مايكل هانيكه ولغز الواقع

الفنان النمساوي مايكل هانيكه Michael Haneke، مهما اختلفت الآراء حول أعماله وموضوعاته وأساليبه، يظل مخرجاً سينمائياً فذّاً واستثنائياً في عالم السينما اليوم. عبر أعماله الجادة والملفتة، استطاع هانيكه أن يكرّس حضوره كواحد من أهم وأبرز المخرجين المعاصرين في السينما العالمية، وأكثرهم إثارة للخلاف والجدل.

أحرز شهرة عالمية واسعة مع فوز فيلمه The Piano Teacher بجائزة أفضل مخرج في مهرجان كان 2001.. إذ حتى ذلك الوقت، ظلت أعماله – رغم أهميتها وجدّتها – بعيدة عن الانتشار الذي تستحقه بجدارة.

تناول في أعماله موضوعات مقلقة واستفزازية، من خلالها وجّه نقداً حاداً لعناصر الميديا (التلفزيون، الفيديو، السينما) في علاقتها بمظاهر معينة في الواقع الأوروبي الحديث: العنف، العزلة، الاستلاب، المحن الفردية والاجتماعية.

إلى جانب إلحاحه على تناول قضايا انسانية فردية وعامة تتصل بتأثير الماضي على الحاضر، الشعور بالذنب على المستوى الشخصي والجماعي، تفشي حالات الارتياب في الآخرين في المحيط العائلي والاجتماعي، نفور الفرد أو عجزه عن تحمّل مسؤولية أفعاله.

هانيكه راصد يقظ للسلوك الإنساني في أكثر الأوضاع والحالات تأزماً وتطرفاً.

*******

ولد في ميونيخ بألمانيا، العام 1942. ابن ممثليْن محترفيْن. أمه نمساوية كاثوليكية، وأبوه ألماني بروتستانتي. كلاهما كانا ممثليْن التقيا أثناء الترفيه عن القوات أيام الحرب العالمية الثانية. وأثناء جولة لهما في ميونيخ، أنجبا مايكل.

قبل أن يبلغ الثالثة من عمره هجر أبوه عائلته، ليستقر في ألمانيا، بينما ظل هو مع أمه في النمسا. مع ذلك يصرّ هانيكه على أنه عاش طفولة مريحة.. ” في الواقع كنت طفلاً مدللاً، فقد كنت الابن الوحيد”.

ويضيف: “كل طفولة لها صعوباتها وعوائقها. عن نفسي، كانت طفولتي مريحة جداً، يسيرة الحال، ولم تكن لدينا مشاكل مالية. لكن هل كانت طفولتي سعيدة حقا؟ لا، لم تكن كذلك. لقد نشأت في زمن الحرب، بالتالي لم تكن الحياة ممتعة جداً.”

غياب الأب لم يؤثر سلباً على نفسية هانيكه، وعندما وصل سن البلوغ، بدأت علاقته بأبيه في التحسّن:

“كانت علاقتي بأبي طيبة، خالية من التوتر، فقد كان يتمتع بحس دعابة عالية. هو يشبهني في الشكل قليلاً لكن من غير لحية. كان مظهره أشبه برجل إنجليزي أنيق”.

أما أمه فقد تزوجت ثانية من يهودي نمساوي أجبر على النزوح إلى انجلترا خلال الحرب.

في طفولته لم يكن هانيكه واعياً لما يحدث في ألمانيا النازية إلا في حدود ضيقة.. “لم نكن نتحدث عن الحرب. لا أعرف إن كان لدى أبي أي إحساس بالذنب. أعرف أن أمي في شبابها كانت تخرج مع ضابط نازي شاب، لكنها لم تكن تعلم شيئاً عما يحدث، كانت معجبة بالزي النازي. عندما أخبرها عن الأفعال التي ارتكبها، شعرت بالاشمئزاز وانفصلت عنه”.

أمضى هانيكه فترة مراهقته في مزرعة ببلدة فاينر نيوستادت، تحت رعاية خالته وجدّته – لكنها لم تكن تنشئة ريفية – قبل أن يغادر إلى فيينا بالنمسا.

يقول: “مثل أي شخص في مخاض سن البلوغ، شرعت في كتابة القصائد. لكن في الأصل، أردت أن أترك الدراسة للتدرّب على التمثيل. أنا من عائلة من الممثلين: أمي ممثلة، وأبي كان ممثلاً ومخرجاً. بل أني ذات يوم قررت أن أتخلى عن الدراسة وانتقل إلى فيينا لتقديم اختبار في الأداء من أجل المشاركة في حلقة دراسية يشرف عليها المخرج ماكس رينهارت. الجميع هناك كانوا يعرفون أمي، وكنت أعتبر نفسي موهوباً على نحو مدهش. لذا لم أتوقع أو يخطر ببالي أنهم سوف يرفضون قبولي، لكن هذا ما حدث، وقرارهم صدمني إلى حد بعيد. لذلك عدت للدراسة لنيل دبلوم الثانوية”.

عن تكوينه النفسي في مرحلة المراهقة، يقول هانيكه:

“منذ وصولي سن البلوغ وأنا احتفظ بمسافة معينة بيني وبين الآخرين،   

وأحدّد نفسي باتخاذ موقف معيّن. أرى ذلك حتى في المحادثات اليومية. حالما تتخذ الغالبية شكلاً ما، أكون ضدها من حيث المبدأ. إنه شيء غريزي. كلما اتفق الناس على شيء ما، أصير عدوانياً. في المدرسة، تجنبت أخذ دروس دينية كاثوليكية. لكنني كنت أحضر الدروس البروتستانتية مرّة في الشهر. وكنت أستمتع بكوني مختلفاً عن الآخرين في الفصل. لم أكن أحب التملق والتزلف. منذ صغري كنت وحيداً، وظلت الوحدة معي، لم تغادرني. ولم أتغيّر. لست فخوراً بذلك، لكنها الحقيقة”.

من فيلم “معلمة البيانو”

منذ مراهقته أظهر عشقاً للمسرح والموسيقى والأدب. وكان طموحه أن يصبح عازف بيانو..

“في مرحلة الشباب، كان حلمي أن أصبح موسيقياً. لو كان الأمر بيدي، لو كنت موهوباً في هذا المجال، لوددت أن أكون موسيقياً وليس مخرجاً. كنت أحب أن أصير مؤلفاً موسيقياً أو قائداً لفرقة موسيقية. زوج أمي كان موسيقياً وقائداً للأوركسترا، وقد لاحظ ضعف موهبتي كعازف بيانو. ملاحظته جعلتني أستبعد فكرة أن أصير موسيقياً. مع ذلك، لم أفقد عشقي للموسيقى”.  

إن إدراكه المبكر لافتقاره إلى الموهبة جعلته يختار دراسة الدراما في الكلية، لكنه تخلى عن ذلك بعد نصف السنة الدراسية، ليتحول إلى دراسة الفلسفة.. “كنت أعتقد أن هيجل سوف يفسّر لي العالم، لكنني فهمت أن الأمر ليس كذلك”.

في تلك المرحلة، نشر مقالات عن المسرح والسينما في الجرائد اليومية السويسرية. وكان، مثل فرانسوا تروفو، يشاهد ثلاثة أفلام في اليوم.  

يقول هانيكه:

“في مرحلة الدراسة تلك، تعاملت مع الكتابة بجديّة أكثر. كذلك قدّمت أعمالاً للإذاعة، ونشرت في عدد من المجلات مقالات نقدية في الأدب والسينما، رغم إني لم أكن أمتلك ثقافة واسعة في هذين المجالين.

في تلك الفترة، بدأت في كتابة القصص القصيرة. عندما وُلد ابني، قرّر والداي الاستقلال عني، وهذا أجبرني على البحث عن مصدر للرزق. بحثت عن عمل في دار للنشر، وأرسلت لهم بعض محاولاتي القصصية، وبدلاً من تعييني محرراً في الدار، كما كان مبتغاي، طلبوا مني المزيد من القصص. كنت منزعجاً جداً، لكنني واصلت الكتابة.

سمّيت ابني ديفيد تيّمناً باسم الكاتب الذي كنت أبجّله واعظّمه في ذلك الحين: ديفيد هربرت لورنس.. رغم أن تداول اسم ديفيد غير اعتيادي تماماً في البلدان الناطقة باللغة الألمانية. لورنس بالنسبة لي كاتب عبقري حقيقي، وقد التهمت كل ما كتبه.

وقتذاك شرعت في كتابة رواية لم أنشرها، ومؤخراً عثرت على المخطوطة في حقيبة قديمة، في الموضع الواقع تحت سطح منزلي الريفي. لم أتذّكر موضوعها إلا حين قرأتها من جديد، وفي الواقع لم  أصدّق أنني كتبتها، إذ لم تكن سيئة، وتأثير لورنس كان جلياً،  وقد  سنحت لي الفرصة لأن أقرأ أجزاء منها في مسرح صغير في فيينا. كانت تلك الأمسية مهمة جداً بالنسبة لي، وحضرها والداي”.

بعد أن رفضت دار النشر توظيفه..

“في تلك الفترة أتيحت لي الفرصة لأن أتمرّن في محطة تلفزيون في مدينة بادن – بادن. كانوا يبحثون منذ سنوات عن دراماتورغ جديد وانتهى بهم الأمر إلى توظيفي لأصبح أصغر دراماتورج تلفزيوني في ألمانيا، وبدأت في صقل اهتمام أكثر احترافية بالسينما. في غضون ثلاث سنوات، تعلمت كل ما احتاج إلى معرفته عن كتابة السيناريو”.

في البداية، عمل في قراءة وتقييم النصوص، وهو يضفي أهمية على هذا العمل..

“بدايتي كانت فحص ودراسة أكوام من النصوص الفقيرة جداً. الذي علمني كتابة السيناريو، قبل أي شيء آخر، هو قراءتي لتلك السيناريوهات الرديئة. على مدار سنتين، من تلك السنوات الثلاث، كنت أذهب كل صباح إلى العمل لأجد على مكتبي كومة من المخطوطات، من النصوص السيئة التي يتعيّن عليّ قراءتها وتقييمها. كانت بداية جيدة لأن بقراءة الكتب السيئة تكتشف ما هو جيد. إنك تلاحظ خللاً ما في النص يجعله غير مقبول، وتتساءل ما الذي يجعل النص مقبولاً، فتبحث عن الجوانب التي يمكن أن تجعل النص جيداً، وبذلك تتجنب الأخطاء. ورغم أن قراءة تلك النصوص السيئة لم تكن ممتعة على الإطلاق، إلا أنها ساعدتني كثيراً. أما النصوص الجيدة فإنها تثير إعجابك إلى حد أنك تنسى أن تكتشف ما الذي يجعلها جيدة”.

المجال الفني الآخر الذي كان موضع ولع هانيكه هو المسرح.. يقول هانيكه:

“الشيء الآخر الذي تعلمته أثناء وجودي في بادن – بادن هو الإخراج. تجاربي الأولى كانت في المسرح المحلي. كنت على علاقة عاطفية مع ممثلة منتسبة إلى المسرح. المدينة في تلك الفترة كانت في حالة ركود ثقافي. الممثلون كانوا عاديين في أفضل الأحوال، واحتجت إلى فترة طويلة كي اكتشف كيفية النفاذ إليهم واستنباط أداء معقول منهم. الإخراج والتعامل مع الناس مسألة تعتمد على التجربة، وقد تعلمت ذلك بطريقة شاقة في تلك المدينة”.

كتب هانيكه وأخرج عدداً من المسرحيات التي عرضت على مسارح برلين وميونيخ وفيينا في بداية السبعينيات من القرن الماضي. قبل أن يعمل مؤلفاً ثم مخرجاً في التلفزيون منذ العام 1973.

أثناء عمله في المسرح، استعان بوالده كممثل في عمل يخرجه.. “كان التعاون بيننا مثمراً وممتعاً. كان أبي ذا حضور قوي في الأدوار الكلاسيكية”.

*********

كان في ذلك الحين مولعاً بالفلسفة الوجودية. وقد أصيب بخيبة أمل في الكاثوليكية التي نشأ في كنفها، مع ذلك هو آمن، ولا يزال، بأهمية الدين.

رؤاه الفنية والفكرية تشكّلت من خلال تعرّضه، في بداية الستينيات، لتأثيرات المخرج الفرنسي روبير بريسون والفيلسوف والعالِم بليز باسكال، إضافة إلى دراسته الينسينية  Jansenism، وهو مذهب لاهوتي يقول بفقدان حرية الإرادة، وأن البشرية مقدّر لها بالفطرة أن تعاني وتكابد إزاء اللامبالاة العدائية، الفجة، للحياة. وهي جوهرياً رؤية تراجيدية للعالم ذات منطق يأس وقنوط يشكّل أفكار هانيكه عن الجنون والانتحار والفتور.

من فيلم “القارة السابعة”

كذلك تأثر بنظرية ثيودور أدورنو الجمالية وكتاباته في الصناعة الثقافية. وتوجّه إلى برتولت بريشت واطروحاته عن المسرح الملحمي، التي شجعته على اتخاذ موقف نقدي من التلاعب العاطفي الناشئ من خلال سيكولوجية الشخصية وتطابق المتفرج مع الشخصية وما يحدث أمامه. لقد نظر بريشت إلى الكائنات البشرية بوصفها متغيّرة وقابلة للتغيير، كما اعتبر الإنسانية نفسها مادة رئيسية للبحث والاستقصاء، لكن حصيلة ذلك لا يجب أن تكون مفروضة أو مسلّم بصحتها سلفاً.

هانيكه أبدى تردداً في الاعتراف بتأثير بريشت، بسبب موقفه السياسي الموجّه، رغم استفادته منه واستنباط نقد فعّال للعنف في السينما وعبرها.  

فنياً، بالإضافة إلى بريسون، هو عادةً يشير إلى أنتونيوني وكوبريك كأسماء مؤثرة وملهمة.

*********

صناعة السينما النمساوية، في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، كانت صغيرة ومحدودة وميّالة إلى الأعمال الوجدانية. بينما كانت هناك، في تلك المرحلة، فرص أكثر وحرية ابداعية أكبر في العمل التلفزيوني.

يقول : “بالطبع هناك قوانين ينبغي أن احترمها، لكنني كنت قادراً على كتابة النصوص التي أريدها، وأن أخرجها وفق رؤيتي”.

لقد قضى هانيكه 18 عاماً وهو يعمل في التلفزيون. أثناء ذلك حقق العديد من البرامج إضافة إلى  سبعة أفلام تلفزيونية، من بينها Lemmings (1979) عن مراهقين يتحولون إلى متمردين ومعادين للمجتمع، ولديهم نزعة لتدمير الذات، وعن الصدوع التي يمكن أن تتسع بين الأجيال. وهو مؤلف من جزئين. “عندما شاهد أبي الفيلم شعر بالصدمة، وقال لي: من أين جاءت هذه الكراهية للآباء؟.. قلت له: ليس ثمة كراهية. إني أنظر إلى العالم من حولي، ولديّ عين دقيقة تحسن التقاط الألم.”

ومن الأعمال التلفزيونية الأخرى:  

“نعي قاتل” (1991)، “التمرد”  The Rebellion  (1993)، وهو مأخوذ عن رواية لجوزيف روث عن مصير جندي عائد في فيينا بعد الحرب العالمية الأولى.

كذلك اختار أن يحوّل رواية كافكا “القصر” إلى فيلم تلفزيوني العام 1997، بمعالجة قاتمة ومتقشفة.

عن عمله في مجال الأفلام التلفزيونية، يقول هانيكه:

“عندما بدأت أحقق أفلاماً تلفزيونية، كان من الممكن تنفيذ نوع من الأعمال مختلف عما كان سائداً وقتذاك. كان ممكناً تحقيق أعمال جادة. أغلب أفلامي التلفزيونية كانت معدّة عن أعمال أدبية. تلك كانت الإمكانية الوحيدة لاستخدام ذلك الوسط على نحو جاد. لقد أتاح لي التلفزيون أن أطوّر وسائلي كمخرج سينمائي. الطريقة الوحيدة التي تستطيع تعلّمها لكي تصبح مخرجاً سينمائياً هي بصنع الأفلام، وهذا ما فعلته. العمل في التلفزيون ساعدني في تعلّم المهنة. كذلك ساعدني عملي في المسرح لعشرين سنة. إذن كلا المظهريْن ساعداني في اختبار مهاراتي وفي تعلّم الحرفة. لكن أيديولوجياً، أعتقد أن عملي التلفزيوني لم يساهم إلا قليلاً في إضاءة عملي في السينما. 

طبعاً الأفلام التي حققتها للتلفزيون يمكن تمييزها كما هو الحال مع أفلامي الأخرى. مع ذلك، تظل أفلاماً تلفزيونية. وكما سبق أن قلت، الأفلام التلفزيونية مختلفة تماماً عن الأفلام السينمائية، لأن الأفلام التلفزيونية عليها أن تؤدي غرضاً خاصاً، إذ يتعيّن عليها أن تتعامل مع جمهور ذي بنية معيّنة، ومع ما يتوقعه الجمهور. لذا فإنها لا تستطيع أن تنجز ما يمكن للأفلام السينمائية أن تفعله. تلك السنوات العشرين التي قضيتها وأنا أصور أفلاماً تلفزيونية وأعمالاً أخرى، لم تكن بسبب عدم توفر الفرص لتحقيق فيلم سينمائي، بل بالأحرى لأنني أردت أن أجد لغتي الخاصة”.

الجدير بالإشارة هنا إلى أن التلفزيون وسط دائم الحضور في أفلام هانيكه، حيث يشجبه بقوة باعتباره موصّلاً قاسياً للعنف.

********

يتذكر هانيكه افتتانه بالسينما وهو طفل، في الرابعة من عمره، حيث كان يرافق جدّته لحضور الأفلام في الصالات. 

عندما بلغ الخامسة، أرسلته أمه إلى الدنمرك، مع مجموعة من الأطفال، ضمن اتفاقية تبادل أجريت بعد الحرب. أمضى هناك ثلاثة شهور من التعاسة “كانت التجربة الشاقة الوحيدة في طفولتي، وعندما عدت، خاصمت والديّ ولم أتحدث إليهما مدة أسبوعين”.

لكن من رحلته إلى الدنمرك يتذكر دهشته عندما أخذوه إلى صالة سينما وهناك.. “شاهدنا فيلماً يدور في أفريقيا حيث الجِمال والنخيل. كنت مأسوراً بالفيلم إلى حد أنه عندما انتهى، وأضاءت الأنوار الصالة، وخرجنا من الأبواب المفتوحة، تفاجأنا بالجو البارد وتساقط الثلج في مساء كوبنهاجن.. ولحظتها لم أستطع أن أفهم ما يحدث.. كيف انتقلنا بهذه السرعة من أفريقيا إلى كوبنهاجن”.

*********

بعد تجارب متميزة في هذين المجالين، المسرح والتلفزيون، خاض هانيكه المجال السينمائي، في العام 1989، وهو في السابعة والأربعين من عمره بفيلم “القارة السابعة” The Seventh Continent  .   

يقول هانيكه:

“عندما بلغت الخامسة عشرة تمنيت أن أصير ممثلاً مثل أمي. قبلها بسنة أردت أن أكون عازف بيانو، وقبلها بسنة أردت أن أصبح قسيساً. لم يقبلوني في الأكاديمية كممثل، لذا اتجهت إلى دراسة الفلسفة، ومارست كتابة العديد من القصص القصيرة والقليل من النقد السينمائي. لكنني كنت طالباً سيئاً لأنني كنت أرتاد صالات السينما ثلاث مرات في اليوم. بعدئذ عملت في التلفزيون كمحرر للنصوص ثم كمخرج لأفلام تلفزيونية. في تلك الفترة عملت في المسرح لعشرين سنة. عندما بلغت السادسة والأربعين، قررت أن أحقق فيلمي الأول الطويل. أعتقد أن أغلب الأشياء، في حياة المرء، يقرّرها الحظ والصدفة”.

في فيلمه الأول  يقدّم بورتريهاً واضح المعالم للعزلة، الكبح، السلبية، والوحدة. هانيكه يستخدم الانتقالات المفاجئة في السرد، التكرار المنهجي للأفعال، والأجزاء المتشظية، من أجل توكيد حالة الضجر والفراغ في حياة الشخصيات.

إنه مبني على قضية حقيقية نشرت في إحدى الجرائد.  عن عائلة صغيرة تعيش حياة هادئة لكن تعيسة، رتيبة، خالية من المعنى والهدف، تدفع بأفرادها إلى تدمير كل شيء، ثم إلى الانتحار الجماعي.   

الفيلم هو الجزء الأول من ثلاثية مكرّسة لعرض “البرود العاطفي”. 

من فيلم فيديو بيني

فيلمه الثاني “فيديو بيني” Benny’s Video (1992)، فيه يقدّم سبراً عميقاً للعزلة، اللاانتماء، التوحّد. إضافة إلى انحراف العائلة النووية، البورجوازية، وانهيارها، في غياب الاتصال، الثقة، التوجيه الأخلاقي، والمشاركة العاطفية.

الفيلم يرسم صلة قوية بين الميديا وانسلاب العائلة، متحرياً تأثير الميديا المنتجة للصورة على إحساس الفرد بالواقع، من خلال فتى مراهق يرتكب جريمة قتل (من باب الفضول، ولكي يعرف كيف يبدو قتل انسان) ويصورها وهي تحتضر. والداه يقرران التغطية على الجريمة، لأن افتضاح الأمر يؤدي إلى تعريض مهنتهما ومكانتهما الاجتماعية للخطر.  

الفتى هو المستهلك المثالي، إلى حد الإدمان، لأشكال الميديا – التلفزيون، الفيديو، الثقافة الشعبية – هذه الأشكال التي يتخذها كعوامل ملهمة، مربّية، محرّضة ومشجّعة.

في فيلمه الثالث “71 شذرة من يوميات صدفة ما”     71 Fragments of a Chronology of a Chance   (1994)، يوسّع هانيكه البؤرة منتقلاً من العائلة النووية إلى مجال أكبر من الشخصيات الذين، من قصصهم غير المترابطة وغير المتصلة في ما بينها، وفي مشاهد مستقلة، ينسج بنية درامية معقدة تمكّنه من استكشاف وتحرّي التشعبات الثقافية والفلسفية المتنوعة، المتعددة الأشكال. كما يبحث في طرائق تعامل المجتمع الأوروبي مع الآخر، المختلف، عرقياً وثقافياً واجتماعياً.

الفيلم مبني على حادثة حقيقية، وينتهي بمجزرة يرتكبها طالب.

 ********

في العام 1994 كتب هانيكه سيناريو فيلم  Moor’s Head، لكن لم يخرجه. وهو عن عالِم يفقد عقله بسبب ذعره المتزايد من حالة العالَم. أثناء غياب عائلته، يحوّل شقته إلى مكان مستقل، يتمتع باكتفاء ذاتي، فيه يربي الحيوانات ويزرع النباتات مستخدماً إضاءة اصطناعية.

في فيلمه “ألعاب مسلية”  Funny Games (1997)، ومن خلال سرد خطي، نرى عائلة غنية صغيرة، مؤلفة من زوجين وابن، تتعرض للأسر والتعذيب في منزلها الريفي، أثناء قضاء العطلة الصيفية، على يد شابين غريبيْن، غامضيْن، ذوي نوازع إجرامية، يخضعان العائلة لألعاب سادية، يزعمان أنها مسلية وبريئة، تنتهي بإذلال وقتل أفراد العائلة.

هنا يصعّد هانيكه من نقده لعنف الميديا، والمضامين العنيفة لألعاب الفيديو، عن طريق تقويض نوعية الأفلام الإثارية.

السينما النمساوية لم تكن معروفة جيدا على الخارطة السينمائية العالمية، حتى عرض هانيكه فيلمه هذا، وبه أحرز سمعته كصوت خلاق في السينما الأوروبية، وأفلامه الأولى التي لم تجذب انتباه الجمهور عادت إلى الواجهة لتلقى اهتماماً نقدياً كبيراً، ومن خلالها تعرّف الجمهور على أعمال غنية فلسفياً، جديدة أسلوباً ومعالجةً، وتطرح أسئلة غير مألوفة. 

في العام نفسه، 1997، حقق هانيكه فيلماً تلفزيونياً عن رواية فرانز كافكا “القصر”  The Castle، عن رجل يصل إلى قرية نائية، معزولة، يفترض فيها الأهالي أنه مسّاح أراضٍ جاء ليؤدي مهمة رسمية، فيما يحاول هو أن يوضح بأن ثمة سوء فهم. كل محاولاته لتوضيح الأمر إلى المسؤولين تتعرض للإخفاق لأنه يفتقر إلى السلطة السليمة أو المستندات الصحيحة. الرجل يجد نفسه في مواجهة مجتمع منغلق، غريب، مصاب بالاختلال الوظيفي. وهناك المتاهة البيروقراطية التي يضيع فيها الرجل. في هذا العالم لا أحد يعرف ما الذي يجري، والبعض يمتثل ببساطة من دون فهم حتى ما هو مطلوب منهم.       

من المعروف أن كافكا لم يكمل روايته هذه، وفي معالجة هانيكه لها،  لم يخترع لها نهاية بل حافظ على نهاية الكتاب نفسه، من دون أن نعرف مصير البطل.

هذا العمل عُرض في الصالات السينمائية النمساوية بعد نجاح فيلمه “ألعاب مسلية”. يقول هانيكه:

“في 1997 كنت قادراً بالفعل على تحويل رواية كافكا (القصر)، لصالح التلفزيون السويسري. ذلك لم يكن ممكناً، بالنسبة لي، إلا كنتيجة لنجاحي في المشهد السينمائي العالمي. لولا ذلك لواجهت صعوبة شديدة. بالنسبة لهم، هذا العمل ضرب من العذر أو الواجهة، شيء يتيح لهم أن يهنئوا أنفسهم به قائلين: أنظروا كم هي رائعة نتاجاتنا”.

فيلمه “شفرة مجهولة”  (2000)Code Unknown ، عن انهيار اللغة، وصعوبة الاتصال بفعل العنصرية والظلم الاجتماعي/ الاقتصادي، والتفاوت الإجتماعي الضمني المتأصل في أي مجتمع مدني معاصر، ومتعدد الثقافات على نحو متزايد.

إنه عن الإخفاق في الاتصال في المدن الحديثة المتعددة الثقافات، وأيضاً عن تدهور إحساس الناس بالواقع.

من فيلم “شفرة مجهولة”

الفيلم، كما الحال مع بعض أفلامه السابقة، مؤلف من بناء سردي يعتمد على أجزاء أو شظايا قصيرة. هذه الشظايا تدور حول العلاقات بين سكان المدينة، المنتمين إلى جنسيات وأعراق وطبقات مختلفة، وكيف أنها مبنية على تسوية الخلافات بطريقة تتسم بالفتور أو اللامبالاة أو سوء الفهم. وهانيكه هنا يخرج من المواقع النمساوية منتقلاً إلى فرنسا متعددة الثقافات.

في فيلمه “معلمة البيانو”  The Piano Teacher (2001)، المأخوذ عن رواية الكاتبة النمساوية إلفريده يلينيك، يسبر نفسية شخصية مركّبة، بلا روابط اجتماعية ولا ميل إلى ممارسة متع الحياة. هي حية لكنها لا تعيش حياتها كما ينبغي. محكومة بالرتابة والخضوع. إنها مدرّسة الموسيقى، أسيرة الرغبات الغريبة، والتي تعاني من الكبت العاطفي والجنسي، ومن استبدادية أمها.   ومن خلال علاقة جامحة، معقدة، وموجعة مع تلميذ شاب، تختبر فيها نوازعها المازوشية التي ترعب الشاب.

فيلمه “زمن الذئب” Time of the Wolf (2003) عن عائلة صغيرة تتجه ليلاً إلى الريف لقضاء العطلة في البيت الريفي، لتكتشف أنه محتل من قِبل عائلة نازحة. الأب يتعرّض للقتل، والأم تهرب مع ابنتها وابنها إلى قرية مجاورة لكنها أمست مهجورة. العائلة تناضل من أجل البقاء في عالم حلت به كارثة مدمرة، غامضة، فشحّت موارده وعمّ فيه الخوف وانعدام الأمان. عنوان الفيلم – الذي يقدّم صورة مخيفة عن مستقبل محتمل، دون أن ينتمي إلى نوعية الخيال العلمي – يشير إلى الوقت الذي يسبق نهاية العالم.

في 2005 حقق فيلم “المخفي” Hidden عن عائلة  بورجوازية صغيرة تتلقى أشرطة غامضة، مجهولة المصدر، ومهدّدة. والسؤال عن المصدر يكشف عن أسرار دفينة تعود إلى الطفولة.. وهي تتكشف على الرغم من محاولات الإنكار والنفي.

الفيلم هو استنطاق للإثم والتواطؤ وتصفية الحساب. هانيكه هنا يسبر اللامبالاة الاجتماعية وفتور المشاعر، ويستجوب الإثم السياسي والقمع التاريخي من خلال الصفحات المدفونة من ماضي فرنسا، كما يستجوب طبيعة الواقع المنحرف.

في العام 2007، قدّم هانيكه النسخة الأميركية من  “ألعاب مسلية” Funny Games  بالعنوان نفسه، بالشخصيات والأحداث نفسها، مع تغييرات طفيفة،  لكن مع نجوم من السينما الأميركية. 

بعد عامين قدّم “الشريط الأبيض” The White Ribbon الذي حاز الجائزة الكبرى في مهرجان كان 2009. كما حاز على العديد من  الجوائز الأخرى، وفيه يستكشف جذور الفاشية والإرهاب عبر قصة ترصد الحياة في المناطق الريفية من ألمانيا، خلال الأشهر التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وتتناول مساوئ أسلوب التربية، شديدة القمع. سلسلة من الحوادث الغريبة والعنيفة تحدث ولا نعرف من مرتكبها، وهي تخلخل المجتمع الهادئ في ظاهره.

 في فيلم “حب” Amour (2012) يكون الزمن هو المنتهِك، هو العدو. زوجان في الثمانين من العمر، يجمع بينهما حب عميق وألفة مديدة. عندما تمرض الزوجة، يجد الزوج نفسه مرغماً على تكريس كل طاقته وكل مشاعره من أجل رعايتها والاعتناء بها، بينما تتدهور حالتها البدنية والذهنية ببطء وعلى نحو يتعذّر اجتنابه.

في العام 2017 عرض فيلمه “نهاية سعيدة” Happy End ، عن عائلة بورجوازية مأزومة، ممسوسة بكراهية الذات. أفراد العائلة شخصيات، في الغالب، محرومة من البهجة، مغلّفة باليأس، غير قادرة على الانسجام مع نفسها أو مع الآخرين أو العالم المحيط بها. إن هانيكه هنا يحفر بداخل الكيان العائلي ليقوّضه من الداخل.

********

إلى جانب عمله السينمائي، فإن هانيكه يتجه أحياناً إلى إخراج أعمال أوبرالية، وقد بدأ في هذا الاتجاه منذ العام 2006 حين أخرج أوبرا موزارت “دون جيوفاني” في أوبرا باريس الوطنية.  

إضافة إلى ممارسته التدريس في أكاديمية السينما بفيينا. وعن أسلوبه في التدريس يقول:

“أعتقد إني مدرّس كثير المطالب نسبياً لأنني أظن أن من غير المجدي التعامل مع الطلبة كما لو أنهم صغار. في الأكاديمية أحاول أن أرفع المطالب من أجل اعدادهم للحياة المهنية. أيضاً أحاول أن أجعلهم يكتسبون الخبرة العملية من خلال مشاركتهم في مشاريعي، بحيث مع كل فيلم اختار طالبيْن فقط. وعادةً لا أميل إلى التعامل مع الطلبة على مستوى شخصي. بوسعي أن أوجّه لهم النصائح عندما يتصلون بي، لكنني لا أخرج لقضاء السهرة معهم. أنا لا أحبّذ أن يلعب المدرّس أو الأب دور الصديق المفضّل. أعتقد أن الصغار يكرهون ذلك، فهم يجدون الأصدقاء في المدرسة، بينما يرون في الأب أو المدرّس دور النموذج.

في شبابي كنت أذهب إلى صالات السينما ثلاث مرات في الأسبوع. كنت حينذاك مدمناً على مشاهدة الأفلام، وليس كما الحال في الوقت الحاضر. كل ما أعرفه عن السينما تعلمته في تلك السنوات من خلال المشاهدة الدقيقة واليقظة. غالباً ما أقول لطلبتي في الأكاديمية أنهم لا يعلمون كم هم محظوظون وذوو امتياز. في يومنا تستطيع ببساطة أن تشتري شريط DVD وتتابع المشهد لقطة فلقطة. عندما كنت شاباً، هذا لم يكن ممكناً. لو كان في الفيلم شيء لم تستطع إدراكه أو فهمه، أو لم يتضح لك مونتاج بعض المشاهد، فإنه يتعيّن عليك أن تعود إلى الصالة وتشاهد الفيلم عشر مرات. بينما في الوقت الحاضر، يمكنك أن تحلّل كل شيء وأنت مرتاح في بيتك.

من فيلم “سايكو” لهيتشكوك

أذكر حين شاهدت فيلم هيتشكوك Psycho للمرة الأولى، كنت مفتوناً بمشهد جريمة القتل تحت الدُش. واضطررت إلى مشاهدة الفيلم 50 مرةً في صالة السينما لفهم براعة المشهد. أما اليوم فيكفيني أن أشتري DVD وأشاهده إطاراً إطاراً، حتى أحلله بنفسي. هذا تقدّم لا يُصدق.

أعتقد أن هناك معاهد في أميركا لتدريس الكتابة والإخراج. وهناك فعلياً الآلاف من الكتب عن هذا الموضوع. لكن هذا لن يفيد كثيراً. إنك تتعلّم الكتابة بالكتابة، وتتعلّم الإخراج بالإخراج. الكتب الذكية لا تعلّمك كيف تكتب أو تصنع فيلماً. لا شك أن الكتب الذكية عظيمة، لكن كل الفنون تقتضي الممارسة”.

في الأكاديمية هو لا يناقش أفلامه مع طلبته. يقول: “الطلبة يرغبون في مناقشة أفلامي معي، إلا أنني أرفض ذلك تماماً. هذا أمر محرج بالنسبة لي. أضطر إلى فعل ذلك أثناء المقابلات. بعد عرض فيلمي أفقد اهتمامي به. دائماً أنظر إلى الأمام ولا ألتفت إلى الخلف. في الأكاديمية نتناقش حول الأفلام الكلاسيكية. هناك العديد من الأفلام الكلاسيكية.”

Visited 80 times, 1 visit(s) today