“مدام كوراج” قصة رمزية تلخص الانفصال الاجتماعي في الجزائر اليوم
ضمن مسابقة قسم “آفاق” (أوريزونتي) بمهرجان فينيسيا السينمائي الـ 72، عرض فيلم “مدام كوراج” للمخرج الجزائري المخضرم مرزاق علواش (71 سنة) الذي يعود بفيلمه هذا الى المهرجان بعد عامين من عرض فيلمه السابق “السطوح”.
ليس من السهل معرفة ما يشير إليه إسم الفيلم إلا بعد مشاهدته، فهو اسم نوع من المخدر الرخيص المنتشر في أوساط الشباب من العاطلين والمحرومين. وتدور أحداث الفيلم في مدينة مستغانم، غربي الجزائر، وبطل الفيلم شاب مراهق لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره، ينتمي لأسرة فقدت عائلها الذي كان عاملا في قطاع النفط في منطقة حاسي مسعود بالصحراء الجزائرية، والصبي يعيش الآن مع أمه وشقيقته في أحد الأكواخ القصديرية المنتشرة خارج الكثير من المدن الجزائرية.
هذا الشاب “عمر”، ينعكس عليه الإحساس بالقهر الاجتماعي بقسوة، وهو لم يكمل تعليمه، بل انضم لزمرة الشباب العاطل الذي يلجأ للسرقة وخصوصا خطف السلاسل الذهبية من النساء، ونشل حقائب اليد، ورغم خشونته فهو لا يستخدم العنف في أعمال السرقة السريعة التي يقوم بها. وهو عندما ينجح ذات يوم في خطف سلسلة ذهبية من رقبة فتاة تدعى “سلمى” كانت بصحبة زميلاتها من طلاب الثانوية، لكنه يشعر بانجذاب قوي نحوها يدفعه لمراقبتها وتتبعها وإعادة السلسلة الذهبية إليها. لقد أصبح عمر مغرما بسلمى، وأصبح يقضي الوقت جالسا أمام بيتها ينتظر أن تظهر في الشرفة، مما يؤدي إلى تعرضه للعقاب الشديد على يد شقيقها الذي يعمل في الشرطة.
ونتيجة الفقر والفاقة والحرمان الاجتماعي، تمتهن شقيقة عمر “صابرين” الدعارة، وهي تستخدم جهاز كومبيوتر محمول في التواصل مع القواد “مختار” الذي يدير شبكة للدعارة، وتعود الى الكوخ الذي تقطن فيه مع أمها في ساعة متأخرة من الليل. تتعرض صابرين ذات ليلة لاعتداء عنيف من جانب مختار بسبب تقاعسها عن القيام بما كلفها به بعد أن اكتفت بمضاجعة خمسة من الزبائن بينما كان ينتظر مختار أن تعاشر ما بين 20 إلى 30 رجلا- كما يقول لها حرفيا!
يغضب عمر بعد رؤية شقيقته وقد شوه وجهها وأصبحت عاجزة عن الحركة، ويذهب يمارس مزيدا من عمليات السرقة ، ثم يبيع المشغولات الذهبية التي يسرقها لتاجر في السوق، ويشتري سكينا كبيرا وبعض العقاقير المخدرة، وينتوي شيئا. إنه يستخدم دراجة نارية ينتقل بها عبر أرجاء المدينة، ورغم فقره فلديه إحساس عال بذاته وبكرامته، فهو مثلا يعتدي بالضرب المبرح على شاب يسخر منه بعد أن رفض اعطاءه سيجارة. لكن عمر يفقد قدرته على الشغب بعد أن يتعاطى جرعة للحبوب المخدرة التي يطلقون عليها “مدام كوراج” أي “السيدة شجاعة” اعتقادا بأنها تمنح من يتعاطاها الشجاعة والجرأة.
يذهب عمر مسلحا بالسكين أو الساطور الكبير، تحت تأثير المخدر، لينتقم من مختار، فيصيبه إصابة مباشرة في عضوه الذكري، ثم يشتري بعض السلع من الطعام والشراب بما في ذلك قطعة من اللحم ويحملها الى أمه واخته، فتعرب الأم له عن شعورها بالفرح خاصة وهي ترى قطعة اللحم للمرة الأولى منذ أشهر، وتطلق الزغاريد، ثم يذهب عمر للاحتفال بأنه قد أصبح “رجل البيت” باطلاق الشماريخ النارية أمام منزل سلمى، فيعرض نفسه لغضبة أخرى من غضبات شقيقها الذي يقتاده الى قسم الشرطة ويحقق معه ويضربه ثم يطلق سراحه رأفة به بعد أن يعرف أنه يتيم.
لا تنتهي هذه القصة نهاية محددة بل يتركنا مرزاق علواش أمام عمر مستلقيا أسفل درجات سلم بيت سلمى، ولا نعرف ما اذا كان نائما بفعل المخدر أو أنه قد توفي تحت تأثير المخدر!
دراسة لشخصية
الفيلم عبارة عن دراسة للشخصية، على غرار أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة، فهو يعتمد على التصوير الحر في الشوارع والمواقع الطبيعية، يمتليء باللقطات الطويلة التي تتابع البطل أثناء وقوفه أو تحديقه رافضا تبادل أي حديث مع شقيق سلمى، وكثيرا ما يحصره المخرج في لقطات قريبة أو قريبة جدا (كلوز أب) أو يتابعه وهو يذرع الشوارع بدراجته النارية، بكاميرا مهتزة متحركة في حركة حرة، مضفيا الطابع التسجيلي على الفيلم، كما توحي اللقطات المهتزة بالحالة العقلية للبطل الصغير الذي يتكشف تدريجيا خلله العقلي سواء نتيجة الادمان أو المعاملة الداخلية الصامتة، رغم ما يتمتع به من ذكاء فطري وقدرة على نشل الأشياء بمهارة من النساء، ثم الفرار بخفة. وفي أحد المشاهد يذهب عمر لشراء هاتف محمول، لكي يستخدمه ككاميرا يمكنه أن يلتقط بها الصور عن بعد لسلمى التي يغرم بها دون أن يجرؤ على مفاتحتها في الأمر.
يذكرنا عمر هنا على نحو ما، بـ “عمر” في فيلم مرزاق علواش الأول “عمر قتلته الرجولة” (1977) الذي كان سبب شهرة مخرجه. إلا أن عمر في “عمر قتلاتو” كان يعيش في دور الشاب “الشاطر” الذي يعرف كل شيء، يمكنه التحكم في حركة الأشياء في الحي الذي يقيم فيه، يضبط إيقاع الأشقياء من حوله، لكننا نكتشف تدريجيا أنه شخص وحيد شقي عاجز يعاني من الشعور بالنقص رغم ولعه بنفسه وتأمله صورته بلا انقطاع في المرآة كل يوم قبل خروجه من منزله للذهاب الى عمله الذي لا يحبه. وتنقلب حياته رأسا على عقب عندما يلتقي بفتاة تدعى “سلمى” أيضا، لكنه يعيش في وهم الحب عاجزا عن إقامة علاقة سوية مع “سلمى” فهو يكتفي بالعيش في الخيال الذي يخلقه في ذهنه. أما عمر في “مدام كوراج” فهو فاقد للأمل، عاجز حتى عن العيش في الخيال، بل يفضل الغرق في غيبوبة المخدر الذي يمنحه الراحة ويضمن له الانسحب تماما من الواقع. أما ولعه بسلمى فلا يبدو أنه سيوصله إلى أي شيء، بل سيجعله فقط عرضة لتنكيل شقيقها الشرطي به.
يستخدم مرزاق علواش شخصية الفتى عمر، للتعليق الرمزي على ما يحدث في الجزائر اليوم من ارتباط بين سياسة الاقصاء الاجتماعي، وبين انتشار المخدرات والدعارة والعنف، بين تعامل الرجال مع النساء، وبؤس الحياة الاجتماعية التي يعيشها الشباب. وهو لا يدين بطله الصغير، بقدر ما يصوره كضحية للثقافة السائدة في المجتمع، وللسياسة التي أدت إلى وجود ملايين المهمشين من الذين يعيشون على هامش المدينة، بل ووصول العيش في المدينة إلى حافة اليأس الذي ينذر بالانفجار.
نماذج الشخصيات النسائية في الفيلم جميعها سلبية تماما: سلمى التي لا تفهم ولا تريد أن تفهم دوافع عمر أو التعامل معه وغن لا ترفض وجوه حولها، وصابرين التي ترضخ لقدرها كعاهرة تلقى معاملة فظة من قوادها، والأم التي لا تكف عن الشكوى من المصير الأسود الذي وجدت نفسه فيه بعد وفاة زوجها. هناك الكثير من المشاهد التي تتميز بالتصوير الجيد والتي ترصد الحالة المتدهورة للمدينة، للمباني، الساحات العامة، الأسواق، الخرائب، المقابر. ويتمكن مدير التصوير “أوليفييه غيربوا” ببراعة من تصوير المشاهد التي تدور في منطقة الأكواخ القصديرية ليلا، ويخلق إضاءة واقعية، مستخدما مساحات الظلام السوداء مع الكاميرا المتحركة، مولدا إحساسا بالرعب مع أصوات نباح الكلاب يتردد بلا توقف على شريط الصوت، كما يحافظ على نغمة لونية مليئة بالشجن في سائر المشاهد النهارية في الفيلم، وتكشف اللقطات القريبة لوجه عمر التي تركز فيها الكاميرا طويلا عليه، عن ذلك الجنون الحالم الذي لا نعرف هل هو بسبب الحرمان أو الإدمان.
الخطاب الديني
وكما في فيلمه السابق “السطوح”، يستخدم علواش على مدار الفيلم، أصوات الآذان الصادر من المساجد، ويصور والدة عمر وهي لا تكف عن الاستماع إلى البرامج الدينية بصوت “الدعاة الجدد” في مصر، وهي برامج تمتليء بالكثير من التفسيرات المتخلفة المضحكة التي لا أصل ولا أساس شرعي لها، ومنها ما يتعلق بموضوع المتعة والخمر والنساء وغض البصر، مع بعض الاقتباسات من الإمام الأوزاعي الذي اندثر مذهبه وأعاد السلفيون الجهاديون حاليا إحياء بعض تعاليمه وفسروها حسب هواهم. ولكننا لا نعرف هل هذا ما يبثه التليفزيون في الجزائر. في أحد المشاهد يعترض عمر على ما تستمع اليه أمه من برامج التليفزيون ويهددها بتحطيم جهاز التليفزيون، ليس احتجاجا على مضمون البرامج التي تستمع إليها، بل كعقاب لها على تدخلها في شؤونه.
وإذا كان علواش قد ربط في فيلم “السطوح” بشكل مباشر بين الخطاب الديني والتخلف الاجتماعي في الجزائر، فهو هنا يربط بين الفقر والفاقة والمرض وغياب الدولة، وبين ما يتردد من أحادث ونصائح دينية متخلفة تسيطر على عقول البؤساء من البشر، ولكن الافراط في الربط بين الآذان وبين بطله مدمن المخدرات، يبدو مقحما، ولا ينجح في بلورة الفكرة.