محمود عبد الشكور يكتب: سينما داوود عبد السيد وفن تحطيم الأغلال

المخرج داود عبد السيد المخرج داود عبد السيد

لعل أبرز ما يلفت الأنظار في أعمال المخرج داوود عبد السيد تلك اللعبة التي يتأمل من خلالها أفكارا مثل العجز مقابل القدرة، والمراقبة مقابل المشاركة، والقيود مقابل الحرية، لا تتغير التيمة أو الفكرة، ولكنها تلبس في كل مرة شخصيات ونماذج درامية مختلفة، وهناك شرط أساسي هو نسبية هذه الأمور، سواء العجز والقدرة، أو المراقبة والمشاركة، أو القيود والحرية، ودائما لا يطلب داوود من متفرجيه إلا المحاولة والتجربة والاختيار، يحاسبه على الجهد، وليس على النتيجة، ودائما فإن رحلة البطل تبدأ من نقطة، وتنتهى الى نقطة أخرى، إذ يضعه داوود في مواجهة عالم أكثر اتساعا من عالمه.

يمكن أن نقول مثلا إن هذه الثنائية التي يمثلها يوسف (العاجز/ المنعزل/ المقيد/ المراقب) مقابل سيد مرزوق الذي يفعل ما يريد في فيلم” البحث عن سيد مرزوق”، يعاد إنتاجها من جديد في صورة نرجس المتلعثمة/ الخائفة/ العاجزة عن قول لا/ المتحفظة، مقابل الساحر (يحيى الفخرانى) الذى يوسع عالمها ويفعل ما يشاء فى “أرض الأحلام”.

 ويمكن أن نجد الانحياز بالمحاولة وأخذ القرار والرغبة في التحرر بصرف النظر عن النتيجة في الإحتفاء بمحاولات الشيخ حسنى في “الكيت كات”، الذي يرفض أن يكون أعمى، ليس بالهرب، وإنما بمحاولة إثبات أنه ليس كذلك عمليا، مع أنها محاولات عبثية تثير الضحك والسخرية، ونحن عندما نضحك على تلك المحاولات، ننسى أننا يجب أن نخجل لأننا لم نحاول أن نقهر عجزنا مثله (ليس فقدان البصر فحسب).

 إنه يجعلنا نتساءل: لماذا لا نحاول إذا كان الشيخ حسنى يحاول؟ ولماذا نضحك على من يحاول دون أن نضحك على كل العاجزين فى “الكيت كات” وهم كل الشخصيات تقريبا وبتنويعات ودرجات مختلفة؟

“الكيت كات” فى جوهره يجعلنا نتعاطف مع أحلام ومحاولات الشيخ حسنى ونحن نضحك عليها، كما أنه في جوهره مأساوي تماما، لأنه يعرّى العجز، ويربط الوجود الحقيقي بالمحاولة ومواجهة العجز، وهو أمر لا يستطيعه الكثيرون، حتى الضحكات سوداء ومريرة، إما لأنها تضعنا في مواجهة أعمى يرفض حالته، فيخجلنا من أنفسنا، وإما لأننا نعرف أن هذه المحاولات لن تكون لها نتيجة، فتذكرنا بمحاولات سيزيف المتكررة والعبثية لحمل الصخرة، وإما لأنها قد تودى بحياة الشيخ حسنى في أي وقت، ذلك الإنسان الرافض لقدره، أو لأنها تكشف عجز غيره حتى عن المحاولة لتغيير واقعهم، فتزيد من تجسيم العجز.

من فيلم “البحث عن سيد مرزوق”

إن أوضح نماذج العجز عن الفعل، مما يؤدى الى شلل الإرادة أصلا، نجده في مشاهد يوسف ( نور الشريف) في “البحث عن سيد مرزوق”، وقد قيّده الضابط (شوقى شامخ) بالكلبش، بل وأمره أن يحمل معه الكرسي والكلبش معا، ثم يكتشف يوسف أن الكلبش يمكن التخلص منه بسهولة، ولكنه لم يحاول أصلا، ولم يقاوم أن تتم كلبشته، هذه المشاهد يمكن أن تلخص سينما داوود عبد السيد كلها بوصفها تشخيصا سليما للقيود التي تكبل الإنسان، والتي تنبع أساسا من داخله، من مخاوفه وضعفه، ومن التقاليد البالية التي تقيده، إنها المسافة بين قيود ماجد المصري وهو يقبل حبيبته لوسى وهو مقيد في فيلم “سارق الفرح”، والزغرودة التي تطلقها لوسى في نهاية الفيلم .

الخروج من الشرنقة

 سينما داوود في عنوانها الكبير هي محاولة للتخلص من هذه القيود، محاولة للخروج من الشرنقة، محاولة للتحرر ومواجهة العالم، ومرة أخرى فإن الذى يعنى داوود هو أن تحاول، أن تختار بنفسك، لا أن يختار لك الآخرون، أما النتيجة والنجاح فهو يختلف حسب كل حالة، هناك من تتحرر مثل نرجس بطلة “أرض الأحلام”، وهناك من استفحل استسلامه، ودمرت إنسانيته فلا ينجح مثل يوسف في “البحث عن سيد مرزوق”، لكنك في النهاية تشعر بأهمية أن نحاول، وأن نكتشف أننا قادرون، وأن معركتنا مع الخوف في داخلنا، وليس مع الشخص الذى يهددنا، وأننا لا يمكن أن نكبل بالقيود الخارجية، إلا إذا استسلمنا لها، لأننا أصلا مكبلون بقيود الخوف أو الجهل أو التقاليد.. الخ.

معركة داوود المباشرة ليست مع أشرار تقليديين في حدوتة تقليدية، ولكن معركته المباشرة مع الأفكار التي تعوق حرية الإنسان وقدراته، معركته مع الخوف الذي منع الناس من أن تقترب من سيدنا سليمان مع أنه مات، بينما قرض النمل عصاه فسقط، وعرف الناس عندئذ أنه مات. يحيى المنقبادي (أحمد زكى) وافق على المهمة في “أرض الخوف”، وحاول أن يؤديها على أفضل وجه، ولأنه إنسان تورط وصار شريكا، ولكنه يختار بقوة في النهاية أن يقف مع فتاته في مواجهة خطر مجهول، أغلب الظن أن الخطر سيقتله، ولكن يكفي أنه واجه ولم يهرب، يكفي أنه أصر على أن يعرف، أصر على أن يكون فاعلا وليس مراقبا أو مفعولا به من آخرين.

أحمد ذكي في “أرض الخوف”

لعل كل هذه الأمور هي التي تمنح سينما داوود مذاقا وجوديا واضحا، فمحورها الإنسان وحريته، ووجود الإنسان مرهون بهذه الحرية، قبل أن يتخذ قراره، أو يختار أو يحاول، هو كائن عاجز تماما، كائن تواكلي يعلّق فشله على الظروف، أو على الآخرين، أو يرى في الآخر القادر (رجال الأمن مثلا الذى تظهر أرجلهم في الكيت كات والبحث عن سيد مرزوق ثم نراهم في صورة المخبر ورجل الأمن في “مواطن ومخبر وحرامي” ثم نراهم فى شخصية البنهاوي بك فى “قدرات غير عادية”) أقرب ما يكون الى تنين لا سبيل الى مقاومته، بينما يبدو هؤلاء في منتهى الهشاشة في الواقع، بل إن البنهاوي لا يمتلك قدرات غير عادية ، وإلا لماذا  يبحث عنها عند الآخرين؟، كل الحكاية أنه يستخدم قوته، بينما الآخرون لا يفكرون أصلا في الاقتراب منها.

بهذا المعنى فإن أعمال داوود يمكن وصفها بأنها سينما ثورية، رغم أنها لا تخطب ولا تهتف وليس فيها مظاهرات، ولكن ثوريتها نابعة من قدرتها المدهشة على تجسيد تلك الدرجة المفزعة من العجز الإنساني، وقدرتها الفذة على تشخيص الداء، وبالتالي  يمكن التحرر والعلاج، الفرد أو الأفراد (لا الجماهير) هم محور الدراما، ولكن تغيير الفرد لحياته هو بداية تغير المجموع، إنه يختار حالات للفحص إذا جاز التعبير، إذا عولجت بالاختيار والمحاولة والمقاومة، فإن ذلك يعنى أنه يمكن أن يكون العلاج على مستوى الجمهور/ المراقب الذى يتفرج.

إنها أيضا سينما أخلاقية تماما، ليس بالمعنى الضيق للأخلاق بأنها تحض على الفضيلة، وتغطية سيقان النساء، ولكن بالمعنى الأوسع للأخلاق، بمعنى وعى الإنسان أولا بإنسانيته، بأنه مختار وخليفة، وبأنه يمتلك قدرات غير عادية، فلا يليق به أن يعطلها، أو يوظفها في الفساد ، راجع  مثلا الصعود الطبقي للفساد في “الصعاليك” الذى سيتحول الى مافيا كاملة في “مواطن ومخبر وحرامي”، راجع أيضا شخصيات الفيلمين لتكتشف أنها نماذج إنسانية لا تفتقر الى الموهبة والقدرة على أن تكون أفضل، ولكنها اختارت توظيف شطارتها في الفساد، وكان المناخ العام، سواء الإافتاح فى الفيلم الأول، أو فوضى السلطات في عصر مبارك في الفيلم الثاني، يسمح لها بذلك الفساد، بل ويوفر البيئة الحاضنة لطموحها.

سينما أخلاقية وثورية

أفلام داوود أخلاقية لأنها تنتصر لجوهر الإنسان العاقل المسؤول المشارك لا المراقب، ولأنها تجعلنا نتأمل القيم السائدة، بمعيار يرتبط بقدرة هذه القيم على مساعدة الإنسان على إطلاق قدراته التي خلق بها، وليس تقييد وتكبيل الإنسان من الداخل أو من الخارج، هذه الأفلام أخلاقية لأنها تحترم العقل، وتجعلك تتأمل مأزق الوجود الإنساني، وتطرح عليك أسئلة محيّرة، ولا تفرض أي إجابات جاهزة.

نجلاء بدر في “قدرات غير عادية”

صحيح أن انحيازات داوود واضحة وراء الأقنعة التي يلبسها من خلال شخصياته التي رسمت ببراعة واقتدار، ولكنه لا يفرض شيئا على متفرجه، لا يعظه أو يرشده، وإلا ناقض إيمانه بحرية الإنسان، وقدرته على الاختيار، ولكنه يرسم لك اللوحة بكل أعماقها وتفاصيلها وجوانبها، الواضحة والخفية، يتركك تتأمل وتختار: هل تحب أن تكون نرجس فى أول فيلم “أرض الأحلام” أم نرجس في نهايته؟ هل تريد أن تكون مواطنا أم مخبرا أم لصا أم مزيجا من الثلاثة؟ هل تحب يوسف أم سيد مرزوق أم تريد أن تصنع مزيجا مما يعجبك عند الاثنين؟

هذه هي سينما داوود عبد السيد: فيلم واحد طويل عن الإنسان العاجز والمريد، المبدع والحالم والمحطم، الحر والمتلعثم الذي يتعثر فى الكلام وفى الحياة، يحيى اسم بطل أم صفة لما يجب أن نكون عليه؟

سينما داوود فيلم واحد طويل يختبر قوة الإنسان وضعفه، والقيم التي تقيده، في مقابل الحب الذي يجعله أقوى، فى مواجهة من يهددون وجوده على أرض الخوف.

مشهد من فيلم “الكيت كات”
Visited 103 times, 1 visit(s) today