محمد أشويكة يكتب عن الأفلام التي تركت تأثيرها عليه في طفولته

لم أتذكر بالضبط أول فيلم شاهدته لأن ماضي الطفولة فعل متجدد من خلال ممارساتنا ونحن كبار، ولكنني أحتفظ بذكرى جلستي القرفصاء قرب أمي وهي تنضج الخبز على الفرن التقليدي، كنا لا نفترق تقريبا بحكم أن الأب يكون دائما خارج البيت، وبدعوى أنني كنت التعيس الوحيد الذي صمد أمام الموت المتوالي لعدد من إخوتي.


أذكر هذا لأنني سأكتشف محاكاتنا لذلك المشهد الذي كان يجلس خلاله الطفل قرب الممثل «شارلي شابلن» في فيلمه «الطفل» (The kid) [1921]، جعلتني تلك الجلسة أكتشف ذاتي، وعلاقتي بأمي، وإحساسي بمن حولي، والتأمل الأولي للذات بعد حصول التماثل فيما بينها وبين الآخر.. ونبهتني إلى الوحدة، والغربة، والألم، والعشق، والطفولة، والأمومة، والأبوة، والرفقة.


كانت الصورة بالأبيض والأسود لأن التلفزيون الذي كان لدينا لم يكن ملونا مما جعلني لا أعرف عن عالم الأفلام الملونة شيئا، ولكن مصاحبتي لأبي وتيهي في الحقول والمروج والسهول قادتني إلى التمتع بالألوان الطبيعية والفسحة، وجعلتني أفهم بأن الصورة سوداء دائما، والواقع ملون.


لم أكن أعرف عن السينما شيئا، ولا يستطيع أبواي أن يتركاني لوحدي إلا تحت رقابة متخفية أو حينما يدعاني المسيد أو المدرسة لأن تجربة الموت دفعتهم للاعتقاد بأن الحراسة اللصيقة ستنجيني منها، وأن بقائي هو الضامن الوحيد لاستمرارهما (ربما!)…
بعد أن أدركت ولعي بالسينما ستخبرني الوالدة – لاحقا – قبل وفاتها، بأن اللعب بالشموع والإنارة والرؤية من الثقوب وصناعة بعض المنظارات القصبية وتجريب الإضاءة بواسطة القوارير الملونة.. كانت ألعابي المفضلة، وربما ذلك ما قادني إلى عدم الاهتمام باحتراف الإخراج والانكباب على عشق السينما ككل.


جعلتني تجربة مشاهدة فيلم «الطفل» أنتبه إلى أفلام شابلن (شارلو) الأخرى إلى درجة صرت معها مدمنا عليه، فهذا الفنان المتكامل يكتب وينتج ويمثل ويخرج ويؤلف موسيقى أفلامه بنفسه.. بل وينتقد مجتمعه (المجتمع الرأسمالي التوتاليتاري…) بشكل ساخر وهادف يرقى بالفن السينمائي إلى الانغماس في قضايا الذات والمجتمع، والتفكير الملي في الاستغلال واليتم والفردانية المتنامية والفوارق الاجتماعية والديكتاتورية.. لقد شكلت أفلامه «السيرك» [1928]، و”الأزمنة الحديثة” [1936]، و»الديكتاتور» (1940) وعيا متقدما زمن إنتاجها، وكانت صرخة منذرة بما سيؤول إليه العَالَم من قذارة وبؤس..

ستشكل هذه المشاهدات ما يشبه المرجعية البصرية لطفل يحضنه أبواه كالفرخ الناتج عن بيضة يتيمة، فصرت أقرأ الآيات والسور القرآنية والأناشيد والمحفوظات ونصوص التلاوة وأنا أتصورها على شكل أفلام وخيالات ومسوخ وصور متحركة، وتنامى لدي ذلك الولع بالتصوير خاصة وأن مجلتي «العندليب» و»المزمار»، وحكايات «عمتي – أمي – مربيتي محجوبة»، والرسوم المتحركة قد رسخت الحكاية في حياتي كمعادل حيوي للخيال والجنوح والتصور.. ففهمت بعد ذلك أن السينما تصير استهلاكا فجا حينما تنفصل عن القراءة وعن الفنون الأخرى.


إن تجربة الفيلم الأول كالكتاب الأول، والرسم الأول، والجرح الأول، والمتعة الأولى، والصلاة الأولى، والسفر الأول، والقبلة الأولى، والكأس الأولى.. لكل أول لذته.. قد نتذكر عمومياته بشكل ضبابي ولا نتذكر تفاصيل جزئياته، نستوعبه كالطفرة، نعيه ولا نعيه، حاضر ومنسي، خفي وعلني.. نتذكره كتدفقات جارفة ومتراجعة في آن، ذكرياته عاصفة، انجذاباته ناعمة… تَعْلَقُ بعض اللقطات والمَشَاهِد في الذهن الطفولي للشخص فيصعب نسيانها، ومن يدري؟ ربما قد تكون فاعلة في مساره الحياتي، فَوَقْعُ السينما في الطفولة مؤثر من حيث التنبيه إلى بعض التفاصيل والحالات والمواقف.


كنت أنتظر المساء متمنيا أن يعود ذلك الرجل إلى شاشتنا الصغيرة المعزولة عن العَالَم في ذلك الركن القصي من الكون، وحين يأتي أفتح عيناي وأستنفر حواسي ومخيلتي لأسافر معه وأتماهى مع بعض الأوضاع وأستهجن أخرى، لقد شَرَّحَ الرجل الديكتاتورية وأشبعها سخرية دونما حاجة للغة المنطوقة، واستهزأ من مفارقات عصره فكان جسده مطواعا: بَدَنُهُ سِلاَحُهُ، حركاته رموزه، مهاراته قوام فنه.. كَسَّرَ الحواجز بين المسرح والسينما وفنون السيرك، بل كان يرى العَالَمَ فضاء مزدحما بالأقنعة، والحياةَ سيركا عظيما.


قد أكون مدينا لهذا الشخص الفنان بولعي المبكر بالسينما، فهو الميال إلى نبذ الظلم، وفضح الفساد، وتعرية المسكوت عنه، وتطويع الفن ليصير وسيلة لخدمة الإنسان والإنسانية.. وقد يمكن القول بأن الأعمال الكبيرة تثير النقد وتنمي ملكة التأمل.


ارتبط الفيلم الأول في حياتي بطرد الوحشة، وتبديد ظلمات العزلة، ومقاومة الموت، والانفلات من شرنقة الرؤية الواحدية للكون، وأخرجني من مجتمع الفقهاء.. صارت السينما مقابلا للاحتضان والرقة والرفقة والسفر والتأمل الوقائي.. وقد كانت أفلام «شارلي شابلن» تلك الواسطة التي كانت تأخذني من عالم إلى عالم، وتأتيني بضجيج الحضارة الغربية إلى هدوء قريتي الشرقية، إنها الهزل الذي يحطم صرامة الواقع وصَنَمِيَّتِه، ويسخر من الحياة التي كلما تعقدت تراجع الإِنْسَانِيُّ فينا.


تقود بعض المواقف الشابلينية الإنسان نحو الانتباه إلى ذاته، واستنهاض عواطفه التي كلما أصابها الكسل والبوار أو دمرتها عواصف التسليع الرأسمالي الذي صار يحول كل ما حوله إلى بضاعة خاضعة لحسابات المردودية والربح.. وهو بذلك يبلغ قمة الإبداع، ويصنع لنفسه مسارا متفردا ينتقد إخفاقات زمنه الوجودية والقيمية، بل يجعل من السينما فن الحضارة الحداثي بامتياز!

Visited 10 times, 1 visit(s) today