مخرجة “القمر المكسور”.. من الشخصي إلى الكوني

الفنانة الصينية وانغ شياو هوي Xiao Hui Wan مخرجة سينمائية، كاتبة، مصورة فوتوغرافية، مصممة، نحاتة، أستاذة جامعية، باحثة اجتماعية. ولدت في العام 1957، ونشأت ضمن مناخات الثورة الثقافية، وسياسة الوثبة العظيمة إلى الأمام. درست فن العمارة في جامعة صينية، ثم أكملت دراستها في ميونيخ بألمانيا. بعد ذلك التحقت بأكاديمية السينما في ميونيخ.

في العام 1994 كتبت وأخرجت فيلمها السوريالي “القمر المكسور”، وهو فيلم قصير مدته 15 دقيقة، حاز على عدد من الجوائز. كما حققت فيلماً وثائقياً وبضعة أعمال قصيرة.

هنا تقدم رؤيتها، أو نظرتها، الخاصة لأول أفلام الفرنسي فرانسوا تروفو “الأربعمائة ضربة”The 400 Blows (1959) كاشفة عن التأثير الكبير الذي مارسه الفيلم على صعيد الموضوع والتقنية.

                                       *   *   *

لم أنشأ مع أي ثقافة سينمائية حقيقية. كل ما شاهدته عبارة عن أفلام دعائية على شاكلة “لينين في أكتوبر” و “لينين في 1917” أو أفلام دعائية ألبانية أو رومانية.. مع إن بعضها تحتوي على التماعات معينة وملفتة. إذن في صباي لم أشاهد فعلاً أفلاماً أخرى أقارن بها ما شاهدته من أفلام والتي مارست تأثيراً عليّ في ذلك الحين.

كنت مثل الإسفنجة التي تمتص أي صورة سينمائية أستطيع الإقتراب منها والوصول إليها. أذكر فيلماً ألبانياً اسمه “الخطوات” كان يحتوي على مشهد يصوّر قبلة حقيقية.. في الواقع كان أمراً مذهلاً مشاهدة اتصال جسدي فعلي في فيلم كهذا.

في ذلك الحين، كان هناك الكثير من الأوبرا والسينما الماوية في الصين.. وكلها أعمال دعائية أساساً، لا تعتني إلا قليلاً بالتقنية الفنية التي توظفها بوجه خاص لأجل التزيين والزخرفة.

في العامين، بين نهاية الثورة الثقافية في 1976 وافتتاح أكاديمية السينما في بكين في 1978، أصبحت البلاد بأسرها مفتوحةً فجأة أمام الأفلام الأجنبية. خلال تلك الفترة، كنت أذهب إلى السينما كل يوم تقريباً. لم يكن ذلك أمراً يسيراً دائماً، إذ ينبغي أن تكون لديك علاقات خاصة حتى تحصل على التذاكر. وكان علينا أحياناً أن نتسلل للدخول إلى الصالات.

مشاهدة أفلام أجنبية عديدة فتحت عينيّ على واقع ثقافات أخرى وبلدان أخرى. كنت أقول لنفسي: “آه، كم هي مختلفة جداً الحياة خارج الصين”.. لقد أدركت أن للسينما سطوة حقيقية، فهي قادرة أن تغيّر الطريقة التي تفكر بها، ويمكن حتى أن تغيّر حياتك. حلمي كان ببساطة أن أستمر في مشاهدة الأفلام.. لهذا السبب التحقت بأكاديمية السينما.. أردت أن أشاهد أكبر عدد ممكن من الأفلام.

درست في أكاديمية السينما في بكين، من العام 1978 وحتى 1982. كانت تجربة محرّرة بالنسبة لي. في الأكاديمية، وبدلاً من تعريضنا لمحاضرات طويلة عن السينما، فإن أول شيء فعله أساتذتنا هو أن يعرضوا علينا أفلام جودار وأنتونيوني وآخرين، أفلاماً مثل: على آخر نفس، الصحراء الحمراء، تكبير (Blow Up).. وأفلام هوليوود ذات الأساليب التقليدية مثل: ذهب مع الريح،  والعديد من الأفلام المختلفة، بحيث كان بوسعنا أن نبني الوعي والإحساس بالسينما بصرياً عوضاً عن التعلّم بالحفظ عن ظهر قلب، ومن دون فهم.

الحلقة الدراسية المفضلة لدي كانت عن “سينما الموجة الجديدة الفرنسية”.. والفيلم الذي أثّر فيّ حقاً هو فيلم فرانسوا تروفو “الأربعمائة ضربة” Les Quatre Cent Coups. لقد اعتدت على أفلام تحتوي على بداية، وسط، ذروة ونهاية. لكن الطريقة التي عرض بها تروفو التفاصيل الصغيرة في حيوات الأولاد، أو الطريقة التي بها كانت الكاميرا تتابعهم، الواحد بعد الآخر، فيما هم جميعاً يختفون عند المنعطف. كل هذا قد جعلني أدرك بأن هناك إمكانيات أخرى بالإضافة إلى ذلك النوع من السرد السينمائي.

أتذكر هنا تقنية تجميد الصورة freeze frameفي نهاية الفيلم.. تلك التي تجعلك تقترب أكثر فأكثر من الصورة. في الواقع، لقد مارس ذلك تأثيراً فيّ: إنك تراقب وجه الصبي الذي لا يعبّر عن أي انفعال.. وجهاً جامداً خالياً من التعبير تقريباً، وعيناه تحدّقان في الفضاء. بدا لي أنه ضحية ظروف معينة. إنها بيئته التي دفعته لأن يرتكب كل تلك الأمور البغيضة. هو لم يرد أن يكون في الإصلاحية.. لقد كان واقعاً تحت سيطرة العائلة والمجتمع.

ربما تماهيت مع هذه الشخصية – صبي وحيد في العالم – بسبب تجربتي في سنوات الطفولة. لقد تطابقت، بطريقة أو بأخرى، مع وضعه وحالته. أذكر تلك المشاهد التي فيها يحاول الصبي الخروج معتمداً على نفسه، وحين ينام في المطبعة ثم يكسر قطعة من الثلج ليغسل وجهه، وفي ما بعد حين يسرق الحليب لأنه جائع. أو المشهد الذي فيه يحاول أن يبيع الآلة الكاتبة. لقد أحببت الطريقة التي بها يصوّر تروفو الصبي وهو يتسلل خارج المبنى. عندما يطل من النافذة، أذكر الزاوية التي منها تصوره الكاميرا، من أعلى وفي اتجاه وجهه. ثمة شعور بالمجازفة في اتخاذه للقرارات. كذلك عندما يخفق في الحصول على نقود كافية مقابل الآلة الكاتبة فيقرّر أن يعيدها لكن يُلقى القبض عليه.

كل هذا أثّر فيّ، وترك لديّ انطباعاً قوياً. أيضاً المشهد الذي يرى فيه أمه وهي تقبّل عشيقها في الشارع. مشهد قوي حقاً. أو في بداية الفيلم، حين يحل الصبي واجبه المدرسي محاولاً أن يكون مجتهداً وصالحاً، لكن الأم تدفعه بعيداً بعض الشيء. ذلك يُظهر إلى أي مدى تستطيع أن تصور الحياة العائلية مستخدماً فقط بعض التفاصيل القوية. ليس هناك تقنية كاميرا استعراضية أو حركات مفاجئة.. المشهد يتخلق من عناصر بسيطة.

لقد اعتدت على السينما الثورية الملحمية الضخمة. لكن فيلم “الأربعمائة ضربة” بيّن لي قوة الانتقال من الشخصي إلى الكوني، وجعلني أدرك أن عرض التفاصيل الصغيرة في حياة الفرد يمكن أن يخلق سينما أكثر فعالية من تلك الأفلام الدعائية الضخمة، وأن هذه السينما قادرة أن تكون طبيعية وحقيقية وبعيدة عن الزيف والتضليل والتلاعب. أظن أن جمال السينما هو في قدرتها على تحويل الواقع اليومي من الحياة الفردية إلى شيء أكبر على الشاشة، شيء كوني، يمكن للمشاهدين ربطه بحياتهم الخاصة.

مع إن فيلمي The Monkey Kidهو عن صبيّة تنشأ أثناء الثورة الثقافية، إلا أن العديد من الأفراد في الغرب، من بلدان أخرى، أخبروني بأنهم تماثلوا مع الصغيرة، وأن أموراً عديدة في الفيلم ذكرتهم بطفولتهم الخاصة. عندما أسمع هذا فإنني أشعر بالرضى والسرور لأني حققت هدفاً معيناً كمخرجة سينمائية.

حين كنت أشاهد الأفلام الثورية القديمة، كانت الشخصيات غريبة عني، بعيدة عني، ولم أستطع الاتصال معها. حتى أثناء مشاهدتي لتلك الأفلام، كنت في الواقع أحاول أن أكون “الحارسة الحمراء”.. الشيوعية الصغيرة الطيبة التي تحاكي تلك الشخصيات على الشاشة، إلا إنني لم أشعر بالتطابق أو التماهي معها. وعندما شاهدت للمرة الأولى فيلم تروفو “الأربعمائة ضربة”، احتجت إلى وقت لكي أستوعب الحالات. صور الفيلم كانت قوية وفعالة، وقد مكثت معي لفترة طويلة.. في ذلك الوقت، كانت المسافة بين واقعي الثقافي وواقع ذلك الفيلم واسعة جداً.

لقد نشأت في أزمنة ثورية. علموني أن الكلام عن المشاعر الشخصية هو ضرب من الأنانية. أي شيء على المستوى الشخصي هو خاطئ وغير صائب. في معهد السينما أدركت أن العواطف والمشاعر الشخصية يمكن توظيفها للتأثير في الآخرين.. ليس فقط القصص اللاواقعية، المثالية، والضخمة.

المصدر:

مجلة Sight and Sound       

Visited 17 times, 1 visit(s) today