهل الثراء، نشاهد فتاة يقضي معها نوبي لحظات متعة، ولكنها ترفض الزواج منه، نشاهد عجوزا يغني مع نوبي: ” ما أقصر العمر كي نضيعه في النضال”، نوبي يأخذ زجاجة خمر، ويعطيها لشاب وفتاة في مركب، ونشاهد رئيفة هانم، عروس العم يوسف، التي سيعرف نوبي أنها تعمل في بيزنس عجيب، من تجارة الكوكايين الى توريد العمال المصريين للخارج، بل إنها تخطف أطفال الشوارع، ويتردد أنها تبيع أعضاءهم البشرية، إنها تلخص قبح زمن البيع والشراء، وصديقتها زميلتها في البيزنس امرأة ترتدي غطاء أنيقا للرأس.
حفل الزفاف يكشف ل نوبي مجتمعا غير ما عرف من قبل، ستنتهي الى الأبد أيام النضال والحلم، وسيعرف نوبي رجلا يريد أن يتحكم في حياته، ويظهر له طوال الفيلم، محمد طاهر الذي لعب دوره سيف عبد الرحمن من أهم شخصيات الفيلم، هو يساري معتزل، يقول إنه أدرك سقوط الشيوعية قبل أن تسقط الفعل، أو قبل أن يسقط هو، إنه أيضا ضابط ورجل أعمال، أو رجل أمن وبيزنس معا، وكأن تحالفا واضحا قد امتد بين الأمن والبيزنس أو العكس.
التورط العائلي بعد موت العم يوسف، واكتشاف وجود الأخ جمال، سيجعل نوبي يتورط في المجتمع الذي انفصل عنه منذ أربع سنوات: فوضى العائلة في الحفلة، وفوضى مجتمعية أقرب للكابوس، حيث ننتقل من احتفالات المصريين بالوصول الى كأس العالم في إيطاليا، وهتافاتهم باسم مدرب المنتخب: “جوهري .. جوهري”، الى استقبال جثث المصريين القادمة في توابيت من العراق، الفيلم جعلها جثث قادمة نتيجة وباء، لا يمكن فتح التوابيت خشية العدوى، وبالتالي يمكن أن تصبح تلك التوابيت وسيلة مدهشة لتهريب المخدرات.
أما أصل قصة التوابيت القادمة من العراق فهو واقعي، وسببها مقتل عشرات المصريين في العراق الذين احتفلوا بصعود مصر الى كأس العالم، نشبت مشاجرات أدت الى قتل العديد منهم، وشحنت توابيت تحمل جثثهم الى الوطن.
من حدوتة كذب وخداع يخرج نوبي الى أرض كذب وخداع: صراع على ميراث يوسف، ورحلة بحث عن جمال العائش في عالم سينما الدرجة الثالثة، ومخدر الماكستون فورت، يظهر أطفال الشوارع من شمامي الكُلّة، وتظهر عفيفة الراقصة التي تكره الرجال، شبيهة الأم التي تظهر بعد سفر وردة، ونعرف روحية مدربة الرقص المصابة بالشلل، ورفيقه الأرواح التي تجعلها تتنبأ بالمستقبل، ثم تقتل رئيفة هانم وصديقتها، قتلتها أم شاب عرف الطريق الى مخدراتها.
سفينة نوح
يتحدث نوبي الى عفيفة عن سفينة نوح التي اصطحب فيها الناجين من الطوفان، يتمنى لو كانت له مثل هذه سفينة، ليصطحب معه عفيفة وجمال، سيتحقق ذلك فعلا في مشهد النهاية بالهروب داخل المرسيدس.
الفيلم يرى أن عفيفة ونوبي وجمال خارج هذا الزمن، ولذلك يستحقون النجاة من الطوفان، عفيفة التي تحب نوبي، وترفض أن تكون أمه، والتي تبدو عفيفة فعلا في وسط يريد جسدها، وبين رجال لا يرونها إلا أنثى، هي التي ستخلص نوبي من عقدة الأم، وهي التي ستتمسك به، رغم أنه رفض أن تكون جزءا من الكابوس الخاص به، عفيفة شخصية مختلفة جدا مثل نوبي وجمال.
الأخ جمال الرسام تمرد مرتين: مرة عندما أصر على علاقة مثلية مع صديقه أشرف، ومرة عندما رفض أن يحصل على ميراثه من والده يوسف، حتى لا يتحول من إدمان الماكستون فورت الى إدمان الكوكايين، وكأن الثراء شر كامل، هو كما يبدو سعيد بحياته التي تليق بفنان متحرر، مختلف في كل شيء، واختار وتحمل مسؤولية اختياره، نوبي وزّع أمواله على الفقراء، وجمال رفض أن يحصل على ميراثه، في رفض ميراث الكذب والحزن، معنى رمزي برفض ميراث الجيل القديم، ورفض ما فعلوه في حياتهم.
يمكنك أن تقارن اختلاف نوبي وعفيفة وجمال، والثمن الذي دفعه الثلاثة بسبب تمردهم، بحالة الانسجام بين العالم الجديد وبين وردة ويوسف ورئيفة وصديقتها ومحمد طاهر والسعدني رجل الحزب حاليا واليساري السابق.
قدرتهم على التكيف مع الزمن الآتي مذهلة، ومحمد طاهر يغير رأيه ورؤيته ل رئيفة حسب الطلب، ووفقا لاتجاه الريح، والسعدني لا يريد حتى أموال نوبي وتبرعاته، لأن حكاية نوبي ارتبطت بأشياء تثير الشوشرة والفضائح.
وردة الأم تعترف بماض كاذب وحزين، ورغم أنها كانت مختلفة وجريئة عندما أحبت الدبلوماسي الإفريقي، إلا أنها سرعان ما صارت امرأة عملية، تزوجت من يوسف، وحصلت على الثروة، وتركت له ابنها جمال، وهي التي حجرت على نوبي، حتى لا يبدد أمواله على الفقراء، وسنراها في آخر الفيلم، وهي تستعد لبداية جديدة مع زوج ثري آخر.
عفيفة تشبه الأم في الشكل، ولكن عفيفة لم تبع نفسها، وعندما أحبت، لم تترك من أحبت، العالم تغير ولكن نوبي وجمال وعفيفة لم يتغيروا أبدا، هناك صراع شرس في الأعلى على المال والمرسيدس، وهناك فقر وموت ومخدرات في الأسفل، حتى البهجة الوحيدة بالصعود الى كأس العالم، تنتهي بخروج ودموع اللاعبين بعد الهزيمة من انجلترا، بينما يتأمل نوبي مذهولا في نفس الوقت مذبحة النساء في شقة رئيفة.
مشهد الخروج
أزمة نوبي كان يمكن أن تنتهي بأن يقتل أي أحد، بل بأن يقتل نفسه، ولكن يسري نصر الله اختار له الهروب من المدينة، وسط نيران معركة بين البوليس والجماعات الدينية، بينما يراقب تمثال طلعت حرب النيران المشتعلة.
مشهد الخروج المرسيدس يذكرنا على نحو ما بمشهد خروج تفيدة وابراهيم مسافرين بدعم الجد في نهاية فيلم “عودة الابن الضال”، بعد المذبحة الأسرية المروّعة، وبعد أن بدأ الطوفان.
اختار يسري انقاذ الثلاثة المختلفين الذين لا يقاتلون من أجل المرسيدس، ولكنهم وجدوها أمامهم، فاستقلوها ونجوا، ثم تركوا السيارة، ليبدأوا حياة جديدة.
وبينما يغني حمدي هاشم كلمات سيد حجاب وألحان محمد نوح المتفائلة: ” وداع وداع وداع/ للحزن وللضياع”، و”ضباب وسحاب بيتلاشى”، “يا أيامنا السعيدة/ الأحلام مش بعيدة”، فإننا نتذكر على الفور أغنية نهاية فيلم “عودة الابن الضال”، الت يكنبها صلاح جاهين، التي تودع الماضي، وتودع الأحزان، والتي لا تجد سبيلا غير أن ننظر أمامنا، الى شمس أحلامنا، التي تشق السحاب الغميق، وليس كابوس فيلم “مرسيدس”، في جوهره، إلا امتدادا لأثار الطوفان الذي رأيناه في “عودة الابن الضال”.
لكن ما نراه من نيران ومشاهد بوؤس وفقر وخراب مع عناوين النهاية، يجعلنا نشك أن تمر حياة الثلاثة بهدوء بعد الخروج، وتجعلنا نشك أن ينجو أحد من الطوفان، مهما كان بريئا ومختلفا.
نجح يسري نصر الله في فضح زمنه، أشبعه تعرية وسخرية، وجعل أشرف الشاب الضائع يضحي من أجل صديقه جمال، بينما تبدو وردة الأم أبعد ما يكون عن فكرة التضحية، حتى حبها الوحيد، أفسدته، مثلما أفسدت حياة ولديها بالتخلي عنهما.
قدمت يسرا دورا ممتازا، سواء بتجسيد عالم وردة أو عالم عفيفة، وكان زكي عبد الوهاب رائعا في شخصية نوبي، نموذج مختلف في كل شيء، وزكي أصلا شخصية مختلفة، عبلة كامل كانت أيضا لامعة في دورها القصير، إنها أيضا نموذج عجيب، وعين المستقبل الذي لا يكذب.
قدم الفيلم ممثلين واعدين صارا فيما بعد من النجوم هما مجدي كامل في دور جمال، وباسم سمرة في دور أشرف، وقدمت منحة البطراوي أحد أفضل أدوارها بأداء شخصية رئيفة هانم، التي تجسد تقريبا أسوأ ما في هذا الزمن، أما دور يوسف فمن أدوار تميم عبده المميزة القديمة، هذا مشخصاتي جيد جدا، ويستحق دوما أدوارا كبيرة ومهمة.
المشرف الفني أنسي أبو سيف أخذنا الى ألوان من الأماكن الغريبة والمتناقضة، لا يمكن أن تنسى مثلا مشهد توابيت قرية البضائع، وحملت ملابس ناهد نصر الله نفس التنوع والغرابة، نوبي أصلا غريب الهيئة وفي أرض غريبة.
هذا الكابوس صوّره ببراعة رمسيس مرزوق، وصاحبته موسيقى محمد نوح المعبرة زمن الحلم والألم وقامت بمونتاجه رشيدة عبد السلام، وشارك في كتابة حواره سيد حجاب، فكأن الفيلم نتاج رؤية جيل كبير ومبدع، عن زمن ضائع، وزمن كئيب بديل وعبثي.
يهتف المصريون في التترات بعد وصولهم لكأس العالم: “روما.. روما”، سعادة لم تكتمل، وكابوس كان قد بدأ فعلا للتو، أما الذي فات فهو مجرد ميكى ماوس مقارنة بما تحقق في السنوات التالية.
أكان لابد يا وردة أن تحكي؟
أكان لابد يا نوبي أن تخرج من مستشفى الأمراض العقلية المغلقة الى عالم الفوضى العقلية المفتوحة