“مرايا الشتات”.. توثيق صوري طلق لقصص التغريبة العراقية
استضاف المقهى الثقافي العراقي في لندن مؤخرا المصور والمخرج السينمائي قاسم عبد عبر عرض شريطه الوثائقي “مرايا الشتات” (2018).
قدم للأمسية المخرج علي رفيق باسم المقهى، وقرأ الكاتب والقاص لؤي عبد الإله ومثله الناقد الفني صفاء صنكور بعضاً من ملاحظاتهما الشخصية بشأن ما سوف نشاهده.
يدعونا المخرج في جديده الى زيارة تفقد لمصائر شخصيات عمله “وسط حقول الذرة الغريبة” (1991)، ولنتابع معاً ما لاح أقدارها من تغيرات الزمن وما تركه على هذه الحيوات من تبدلات جسمانية ومعرفية ومكانية. ذلك ان الفنانين السبعة (عرب وكورد)، إختاروا العاصمة الإيطالية روما ومثلها مدينة النهضة الأوربية فلورنسا كمكان لإكمال دراساتهم الأكاديمية منتصف سبيعنيات القرن الماضي، إلا ان إندلاع الحرب العراقية الإيرانية، 1980، حال دون عودتهم الى بلدهم الأصلي. بيد ان قرار البقاء في أوروبا، كما يقول الشريط، لم يكن سهلاً وقتها، إذ له شروطه الصعبة، تأمين حق الإقامة والعمل، وفي الوقت ذاته متابعة همومهم الفنية ان كانت رسماً او نحتاً.
يطعم المخرج جديده بلقطات قديمة، رغم قلتها، وأخرى حديثة، وكأننا إزاء سرد يستحضر الماضي بعد ربع قرن من الزمن مثلما يستحضر عالم اليوم. ومن خلال صور هذه الثنائية، الوطن أو صورة الوطن المرغوبة مقابل صور المنافي أو المغتربات، نلج الى علاقة الفنان بالمكان كحيز للتجربة الإبداعية وتساؤولاتها المفتوحة على أسئلة الحياة من جهة، والتأمل في قلق الفنان بما يحمله من إنفعالات ورغبات وطموحات قريبة من ذاته من جهة ثانية.
تتوالى فصول الحكاية عبر توثيق طلق ليوميات الفنانين أنفسهم وعلى لسانهم، ذكرياتهم الحلوة والمرة، إِشتغالاتهم الفنية والخلاصات الأسلوبية التي توصلوا إليها وعلاقتهم بالوطن الأول. ما شاهدناه، في حقيقته، يتجاوز “مرايا” “الشتات” لمجموعة فنانين يسردون قصصهم الشجية، وكأنه يشمل حكايا قافلة طويلة من أبناء جلدتهم ممن وجد في مدن الإغتراب مستقراً له على مدى العقود الثلاثة الماضية.
إننا نتعرف على الفنانة عفيفة لعيبي (1952) وتجربتها الحياتية المضنية في مدينة فلورنسا، مثل تأمين علاج لأبنها الوحيد من دون أوراق رسمية، قبل إنتقالها الى هولندا والإستقرار فيها. هذه النقلة وفرت للفنانة، حسب كلماتها، فرصة إستعادة فرح داخلي وسعادة إنعكس على محمولات لوحاتها من مواضيع، ومن ألوان وتجديد في مضامين أعمالها الفنية، ولعل الأهم إقترانها بأستاذ جامعي أعجب بإشتغالاتها قبل ان يلتقيها.
وفي هولندا، نتابع حكاية الفنان الكوردي بالدين أحمد (1954) المثقل بمرارة الماضي السياسي وخيباته المتكررة، ومع ذلك نجح الفنان بإقناع السلطات المحلية في السليمانية من عمل نصب لأخيه الشهيد على يد حزب البعث.
وعلى المنوال ذاته، ننتقل الى متابعة فصول حكاية الفنان الكوردي فؤاد عزيز (1951) بين مشغله كنحات وكاتب ورسام للأطفال في آن، له 25 كتاباً لهذه الفئة العمرية، إذ أتاح له الإقتراب من عالم الطفولة بما تحمله من خيالات طلق التعبير الفني في تجاربه النحتية.
وتأخذنا الكاميرا الى متابعة مقاطع من إشتغالات الفنان علي عساف (1950)، مقيم في مدينة روما، التركيبية مثل “النرجسي” عن مديمة البصرة والمقتبس من عمل الإيطالي كارافاجيو، و “أنا هو، أنا هي”، والمهدى الى صديقه كامل شياع، وسعيه بإعادة إسم بلده الى بينالة فينسيا بعد غياب طويلة.
ويستعيد الفنان جبر علوان (1948)، مقيم في روما، ذكرياته عن مدينة دمشق وناسها وأمكنتها بلغة تتوسم البساطة والعمق. بينما لا تبتعد تجربة الفنان كاظم الداخل (1951)، مقيم في السويد، ومثله الفنان رسمي الخفاجي (1947)، مقيم في فلورنسا، الفنية كثيراً عن تجارب أقرانهم. صحيح ان كاميرا قاسم عبد وثقت حكايا 7 فنانين تابعناها على مدى 97 دقيقة، إلا انها ذهبت بعيداً في إقتفائها لحظات أثيرة وعبر لقطات تختزن معان كثيرة، صور الفنانين وهم في عز شبابهم وأخرى تطلعهم الى نبض الشارع العاج بالحركة والناس من خلال نوافذ سكنهم أو الصمت أمام الكاميرا.
ولعل توثيق حكايا “مرايا” الفنانين في “شتاتهم” نجد مراجعه في إشتغالاته قاسم عبد السينمائية السابقة مثل “ناجي العلي” (1999) “حياة ما بعد السقوط” (2008) و”همس المدن”(2014)، والقائمة على ترك عدسة الكاميرا تشبع موضوعها بهدوء وروية.