تأثير المسرح على سينما يوسف شاهين

من مسرحية "كاليجولا" التي أخرجها يوسف شاهين من مسرحية "كاليجولا" التي أخرجها يوسف شاهين

محمود عبد الشكور

مازلت أرى في سينما يوسف شاهين ثراء كبيرا يغرى بالدراسة، هناك زوايا كثيرة تستحق المناقشة بداية من تجربة الإنتاج المشترك، وموهبته كممثل، وليس انتهاء بتأثره بالسينما الأوربية والأمريكية معا رغم اختلافهما، ومسألة تأثره بالمسرح في أفلامه، والفكرة الأخيرة هي موضوع هذا المقال.

لا يخفى شاهين حبه للمسرح، وبالذات مسرحيات شكسبير، وهاملت على وجه الخصوص، وهناك فيلم هام هو “اسكندرية كمان وكمان”، يحاول فيه شاهين أن يخرج هاملت من داخله، وأن يتحرر منه، وفي فيلم “اسكندرية ليه” يؤدى محسن محيي الدين مونولوج هاملت الشهير “أكون أو لا أكون”، تعبيرا عن هذا الافتتان بشكسبير، وبالأداء المسرحي، وفى فيلم “اسكندرية كمان وكمان” تؤدى يسرا شخصية كليوباترا على المسرح، ورغم براعة شاهين في تقطيع المشهد سينمائيا، إلا أنه مشهد مسرحي تماما إضاءة وأداءً.

هذه نماذج لتجليات مباشرة في أفلام شاهين لإعجابة بمسرحيات كلاسيكية بعينها، ولكن تأثره في رأيي يتجاوز ذلك بكثير، ويأخذ أشكالا مختلفة ومتنوعة، أبرزها “مسرحة” بعض المشاهد بشكل واضح ومقصود، ومنها مثلا مشهد محاكمة الصليبيين لـ “لويزا”، متقاطعا مع مشهد محاكمة صلاح الدين لوالى عكا، ضمن أحداث فيلم “الناصر صلاح الدين”.

اشترك شاهين في كتابة سيناريو هذا الفيلم، ولذلك من المرجح أن يكون هو الذي منح هذين المشهدين المتقاطعين شكلهما المسرحي المقصود، فبينما نعتقد في البداية أن القطع المتوازي سيكون وسيلة الانتقال العادية بين المشهدين، نكتشف أن شاهين يجعل مشهد لويزا على “مسرح واحد” مع مشهد محاكمة والى عكا، بل إنه يجعل ديكور المحاكمة الثانية امتدادا لديكور المحاكمة الأولى في نفس الكادر.

 أصبحنا أمام مشهد مسرحي صريح سواء في حركة الممثلين، أو في الإضاءة، بل إن إظلام الخلفية المفاجئ مثلا وراء لويزا هو إظلام مسرحي محسوس وواضح ومقصود، ورغم أنه كان يمكن الاكتفاء بالقطع المتوازي، إلا أن مسرحة المشهد كله يترجم رغبة من شاهين في أن يطلق المخرج المسرحي من داخله، وأن يبتكر ما يكسر تقليدية معالجة المشهد، وخاصة أن التقاطع بين موقف لويزا ووالى عكاـ يحتمل هذا “التمسرح”.

من فيلم “حدوتة مصرية”

في “حدوتة مصرية” نموذج آخر واضح لمسرحة بعض المشاهد، وهو أيضا اختيار مقصود ومناسب تماما فهناك محاكمة خيالية لرجل بين الحياة والموت، ومكان المحاكمة قفصه الصدري، هنا أيضا فرصة نادرة للابتعاد عن الديكور الواقعي، بل والابتعاد عن أي أداء واقعي وتقليدي للممثلين.

 يمكن أن تكون هناك أيضا حرية في تنويع مصادر الإضاءة، لتعطى تكوينات بعينها حتى وسط التكوين العام، هناك “دمج” شبه كامل لتكنيك المسرح حركة وأداء وإضاءة في فيلم سينمائي، وهو أمر يكشف عن براعة شاهين سواء في التكنيك المسرحي، أو في التكنيك السينمائي، ولا ننسى أن المحاكمة والمواجهة كلها على مسرح الروح المعلقة بين الموت والحياة، الدراما تسمح بذلك، وعاشق المسرح وجدها فرصة لكي يمارس هوايته.

عن التكنيك

دعني أذهب الى خطوة أبعد وأعمق في صورة سؤال: هل كان للتكنيك المسرحي تأثير على تكنيك يوسف شاهين السينمائي بشكل عام؟

ملامح تكنيك شاهين السينمائي تتلخص في أمرين بالأساس: اللقطات القصيرة، والحركة بكل أشكالها.

 بالنسبة للأمر الأول فإن شاهين لا يفضل أن يأخذ مشهد كاملا في لقطة واحدة، إلا في حالات استثنائية، بناء المشهد لديه يكون في المونتاج أساسا، بعد تفتيت المشهد الى لقطات قصيرة، يحدث ذلك منذ فيلمه الأول “بابا أمين” عام 1950، ويحدث في المشاهد الهامة، مثلما يتم في المشاهد التقريرية أو المعلوماتية، وبالطبع يتجلى كذلك في الأغاني والاستعراضات، وشاهين مفتون بالأفلام الموسيقية الأمريكية القديمة، وهي بالمناسبة تجمع بين حيوية المونتاج السينمائي، وحضور الأداء الراقص المسرحي، بالذات في مشاهد المجاميع.

يسرا في فيلم “اسندرية كمان وكمان”

أما الملمح الثاني الأهم في سينما شاهين فهو الحركة، فمن الاستثناء عنده أن تجد ممثلا أو كاميرا ثابتة، والأصل عنده إما حركة الممثل أو حركة الكاميرا، أو حركة الاثنين معا، والحركة المزدوجة للكاميرا والممثل يتكرران في كل أفلامه تقريبا، وغنى عن البيان أن كل حركة للممثل أو للكاميرا، أو للاثنين معا، تتطلب تغييرا وضبطا للتكوينات داخل المشهد الواحد، وهي مهارة حرفية صعبة للغاية يحققها شاهين باقتدار منذ فيلمه الأول، وحتى فيلمه الأخير.

غنى عن البيان أيضا أن اللقطات القصيرة تصنع حركة إضافية للحركة الأصلية الموجودة داخل كل لقطة ومشهد، وتجعل المتفرج على افلام يوسف شاهين  يشعر بسرعة غير عادية، يعبر عنها البعض بأنه لا يمكنه أن يركز في الفيلم إلا بعد مشاهدته مرة ثانية، والبعض تفوته الكثير من العبارات، التي يلقيها الممثلون وهم في حالة حركة، ودون أن يتقيد شاهين بالقاعدة الكلاسيكية، التي تضع وجه المتكلم في مقدمة الكادر، أو تفصله بمفرده في كل مرة يتكلم فيها، لا يحدث ذلك إلا في أكثر الجمل أهمية عند شاهين، وفيما عدا ذلك، فإن هناك “ميزانسين” معقد مستمر، وهناك الكثير من استخدام تكنيك الصوت من خارج الكادر.

يمكن تفسير هذه الحركة الدائمة باعتبارها انعكاسا لشخصية شاهين نفسه، فهو شخصية ديناميكية ونشيطة، كان من المستحيل فعلا أن تصدق أن هذا الرجل الذي تجاوز سن الشباب يتمتع بتلك الحيوية، سواء في مواقع التصوير، أو ندواته ولقاءاته،

نقول دائما إننا نرى الفيلم من خلال عين المخرج، فإذا كانت هذه العين في جسد لا يكف أصلا عن الحركة، ولا يقنع بالثبات، فإن ذلك سينعكس على أسلوب الإخراج، وما الأسلوب إلا الرجل نفسه، صحيح أن الدراما ومغزاها هي التي يجب أن تتحكم في اختيار الحركة من عدمها، إلا أنه لا يمكن في الحقيقة فصل شخصية المخرج عن أسلوبه، لا يمكن أن تنفصل سينما جودار مثلا عن شخصيته القلقة التي مازالت تكتشف وتتشكك وترفض العادي والمألوف، هذه قضية جمالية تستحق أيضا المناقشة.

من فيلم “الأرض”

ولكن ليس مستبعدا أبدا أن تكون هذه الحركة المستمرة، وطريقة أداء الممثلين التي تضخم الانفعال والصوت، هي أيضا من تأثير ولع شاهين بالمسرح، فالحركة المسرحية لا بد أن تكون واضحة، حتى يراها آخر متفرج في آخر الصفوف، لقد تم تبسيط الأداء المسرحي، كما صار انفعال الممثلين أقل مع ظهور أجهزة التسجيل الحديثة، التي تلتقط أدق الهمسات، ولكن ظل المسرح، وسيظل ف رأيي،  مرتبطا بالمواقف الدرامية  العاطفية القوية التي تثير التصفيق، والتي تؤثر على الجمهور، لا يعنى التعبير عن الانفعال بوضوح أن يكون الأداء مبالغا فيه بالضرورة، وإنما  يعنى أن يكون ظاهرا وقويا ومحسوسا للمتفرج.

يمكن عند هذه النقطة أن نفترض أمرين في أسلوب شاهين: حرفة سينمائية فذة تعيد بناء المشهد مونتاجيا بالأساس، وتصنع ما شاءت من تكوينات منضبطة مع حركة الكاميرا بالذات، و”توظيف” للتكنيك المسرحي سواء في الحركة الواضحة والعنيفة أحيانا، أوفى أداء الممثلين الذي يبدو انفعاليا وصاخبا أحيانا، مثلما نشاهد رام وهو يقرأ العبارات المكتوبة على جدران المعبد في فيلم “المهاجر”.

الانتقالات المونتاجية الحادة وحركة الكاميرا والتكوينات تذكرنا بالسينما، وحركة الممثلين والأداء فيه أصداء قوية من المسرح وتأثيره، فاذا كان المشهد فيه قطعات قليلة، وثبات في الكاميرا، مثل مشهد مونولوج أبو سويلم في فيلم “الأرض” (كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة)، أو مشهد مواجهة الشيخ يوسف لقريته (خد قوتي يا عبد الهادي) في نفس الفيلم، فإن البصمة المسرحية تبدو واضحة تماما، وهى فعلا مشاهد تستحق ألا تشوشها قطعات المونتاج أو حركة الممثل، لأنها في جوهرها مشاهد مواجهة مسرحية بين الفرد والجماعة، كما أن محمود المليجي وعبد الرحمن الخميسي من كبار ممثلي المسرح والسينما، ويستحقان أن تترك لهما الكاميرا.

هناك مخرجون آخرون تشعر بسهولة بتأثير المسرح على أفلامهم، لأنهم يحتفظون بتماسك المشهد دون قطع، وعلى رأس هؤلاء بالتأكيد حسن الإمام الذي كان يفضل المونتاج الداخلي للمشهد، مما كان يستدعى من الممثلين حفظ صفحات حوار طويلة، كما أن تأثره بأداء وموضوعات مسرح رمسيس الميلودرامي كان أيضا واضحا تماما في أداء الممثلين، ولكن شاهين كان يقدم مزيجا أكثر تعقيدا للتأثر بالسينما وبالمسرح معا، لا أعرف إذا كان واعيا بذلك أم لا، ولكن يعنينا قراءة ما نراه فعلا على الشاشة.

من مسرحية “كاليجولا” يوسف شاهين (1992)

هذه مجرد رؤية أتمنى أن تناقش، وأتمنى أن تكون هناك دراسة جمالية للأفلام تعادل دراسة وقراءة مضامينها، شاهين لم يترك فرصة لكي يعكس تأثره بالمسرح إلا وانتهزها، سواء بشكل واضح ومقصود، أو من خلال دمج ما يحبه في المسرح في إطار تكنيكه السينمائي، وبما يناسب شخصيته الديناميكية.

الغريب أن أحدا لم يهتم بعرض مسرحية “كاليجولا” التي أخرجها شاهين لفرقة مسرح “الكوميدي فرانسيز” في باريس في عام 1992، وأرى أن هذه المسرحية كانت فرصة ذهبية لكي نشاهد شاهين المخرج المسرحي الصريح، وليس شاهين عاشق المسرح من وراء كاميرا السينما. لا توجد لدينا مع الأسف سوى صور مبهرة للمسرحية في تكويناتها، أو في استغلالها للإضاءة، أو في توظيفها للديكور أو للفضاء المسرحي،

أتمنى أيضا أن يفتح هذا النقاش الباب أمام لدراسات بينية، وأعنى بذلك بين دراسة السينما ودراسة المسرح، تكشف وتثري جماليات الأسلوب، سواء لدى مخرجين مصريين أو أجانب، حتى لا نكتفي بالقول بأن فيسكونتي وبرجمان مثلا مخرجين عظيمين للسينما وكفى دون أن نأخذ خطوة أبعد في فهم هذا التميز ارتباطا بعلاقتهما الهامة والمؤثرة بفن المسرح.

Visited 96 times, 1 visit(s) today