ما الذي تحتاجه السينما السعودية لكي تفرض وجودها؟
أمير العمري
السينما استيقظت في المملكة العربية السعودية. عادت إليها الروح، وعادت هي إلى الحياة بفضل السياسة الجديدة التي تتبعها المملكة، في فتح الأبواب أمام الفنون والإبداع الثقافي والفني، ورصد ميزانيات جيدة، لتأسيس صناعة سينمائية يمكنها أن تنافس وأن تحقق مستويات جيدة سواء في الوصول إلى الجمهور داخل البلاد، أو في تحقيق الإنجازات على الساحة العالمية من خلال المشاركة الفعالة والجادة في مهرجانات السينما العربية والعالمية.
اتخذت الدولة خطوات جادة لبناء الصناعة، وتشجيع القطاع الخاص على خوض مجال الإنتاج السينمائي إلا أن الطريق لا يزال طويلا لكي تصبح السينما ركيزة من ركائز الثقافة الشعبية في المملكة، وتستعيد مكانتها بعد عقود من طغيان وهيمنة التليفزيون والفيديو واحتكارهما المشاهدين السعوديين. فما هو المطلوب لتحقيق هذه التحول الكبير المنشود؟
قبل كل شيء، لابد من فتح المجال أمام حرية الإبداع. صحيح أن الوضع الجديد يشجع ويدعم ويفتح ويدفع نحو انطلاقة لصناعة السينما، لكن مازالت هناك خطوات أخرى مطلوبة لإتاحة الحرية الفكرية، وطرق مواضيع جديدة بعيدة عن الاتجاه التجاري الشائع الذي ينحو نحو مغازلة الجمهور، مع اقتباس مواضيع وقصص من أفلام أجنبية وصبغها بالصبغة المحلية، فمن المؤكد أن شباب السينما السعودية الجديدة، يتطلعون أكثر إلى التعبير عن رؤى تشغلهم، أكثر من مجرد تناول إشكاليات محلية محدودة ربما تكون مسلسلات التليفزيون قد سبقت إليها.
وفي سياق النظرة الجادة العميقة التي ترمي إلى تأسيس سينما حديثة، من المهم الاهتمام بدعم المشاريع السينمائية الأكثر طموحا، التي يمكن أن تعبر عن اهتمامات فنية خاصة، مع ربطها بالسياق العام، مع فتح القضايا المعلقة من الماضي، من حقب الانغلاق الفكري، وفتحها ومناقشتها بحرية في ضوء المساحة الجيدة التي أصبحت متاحة للتعبير في الوقت الحالي. والملاحظ أن الأفلام السعودية القصيرة تظل أكثر جرأة من مثيلاتها الطويلة في طرق مثل هذه الأبواب، مع الاهتمام بالتجريب، وهو إن كان مفهوما بحكم الميزانيات الصغيرة للأفلام القصيرة، والمراهنة على السوق التي يخضع لها الفيلم الروائي الطويل عادة، إلا أن المطلوب من قطاع الدولة هنا، في هذه المرحلة، دعم التجارب الأكثر طموحا في مجال الفيلم الروائي، ولو من خلال مساهمات خارجية، ليس فقط من خلال الإنتاج المشترك، بل والكتابة المشتركة والبحث عن مناطق جديدة في التعبير السينمائي، بالصورة، يعيد اكتشاف المملكة، ويقدم صورتها الحقيقية، بإيجابياتها وسلبياتها.. أو حتى يحلق في فضاء المجرد، النفساني، والفلسفي، ويعبر عن الفنان- الفرد، فالفيلم أولا وأخيرا، ليس محصلة عمل مجموعة من الفنانين والتقنيين، فهؤلاء يوظفون مواهبهم وطاقاتهم لخدمة رؤية المخرج الذي يقف وراء العمل، وقد يكتب السيناريو أو يشارك في تطويره وبنائه.
مع تأسيس بنية تحتية قوية تتمثل أساسا في شبكة ممتازة من دور العرض السينمائي في المملكة، لضمان توفير منافذ لعرض الأفلام للجمهور، وهو ما ظل محجوبا لعقود طويلة، أظن أن من المهم رفد مثل هذه الشبكة، بعدد من المؤسسات الأخرى المهمة مثل مدارس السينما، وإقامة الورش التعليمية على مدار العام، مع استضافة عدد من السينمائيين من العالم العربي والعالم، وهو ما يحدث حاليا فقط في إطار المهرجانات السينمائية التي تقام في المملكة مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي ومهرجان أفلام السعودية. والمأمول أن يصبح هناك مستقبلا معهد لتدريس فنون السينما، يصبح قائما جنبا إلى جنب مع إيفاد البعثات المحدودة إلى الخارج أو حتى استقدام أساتذة من كبار السينمائيين للتدريس.
مع الجوانب المثيرة للإعجاب أن الأفلام الروائية السعودية تعكس رغبة واضحة، في عدم التقولب في أسلوب واحد أو نسق واحد متكرر، فهي لا تميل لأن تصبح سينما “ريفية” مثل السينما الإيرانية، أو سينما القضية الاجتماعية فقط، بل تميل إلى تعدد الأساليب والاتجاهات أو ببساطة، أنواع الأفلام، من الفيلم الاجتماعي إلى البوليسي أي فيلم الجريمة، إلى الفيلم الدرامي، وهو ما يجب أن يتسع ليشمل الأنواع الأخرى من الأفلام مثل التاريخي والكوميدي والغنائي والموسيقي والاستعراضي وأيضا الفيلم الخيالي، أو فيلم الخيال العلمي. والسينما أيضا لا تنحصر في مجال الفيلم الروائي فقط بل هناك أيضا الفيلم العلمي والفيلم التسجيلي وأفلام التحريك أو الرسوم. وأي سينما “طبيعية” لا تنحصر في نوع واحد بل تتعدد فيها أنواع الأفلام، بل وحتى الفيلم الفني الطموح الذي يعكس رؤية وخيالا خاصا، لا يجب أن يلغي الفيلم الشعبي الذي يتوجه إلى قطاع أكبر من الجمهور.
وفكرة المنافسة لا يجب أن تشغل حيزا كبيرا من تفكير القائمين على السينما السعودية، فالمنافسة تكون جيدة من خلال التميز والخصوصية، وليس من خلال المحاكاة والتقليد والانصياع لما هو سائد و”مضمون” أو ما يعتقد أنه قد يكون مضمونا من حيث الإقبال الجماهيري، كما أن غول المنافسة يمكن أن يلتهم أكثر النماذج طموحا إن لم تعرف إلى من تتوجه تحديدا. فتحديد طبيعة الجمهور أيضا من الجوانب الأساسية التي تهتم بها جهات الإنتاج.
من أكثر معالم النهضة السينمائية التي تشهدها المملكة إثارة للإعجاب، ذلك الاهتمام الكبير والملموس لقطاع الثقافة السينمائية.. إصدار مجلات ومطبوعات وكتب متخصصة، وتشجيع النقد من خلال دعم المنصات السينمائية، وتشجيع الكتاب السعوديين من حقول معرفية أخرى على دخول عالم الكتابة عن السينما وهو ما يثري عملية النقد السينمائي، مع ضرورة تخصيص مساحات أكبر للندوات والمناقشات حول قضايا سينمائية و”ثيمات” محددة خلال المهرجانات السينمائية. بل يمكنني أيضا القول إن المملكة لا يكفيها مهرجان كبير أو اثنان، فالمساحة الجغرافية والسكانية المتعددة المترامية تقتضي إقامة أكثر من مهرجان، على أن تكون هذه مهرجانات نوعية أيضا، أي متخصصة، كمهرجان للأفلام التسجيلية والقصيرة، ومهرجان آخر للسينما الآسيوية، وثالث للسينما الكلاسيكية، مع اقتحام ساحة الترميم وإنقاذ الأفلام القديمة الكلاسيكية العربية أولا، على نطاق أكبر مما هو حاصل في الوقت الحالي.
من الأفكار المستقرة عندي أن العلاقة بين السينما والأدب، كانت دائما تثري كلا منهما. ولعل مما يلفت النظر حاليا، أن نحو 40 في المائة مما ينتج من أفلام في العالم، خصوصا في الولايات المتحدة، يستند إلى اعمال أدبية ومنها أيضا أفلام السيرة. وهنا اعتقد أن من المهم تشجيع السينمائيين الشباب على التعامل مع الأدب، سواء من العالم العربي أو العالم عموما، وتطويع الرواية للسيناريو ومن ثم للفيلم، وهو ما يقتضي أيضا تخصيص دراسات وابحاث وإقامة ورش تدريبية مكثفة وممتدة على هذا العمل، مع تنظيم عروض منتقاة بدقة للأفلام الناجحة التي استندت إلى أعمال أدبية، وعرضها ومناقشتها وتحليلها.
إن ما توليه هيئة الأفلام السعودية حاليا من اهتمام بالمشاركة في التظاهرات السينمائية في العالم، من أجل اكتسب الخبرات، واجتذاب الكثير من صناع الأفلام للتصوير في المملكة، والمشاركة بالأفلام السعودية في مهرجانات السينما الدولية، لهو أمر جيد، ويجب أن يمتلك آلية تكفل له الاستمرار والتوسع، وخصوصا في مجال التصوير داخل المملكة، وهو ما يقتضي تأسيس دراع لتقديم الخدمات الإنتاجية والتسهيلات المختلفة المطلوبة، وربما يتسع المجال مستقبلا لتأسيس مدينة للسينما، تتوفر على البنية الأساسية اللازمة لتصوير الأفلام، سواء للسينمائيين السعوديين أو الأجانب. وهو أمر ليس ببعيد بعد كل هذا الانفتاح والجدية في النظر إلى أهمية صناعة السينما.