محمود عبد الشكور وحكايات من دفتر السينما
السينما بالنسبة لي تتجاوز الفيلم نفسه مشاهدةً ونقداً، لتصبح ذكريات متناثرة غريبة، مواقف تتعلق بالمكان والمناسبة، وحكايات أكتبها لأستعيد فكرة أو قصة مفقودة، السينما أفلام، وحكايات حول الأفلام.
“احنا انضحك علينا يا على”
مازلت أتذكر كيف خرجت فرحاً وسعيداً من سينما ميامي بعد مشاهدة فيلم “اللعب مع الكبار” في عرضه الأول، وكنت قد انقطعت لسنوات عن مشاهدة أفلام عادل إمام في السينما، بسبب مستواها المتواضع.
مازلت أتذكر مقال الراحل سامي السلاموني الذي قال ما معناه أن الكل مبسوط من الفيلم: الجمهور والنقاد والمنتج أيضا، ومازلت أتذكر عبارات كاملة من الفيلم ظلت ترن في أذني لوقت طويل مثل “على الزهار مات يا اخوانّا” و”هاحلم.. هاحلم” و”احنا انضحك علينا ياعلى”، ربما كانت مأساة على الزهار وحسن بهنسي بهلول أنهما كانا بمفردهما، وكان لابد من إيقاظ البلد بحالها برنين أجراس السنترال في المشهد الشهير.
استغرب فعلا أن معنى الفيلم الخطير وصل كاملا لكثيرين قابلتهم، ومن أول مشاهدة، كما استوعبوا مشهد الصوت والضوء عند الهرم الذى منح المأساة المصرية بعدها التاريخي السرمدي، وبالمصادفة كانت السقالات تحيط وقتها بتمثال أبى الهول لترميمه، فاتسق ذلك مع معنى الفيلم عن تلك العلاقة المضطربة والمحطمة بين أهل البلد، ورجال السلطة، وهذا الحلم الأزلي الذى لا يتحقق بالقضاء على الفساد، وبأن يكون الأمن في خدمة الدولة لا في خدمة سلطة بعينها.
الفيلم نقطة تحول في مسيرة عادل إمام، قدم بعدها مع شريف عرفة ووحيد حامد عدة أفلام ناضجة سياسيا واجتماعيا مثل “الإرهاب والكباب” و”طيور الظلام”، عدت من جديد لمتابعة أفلام عادل إمام في دور العرض، لا نستطيع أن نقول إن عادل إمام قد تخلص من شخصيته الأصلية في هذه الأدوار كما فعل في “الحريف” مثلا، ولكنه أمسك العصا من المنتصف، شوية لحسن بهنسي بهلول وشويتين لعادل إمام.. ماشي الحال برضه.
“درجن درجن درجن”
وما زلت أتذكر بهجة مشاهدتي العرض التجاري الأول لفيلم “الكيت كات” في سينما كايرو بالاس. خرجت طائراً تقريباً في الهواء مثلما يظهر الشيخ حسنى على الأفيش البديع. أتذكر أنني ترقبت الفيلم بشغف بعد أن جاءت أخبار الأصدقاء الذين شاهدوا الفيلم في مهرجان الإسكندرية، بأن محمود عبد العزيز وداوود عبد السيد ” عاملين تحفة “. كل صديق أقابله يهتف مغنياً: “درجن درجن درجن”، فأستغرب أن يكون الأصدقاء معجبين بأغنية من فيلم “حنفي الأبهة” لعادل إمام، الذى عرض في وقت قريب تقول كلماتها: “درجن درجن.. اصحوا للّون.. ياللا ندشدش كام مليون” أو حاجة زى كدة، فيقول أصدقائي: “لأ.. دى درجن تانية خالص خالص”.
انفجر “الكيت كات” كحدث استثنائي قبل عرضه التجاري، وفاز محمود عبد العزيز بجائزة أحسن ممثل في مهرجان الإسكندرية بعد منافسة ضارية مع نور الشريف في دور الأخرس في فيلم “الصرخة”، ومع أحمد زكى عن دوره في فيلم “الراعي والنساء”، ونُقل وقتها أن نور نفسه قال ما معناه إنه أجاد في فيلم “الصرخة”، ولكن محمود عبد العزيز “عمل دور عمره”، بينما قال أحمد زكى إن عبد العزيز يستحق الأوسكار عن دور الشيخ حسني. هكذا جاء “الكيت كات” الى القاهرة تسبقه سمعته، وبعد المشاهدة قلت إن ما قيل عن الفيلم أقل كثيرا مما شاهدت.
كانت السينما تهتز بالضحكات، وكان الشيخ حسنى قد حفر اسمه وشخصيته وعباراته الى الأبد في ذاكرة جمهور السينما. كان الحلم قد طار بالناس مكتسحا العجز والفشل والقهر، وكانت أغنية ” درجن ” بتاعة “الكيت كات” هي أغنية الموسم، كنا نضحك من عجزنا ونحلم مثل الكفيف الظريف بالطيران، وكان محمود عبد العزيز قد قفز متجاوزا كل أدواره السابقة، لم يعد نجما فحسب، لقد صار من مشخصاتية الطبقة الأولى.
لعبة أحمد زكى
الجميع يعرفون بالطبع أن أحمد زكى لعب دور أنور السادات صوتاً وصورة في فيلم ” أيام السادات” من إخراج محمد خان، ولكن القليلين يعرفون أن أحمد زكى لعب في نفس الفيلم دور جمال عبد الناصر صوتاً فقط، أي أن هناك ممثلا لعب الدور وتم تصويره، ثم قام أحمد زكى بتسجيل حوار عبد الناصر، وتم تركيب الحوار بصوت أحمد زكى على صورة الممثل.
هذه المعلومة عرفتها مباشرة من محمد خان نفسه، وذكّرني بها وأكدها لي مؤخرا الصديق المخرج أحمد رشوان، الذي كان مساعدا لخان في “أيام السادات”.
ربما يكون سبب قيام زكى بأداء صوت عبد الناصر مهارته في تقليد نبرة الصوت، ونجاحه في ذلك في فيلم ” ناصر 56″، وربما أراد أن يتحدى من هاجموه بسبب أدوار المشاهير التي حلم بتقديمها. عموما فإن أحداً لم يتوقف ليسأل عن صوت عبد الناصر في فيلم عن السادات، رغم أنه فعلا متقن النبرة والأداء، كما أن معظم لقطات عبد الناصر في الفيلم بعيدة، ومأخوذة من ظهر الممثل الذي قدمها على الشاشة، مما أتاح تركيب صوت زكى بسهولة على كل المشاهد التي يتحدث فيها السادات مع عبد الناصر، أي يتحدث فيها أحمد زكى بصوت السادات مع أحمد زكى بصوت عبد الناصر.
أفلام الصراصير
سألني أصدقاء عن المخرج المصري اللي هاجم مخرجي الواقعية الجديدة مثل خان والطيب وبشارة، وأطلق على أعمالهم تعبير “أفلام الصراصير”، وهو أيضا المخرج الذي ذكره داوود عبد السيد، وتكلم عنه في ليلة تأبين محمد خان في سينما كريم.
المخرج المقصود هو الراحل حسام الدين مصطفي، الذى يمثل تياراً أساسياً في السينما المصرية ، يمكن أن نطلق عليه تيار مخرجي الأفلام التجارية المتأثرة بشكل خاص إعداداً واقتباساُ بالأفلام الأمريكية، وتعبير “أفلام الصراصير” أطلقه حسام ارتباطاً بلقطة لصرصار ظهرت في فيلم خان البديع “أحلام هند وكاميليا”، فاعتبر حسام أن الواقعية تظهر القبح، وتسىء للبلد، وهذا الكلام المضحك الذى يخفي في الواقع انزعاجا من المنافسة، فقد كان مخرجو الأفلام التجارية يعتقدون أن خان ورفاقه سيقدمون فيلماً أو اثنين ثم يختفون، ولكنهم فوجئوا بأنهم مستمرون، يقتحمون الصناعة من داخلها، وبنفس إمكانياتها، ولكنهم يصنعون أفلاما مختلفة تمثل مصر في المهرجانات، وتفوز بالجوائز المصرية والأجنبية. الخلاف بالأساس مرتبط بالتأثير المكتسح الذي حققه خان والطيب ورفاقهما، لدرجة أن نجمة مثل فاتن حمامة عملت مع داوود وبشارة، ونجوم مثل عادل إمام وسعاد حسنى ونجلاء فتحي عملوا مع خان.
في رأيي أن هذه الحرب تثبت قوة تيار الواقعية الجديدة، رغم قلة أفلامهم، ورغم أن خان وداوود والطيب وبشارة كانوا يشعرون بالمرارة الشديدة بسبب هذا الهجوم، وظلت المرارة بداخلهم، لدرجة أن داوود عبد السيد فضفض بها من جديد، يوم تأبين محمد خان.
ممثلة العلب
من مصطلحات سينما السبعينيات من القرن العشرين تعبير ” أفلام وممثلات العلب”، وهو تعبير يتكرر في حلقات قديمة من برنامج “زووم” تذيعها قناة ماسبيرو زمان. أصل الحكاية أن دور العرض في النصف الثاني من السبعينيات واجهت أزمة كبيرة، فقد أغلق الكثير منها، وانهارت مرافقها وصالاتها نتيجة غياب الصيانة والتجديدات، فصار عدد الأفلام المنتجة أكبر من عدد دور عرض الدرجة الأولى التي تسمح بعرضها، ولذلك كان لابد من بقاء الأفلام في العلب، لكى تقف في طابور الانتظار، وتأخذ دورها في العرض، تماما مثل قوائم الانتظار لحجز غسالة أو ثلاجة أو خط تليفون منزلي، وقد يتأخر عرض الفيلم أحيانا الى عامين أو أكثر.
بسبب هذا المأزق العجيب، ظهرت ممثلات كثيرات تملأ أخبارهن وصورهن الصحف والمجلات، دون أن نشاهد لهن أفلاماً على الإطلاق، وعلى رأس هؤلاء ممثلة نحيفة ذات وجه مألوف اكتشفها مدير التصوير الراحل عبد الحليم نصر، وقدمها في فيلم “قصر في الهواء”، ثم قدمت أفلاما أخرى وضعت في قوائم الانتظار، ولم يشاهدها أحد، فأطلقوا عليها ” ممثلة العلب”.
هذه الممثلة كان اسمها يسرا.
المسطول والقنبلة
بين عالم نجيب محفوظ ومحمد خان تقاطعات كثيرة مثل حضور التفاصيل الواقعية وحضور الأماكن والشخصيات، وعشق القاهرة وأهلها، ولكن الكثيرين لا يعرفون أن أحد مشروعات خان التي لم تنفذ فيلم بعنوان “المسطول والقنبلة”، كتبه مصطفي محرم عن قصة لمحفوظ ، وقد توقف المشروع رغم كتابة السيناريو، ولا يعرف الكثيرون أن خان بحث في معرض الكتاب 2016 عن كتاب “المجالس المحفوظية” لجمال الغيطاني بعد أن قدمتُ عدة اقتباسات من الكتاب على صفحتي على الفيسبوك، وفي أسبوع وفاة خان، كان مقررا أن أتصل به لتحديد موعد لزيارته في بيته، وانتويت أن أحمل معي كتبا كثيرة أولها كتاب “المجالس المحفوظية”، ولكن القدر كان أسبق. خسارة فعلا عدم تنفيذ فيلم يحمل اسم نجيب محفوظ ومحمد خان معا.
اللون المصري
لون بشرة الممثلين كان يلفت نظري بشدة أثناء مشاهدة فيلم “المومياء”، هو اللون الأسمر ولكن بدرجة أغمق قليلا، في نشرة نادى السينما عام 1969 التي تناول فيها الناقد الراحل سامى السلامونى فيلم “المومياء”، عثرت أخيرا على السر، ومن الواضح أنه حصل على المعلومة من شادي عبد السلام نفسه، الذى كان فيلمه العظيم أول فيلم مصري يعرضه نادى سينما القاهرة، يقول السلاموني: ” وفي الماكياج نفسه تكتسى وجوه الممثلين جميعا بلون واحد، هو السمار الزائد قليلا، وخامة اللون هذه أحضرها شادي من الخارج بحيث تعطى هذه النتيجة مع فيلم إيستمان، ولم يميز الماكياج بين سمار الصعايدة وأفندية الآثار، ليؤكد على انتمائهم جميعا لبلد واحد”.
سألت مدير التصوير الكبير سعيد شيمي عن أصل هذا اللون الخاص، فقال لي إن سيسيل دي ميل عندما حضر لمصر لتصوير فيلم “الوصايا العشر” في الخمسينيات، لاحظ أن ممثليه أبعد ما يكونون عن بشرة المصريين القدماء السمراء، فطلب من شركة “ماكس فاكتور”، التي كانت متخصصة في مستحضرات الماكياج للسينما، ثم أصبحت متخصصة بعد ذلك في مستحضرات التجميل عموما، أن تصنع له لونا أسمر خاصا لماكياج نجوم الفيلم الأجانب، وقد ابتكرت الشركة هذا اللون، بل وأطلقت عليه اسم ” ذا إيجبيشيان”، أي اللون المصري.
أما ماكييرة الفيلم فهي الراحلة نبيلة فوزي خريجة معهد السينما قسم ماكياج (نعم.. كان هناك قسم ماكياج وقسم تمثيل في معهد السينما)، وهي زوجة المخرج التسجيلي الكبير (وتلميذ شادي) الفنان سمير عوف، وكان معها أيضا الماكيير المتميز عبد الوهاب قطب، والمعلومة كذلك من الأستاذ سعيد عاشق السينما العظيم
حمزة البسيوني
يكرر نجيب محفوظ في حواره مع طارق حبيب أن حمزة البسيوني وليس صلاح نصر هو الذى أوحى له بشخصية خالد صفوان، كان محفوظ في المقهى بين أصدقائه، وفجأة دخل رجل عجوز ، جلس ثم بدأ يلعب الطاولة مع بعض الجالسين، سأل محفوظ عن الشخص، فعرف أنه حمزة البسيوني الذى تروى عنه حكايات وأهوال كثيرة حول تعذيبه للمساجين، اندهش محفوظ من مظهر الرجل العادي تماما، يمكن أن تعتقد لأول وهلة أنه موظف في وزارة الأوقاف على حد تعبير محفوظ الساخر، كما اندهش محفوظ من لامبالاة الرجل ولعبه الطاولة ببساطة رغم تاريخه الأسود، في تلك اللحظة ولدت فكرة رواية “الكرنك” ، ومشهد دخول خالد صفوان المقهى موجود أيضا في الرواية، ولكنه كان يحمل معه بعض الأدوية . الطريف أن صلاح عيسى، الذي رأى البسيوني سجينا، يصفه أيضا بأنه رجل ملامحه طفولية، لدرجة أنه ذّكر صلاح عيسى بشكل وهيئة والده.
مات البسيونى قبل عرض فيلم “الكرنك” بسنوات في حادث سيارة مروع، فلما عرض الفيلم، اعتقد صلاح نصر أن خالد صفوان مستوحى من شخصيته، فرفع نصر قضية لمنع عرض الفيلم، ولكنه خسرها. بالمناسبة هناك حمزة البسيوني آخر كان ملهما بعمل روائى معروف، وهو الطبيب المناضل حمزة البسيوني الذي استلهم منه يوسف إدريس شخصية البطل في رواية “قصة حب” التي تحولت الى فيلم بعنوان ” لا وقت للحب” من إخراج صلاح أبو سيف، وكان اسم الشخصية في الفيلم حمزة، أي أن هذا الفيلم مأخوذ عن رواية لها أصل وبطل واقعى اسمه أيضا حمزة البسيوني، ولكنه يختلف تماما عن حمزة الذى دخل المقهى ذات يوم على نجيب محفوظ، فولدت رواية “الكرنك.“