مرتفعات ويذرنج.. سينمائياً
كتّاب وتشكيليون وموسيقيون وسينمائيون افتتنوا برواية إميلي برونتي الوحيدة “مرتفعات ويذرنج”، والمكتوبة في العام 1847. لقد سحرتهم، بوجه خاص، أجواؤها القاتمة، وبناؤها المحكم، وقصة الحب المحموم، والعلاقات الغريبة المتناقضة، وتعدّد مستويات السرد، ودمجها للعناصر الواقعية والرومانسية.
السورياليون رحّبوا برواية برونتي بوصفها تحفة أدبية في تناغم تام مع رؤاهم ومعتقداتهم.
القراء أحبوا الرواية ليس فقط لتصويرها قصة الحب التراجيدية، بل أيضاً لما تحتويه من غرابة وغموض وتوترات وعنف وغضب ورعب، وتصويرها لعالم يتعايش فيه ما هو حلمي مع ما هو واقعي، عالم مأهول بالأحياء والأشباح. مع حضور للوهمي، المتخيّل، المخفيّ، اللاشعوري.
الأولى والأخيرة
المدهش أن هذه الرواية (مرتفعات ويذرنج) هي الأولى والأخيرة التي أبدعتها مخيلة إميلي برونتي، إلى جانب قصائد قليلة.
بدأت إميلي برونتي (1818 – 1848) في كتابة الرواية في العام 1845، حين كانت في السابعة والعشرين من عمرها. نشرت الرواية باسم مستعار (هو أليس بيل) في 1847، وبعد عام توفت وهي في الثلاثين من عمرها، بسبب إصابتها بالسل.. وتشير بعض المصادر إلى أن المرض نتج على الأرجح بسبب تلوّث مياه القرية الجارية من المقبرة المجاورة.
عاشت إميلي حياةً قصيرة حافلة بالعزلة والانطواء والغرابة، في قرية نائية ذات أوضاع صحية سيئة للغاية. مع شقيقة موهوبة هي شارلوت (1816 – 1855) مؤلفة “جين أير” الصادرة في 1847. وشقيقة صغرى موهوبة في الكتابة أيضاً هي آن (التي توفت بالسل بعد ستة أشهر من غياب إميلي) وشقيق يدعى برانويل.
“مرتفعات ويذرنج” التي هاجمها نقاد الماضي بشراسة، لقيت نجاحاً كبيراً لدى القراء، مما أدى إلى إعادة طباعتها مرات عديدة، واعتبرها البعض أهم رواية في القرن العشرين تنتمي إلى القرن التاسع عشر. وثمة مجلة فصلية أكاديمية بعنوان “دراسات برونتي”، تصدرها جمعية برونتي، متخصصة في نشر كل ما يتعلق بأدب وحياة الشقيقات برونتي.
السينما تقرأ الرواية
تم تحويل هذه التحفة الأدبية إلى الشاشة مرات عديدة، منذ أول إعداد لها في العام 1920 عبر فيلم صامت. أغلب تلك الأعمال أخفقت في إيصال مضمون الرواية بكل أبعادها المادية والروحية، وركّزت فقط على العلاقات العاطفية والنزوع الميلودرامي.
في العام 1939 قدّمت الشاشة الأميركية الرواية في فيلم من إخراج وليام وايلر، في حكاية ميلودرامية عن الحب التراجيدي، المحكوم عليه بالموت، وعن العواطف المتعارضة، وعن الانتقام، ضمن بيئة كئيبة، حيث أغلب الأحداث تدور قرب مستنقعات يوركشاير وأراضيها السبخة والأودية الرطبة الكئيبة.
الفيلم يعد واحداً من أكثر كلاسيكيات هوليوود دراميةً ورومانسية. هذا الفيلم الذي حقّق نجاحاً فنياً وجماهيرياً كبيراً، ركّز في تحويله للرواية على 17 فصلاً فقط من الفصول الـ 34 التي تشكّل الرواية كاملةً. الفيلم سعى إلى تبسيط الرواية واختزالها إلى ميلودراما تعيسة عن علاقة الحب المحكومة بالإخفاق. كل تعقيد في الرواية، وكل مظاهر الغرابة، تعرضت للإقصاء.
معضلة الإعداد
عندما يتصل الأمر بإعداد العمل سينمائياً، فإن عدداً من النقاد يؤكدون على أن رواية “مرتفعات ويذرنج” من بين أكثر الروايات التي أسئ فهمها في تاريخ السينما. إذ غالباً ما يُنظر إليها بوصفها قصة حب تراجيدية، على غرار روميو وجولييت. بالطبع هي تحتوي على علاقات رومانسية، مشحونة عاطفياً.
هيثكليف الغجري المتشرّد، الحساس، الذي يلتقطه مالك المزرعة من شوارع ليفربول وهو طفل، ويتبنّاه فينشأ في كنف العائلة، في المنطقة المسماة مرتفعات ويذرنج، مع كاثي التي تميل إليه، ومع شقيقها الغيور والحقود هيندلي الذي يمقته ويحتقره. بعد وفاة رب العائلة، يجد هيثكليف نفسه في محيط عنصري، عدائي، غير آمن، عرضة للاضطهاد والاستغلال والإذلال، وتتم معاملته كعبد. غير أن روحه تظل متمردة، غير قابلة للإخضاع والترويض.
إن ما يحول دون انفجاره وثورته على وضعه هو حبه لكاثي. ينشآن معاً، يقعان في الغرام، لكن هذه العلاقة تنفصم على يد أخيها. الحبيبان يجدان العزاء في المستنقعات المهجورة. لكن كاثي تبقى ممزقة بين عاطفتها الغريزية التي لا تتوافق مع بيئتها وتتعارض مع القيم والتقاليد، ورغبتها في العيش بسلام وطمأنينة وأمان، هذه الحياة الهادئة المترفة التي يستطيع أن يوفرها لها جارها الثري إدجار. هكذا تختارالحياة السهلة، الخالية من التناقضات والتعقيدات.
زواج كاثي من الجار الثري، إدجار، يجعل هيثكليف المشحون بالمرارة، الغاضب من الخيانة، يهرب. يختفي لسنوات، ثم يعود وقد اكتسب ثروة وصار غنياً. لكي يبقى قريباً من كاثي، ولكي يحقق انتقامه الذي خطط له في الغربة، يتزوج أخت إدجار، إيزابيلا، ليس حباً فيها، ولكن لإغاظة أخيها وإثارة غيرة كاثي. بينما إيزابيلا تحبه فعلاً وتريد منه أن يبادلها الحب. وفي يوم مشؤوم، تموت كاثي بعد أن أنجبت طفلة.
لكن القصة لا تنتهي هنا، كما يحلو لأغلب، إن لم نقل كل، الاعدادات السينمائية أن تفعل، متجاهلة كلياً القسم الآخر من الرواية، حيث تكبر ابنة كاثي وتتزوج ابن هيثكليف، وعندما يموت هذا قبل الأوان تتزوج ابن هيندلي، بينما يحاول هيثكليف المسن، في شيخوخته، أن يتلاعب بمصائرهم، مدفوعاً بالرغبة في الانتقام من هندلي الذي عذّبه في صغره. هذا هو الصراع المركزي في الرواية: رجلان يتصارعان من أجل النفوذ والملكية، وما كاثي والجيل اللاحق إلا امتداداً لذلك.
مع حبكة معقدة كهذه، واجه كتّاب السيناريو تحديات هائلة في كتابة الحوار والتشخيص، فالرواية حافلة بالغموض والتعقيد. ولهذا فإن أغلب الإعدادات السينمائية ركّزت على قصة الحب التراجيدية، مع التصرّف في البناء والسرد.
يقول الكاتب المسرحي بيتر بوكر، الذي أعد “مرتفعات ويذرنج” للتلفزيون في عمل مدته أربع ساعات، مركزاً على علاقة الحب بين كاثرين ابنة كاثي وهاريتون ابن هيندلي: “إذا أنت أنهيت عملك بهيثكليف وكاثي فإن نهايتك تكون تراجيدية، لكن إذا أنهيت العمل ملتزماً بنهاية الرواية فإنك ستعرض هزيمة رغبة هيثكليف في الانتقام والبغض. إنه ضحية انتقامه”.
عندما كانت المرأة بلا صوت
في إحدى لقاءاتها، عبّرت المخرجة أندريا أرنولد عن أسفها لأنها لم تستطع أن تعالج القسم الثاني من الرواية. وقالت: “لم أكن أحاول تصوير الرواية كلها بل حاولت أن أقبض على جوهر الرواية”.
في إعداد أندريا أرنولد للرواية نجدها أيضاً تركّز في حبكتها على علاقة كاثي وهيثكليف، مسندة دور هيثكليف إلى شاب أسود البشرة، ربما استجابة لمفهوم أن أميلي برونتي كانت تكتب عن العِرق والطبقة ومخاطر الانتقام، وأنها كانت تصف هيثكليف بالفتى الغجري الداكن اللون، القادم من ليفربول، ميناء العبيد.
تقول أندريا أرنولد: “لا أحد استطاع أن يخضع هذه الرواية ويلخصها بسهولة تامة. هي تعني الكثير من الأشياء بالنسبة للكثير من الناس، لكن من بين الأمور التي استوقفتني حقيقة أن إميلي كانت قلقة بشأن الفوارق الاجتماعية، ولكونها امرأة في مجتمع كابح وقمعي. واعتقد أن هيثكليف هو في الواقع تمثيل لجزء منها، الجزء الذي كان يشعر بالضيق والانزعاج من كونها مختلفة. النساء آنذاك لم يكن من المفترض أن يمتلكن صوتاً. ما إن تصل الفتاة سن البلوغ حتى يتوجب عليها أن تتزوج من أحد رجال القرية. كان ذلك أشبه بالزواج المدبّر، حيث لا يحق لها أن تعترض، وأن تبدي رأياً، وأن يكون لها أي رأي في الحياة. مثل هذه الأوضاع نجدها واردة في الرواية. إن هيثكليف يمثّل الجانب المعتم من إميلي، الجانب الجامح والضاري. في الرواية، تقول كاثي: (أنا هيثكليف). وهيثكليف هو الغريب، الآخر، الأجنبي، اللامنتمي. عندما يحضر بينهم للمرة الأولى، يتحدث بلغة لا يفهمونها. إميلي كانت قادرة على سبر واستكشاف جوانب من ذاتها. كانت تعبّر عن مشاعرها الأكثر غوراً، الأكثر عمقاً، الأكثر سريّة. الرواية مكتوبة في زمن لم يكن يتاح للمرأة أن تعبّر عن مشاعرها تجاه أي شيء”.
فيلم أندريا أرنولد مصوّر كله تقريباً من وجهة نظر هيثكليف، الذي يمثّل الوجود المحتدم، الهائج، القاسي، المشبوب العاطفة، الذي لا يمكن احتواءه ولا ترويضه. الوجود الذي تتوق إليه كاثرين عندما تؤكد “أنا هيثكليف”. غير أنهما يعيشان في عالمين منفصلين ومستقلين، لذلك لا يلتقيان.. حتى في الموت.
إعدادات أخرى
تقول الأستاذة في الجامعة الأسترالية شاشر: “كتاب برونتي لا ينتمي إلى التيار الرومانتيكي، إنها رواية قاسية ومؤلمة. عندما تقرأ المقالات التي كُتبت عنها في تلك الأزمنة، ستجد أن النقاد في ذلك الحين وصفوها بأنها رواية فظة ومتوحشة، ولما اكتشفوا أن من كتب الرواية امرأة، وجهوا لها نقداً ضارياً. نحن، القراء، من ألصق صفة الرومانسية بالرواية، لأن ذلك كان يناسبنا تماماً”.
في الواقع، كان هذا يناسب العديد من السينمائيين. بالإضافة إلى النسخة التي أخرجها وليام وايلر في 1939، تحولت الرواية إلى شاشتي السينما والتلفزيون 15 مرّة تقريباً.. وهذا يشمل الفيلم الصامت المصوّر في 1920. والفيلم الذي أعدّه بونويل بعنوان “أعماق العاطفة” في 1953 وجعل أحداثه تدور في المكسيك، مغيّراً أسماء الشخصيات. والفيلم الأميركي- الانجليزي من إخراج روبرت فيوست في 1970. والفيلم الذي أخرجه الفرنسي جاك ريفيت في 1985. والفيلم الذي أخرجه الياباني كيجو يوشيدا بعنوان Onimaru(1987). والفيلم الذي أخرجه بيتر كوسمنسكي في 1992 ومثّل فيه راف فاينز وجولييت بينوش.
لويس بونويل كان مولعاً بثيمة الحب المجنون في الرواية. وقد أنهى فيلمه بالبطل يفتح قبر حبيبته. وبالقرب من المقبرة يظن أنه يراها، فيسقط ميتاً.
عن الرواية قال بونويل: “أحببت إميلي برونتي. كل السورياليين كانوا مغرمين بها. مرتفعات ويذرنج، بالنسبة لنا، قصة حب عظيمة”.
المخرج الفرنسي جاك ريفيت يتذكر أنه قرأ رواية “مرتفعات ويذرنج” للمرة الأولى، بالترجمة الفرنسية، وهو في التاسعة عشرة من عمره. وكان عليه أن ينتظر ثلاثة عقود حتى حوّل الرواية إلى الشاشة بعنوان Hurlevent، ناقلاً الأحداث إلى الريف الفرنسي، غير أن الفيلم نال فشلاً ذريعاً على الصعيد الجماهيري. لقد كان على ريفيت وشركاه في كتابة السيناريو تكثيف 34 فصلاً من الرواية، والتي تمتد عبر ثلاثة أجيال من 1771 إلى 1802، وتبسيط بناء القصة التي تتضمن العديد من الومضات الارتجاعية (الفلاش باك) ومطروحة من وجهة نظر عدة رواة. لقد أعدّ ريفيت الفصول الأولى وألغى الرواة المتعاقبين، وأحدث تغييرات، لكنه حاول أن يكون أميناً لروح الرواية. وهو استعان بممثلين من الشباب، انسجاماً مع الشخصيات الشابة التي تناولتها الرواية، وليس كما أرادت أغلب الأفلام أن تظهره حيث استعانت بممثلين في الثلاثين أو الأربعين من العمر، الأمر الذي لا ينسجم مع طيش واتقاد وحيوية وحساسية أبطال الرواية.
في السينما المصرية كذلك نجد إعداداً للرواية عبر فيلم “الغريب” (1956) إخراج كمال الشيخ وفطين عبدالوهاب، وتمثيل يحيى شاهين، ماجده، كمال الشناوي. كما تم تحويل الرواية إلى الأوبرا وإلى الاستعراضات الموسيقية. لقد عاشت هذه الرواية ضمن الثقافة الشعبية أكثر من 200 سنة.
يقول شارميان نايت، وهو كاتب وعضو في جمعية برونتي: “من وجهة نظري، لا يمكنك أن تفسد نصاً كلاسيكياً لأنه مورد يمكن تجديده. كل قراءة هي ضرب من عمل فني جديد، وإعادة بناء للنص من جديد. ورواية (مرتفعات ويذرنج) لها حياة هائلة ممتدة خارج صفحاتها”.
إن جزءاً من التحدّي الذي يمثّله إعداد هذه الرواية سينمائياً هو أنها مروية من وجهة نظر غريب مبلل بالمطر يتوقف عند منزل هيثكليف. لكن مدبّرة المنزل تسرد للراوي قصة العائلة. بالتالي فإن الراوي يؤول كلام الراوية الثانية في ما يتعلق بالجيلين من العائلة.
يقول شارميان نايت: “لا نستطيع أن نثق بتلك الأصوات لأنها كلها شخصيات تحمل أجندتها الخاصة. مع شارلز ديكنز أو شارلوت برونتي أو آخرين من كتّاب القرن التاسع عشر، أنت مع كاتب جدير بالثقة والاعتماد، وهو يقول الصدق. لكن مع إميلي برونتي، أنت تسترق السمع إلى الأحاديث، ولا تعرف ماذا تصدّق”.