مارسيل بروست والسينما.. و”الزمن المستعاد”

عندما عرض المخرج التشيلي، المقيم في فرنسا، راؤول رويث Raul Ruiz فيلمه “الزمن المستعاد” Time Regained(1991)، المأخوذ عن رواية مارسيل بروست، استقبل النقاد الفيلم بحفاوة بالغة واعتبروه إنجازاً فنياً رائعاً واستثنائياً.

لإلقاء الضوء على الفيلم، والعالم البروستي الذي حاول الفيلم أن يجسّد روحه ويكشف عمقه، آثرت أن أعرض هنا، عبر الترجمة، ثلاث وجهات نظر تتعرض للفيلم في مختلف أبعاده، كما تتطّرق إلى علاقة السينما بأعمال بروست.

 1- عن مجتمع يحتضر

بطريقته المتميّزة في الكتابة النثرية المركّبة، الأشبه بالمتاهة، وشخوصه الوفيرة المكتنزة بالمشاعر، والانتقالات المتعدّدة في الزمن، تصبح تحفة مارسيل بروست الأدبية “بحثاً عن الزمن الضائع” (أحد أعظم إنجازات الرواية الحديثة) عصيّة على التحوّل إلى الشاشة السينمائية، و لا تبيح نفسها بسهولة للإعداد السينمائي.

لذلك تأتي معالجة راؤول رويث الذكية والبارعة، وإخراجه الرائع، لرواية “الزمن المستعاد”، وهو الكتاب الأخير في ملحمة بروست “بحثاً عن الزمن الضائع” بمثابة المفاجأة المدهشة التي تستحق الإطراء.

وهو بالفعل إنجاز جدير بالثناء لأن رويث لم يحاول، في المقام الأول، التوكيد على قيمة هذه الرواية الشامخة بل سعى – وهو الذي حقّق أفلاماً موسومة بإحساس إيجازي بالزمن – إلى الاستفادة ببراعة من الحيل السينمائية في استحضار الطبقات المتعددة من الذاكرة التي تحفل بها كتابات بروست.. هذه الكتابة التي بذاتها تحدس بحساسية سينمائية رهيفة.

بالنسبة لأولئك الذين لم يتعرفوا على عوالم بروست ولم يطّلعوا على روايته، التي تتقدّم بصعوبة وتمتد في غير نظام، فإن فيلم رويث، على الأرجح، قد يبدو مستغلقاً إلى حدٍ ما ويستعصي على الفهم، ذلك لأن الفيلم لا يضيّع وقتاً في تقديم بيان تفسيري وشرح للأحداث والشخصيات.

إن فيلم رويث، المخلص لجماليات بروست، ينغمر مباشرةً في سلسلة من الأحداث العرَضية التي يشدّها الزمن، والتي تربطها أهواء الذاكرة وتقلّباتها.

مع أن رواية “الزمن المستعاد” لا تُعتبر، بالضرورة، خلاصة للأجزاء السابقة من “بحثاً عن الزمن الضائع” (وكتابة مارسيل بروست تبقى حتى النهاية مضادة بصلابة وعناد للمسار القوسي في السرد التقليدي) فإن الرواية، مع ذلك، تتصل بالتغييرات النهائية التي اجترحتها الحرب العالمية الأولى، بالموت والفقد والتسوية.. وقبل كل شيء، بآثار العمر وما تحدثه الشيخوخة من تلف وخراب.. وهي الثيمات التي عالجها رويث بمهارة فائقة.

إنها قصة كاتب مريض يواجه موتاً وشيكاً، قبل أوانه، والذي يسترجع من خلال الفن اضطرابات طفولته وما اتسمت به مرحلة شبابه من عبث وطيش.

يبدأ الفيلم بمارسيل بروست نفسه (يؤدي الدور مارسيلو مازاريللا) على فراش المرض، منهك وواهن على نحو موجع، وهو يملي على مدبّرة منزله الجُمل التي سوف تشكّل روايته “الزمن المستعاد” (والتي سوف تنشر في العام 1927، أي بعد خمس سنوات من وفاته).

بعد أن يصرف مدبّرة المنزل، يقوم بروست، بعونٍ من عدسة مكبّرة، بتفحّص عددٍ من الصور الفوتوغرافية، ذات اللون البني الداكن، للشخصيات الرئيسية في الرواية.

هنا نتعرّف على الفكرة المهيمنة، المتكرّرة، لتحديقة بروست المتفحّصة: موهبة الرصد والملاحظة الشديدة التدقيق في التفاصيل، التحديقة التي هي غالبا ضارية، عديمة الشفقة، والتي يستخدمها الراوي (الممثل نفسه مازاريللا يؤدي هذا الدور أيضا).. الراوي الذي يشار إليه أحيانا بوصفه الأنا الأدبية الثانية لبروست. وهو يُعدّ مؤرخاً للمجتمع الأرستقراطي الذي يحتضر في باريس. في ما بعد، يشير الراوي إلى أنه كان يفحصهم بالأشعة السينية (أشعة اكس)، عبر تحديقة تلصصية نافذة، مثلما هي التحديقة التي تقوم بها لقطة الكاميرا القريبة والمحْكمة.

المخرج رويث لا يخلق علاقة بين تلصصية الراوي وتلصصية المتفرج فحسب، بل يوحي كذلك بأن الراوي هو أيضا مصوّر سينمائي، والذي عنده يتألف الميزانسين (أي تنسيق العناصر المرئية في المشهد) من الذاكرة والأحلام وتخيّلات الطفولة.

في أحد المشاهد، يظهر مارسيل الشاب وهو يحرّك الفانوس السحري مبتكراً عرضاً لافتاً وفاتناً من الضوء واللون. على نحو مماثل، ذكريات مارسيل عن “أساطير” شخصيات المجتمع الباريسي هي أيضا متحوّلة وعابرة.. ففي الحفلة التي تقيمها إحدى الأميرات، يخلط مارسيل بين جيلبرت وأمها أوديت، وهو الحادث المؤسف الذي يوحي بدمج الشخصيات والماضي والحاضر داخل ذاكرته.

في إحدى تجاوزات راؤول رويث الأكثر دهاءً وحذقاً مع النص، نرى مارسيل الشاب وهو يظهر كمشغل جهاز عرض لفيلم ما، حيث يجلس بعيداً، في موقع يعلو على أفرادٍ غافلين من الطبقة الارستقراطية، ونرى وجهه الرقيق يصبح معتماً ومضاءً بالتعاقب بواسطة ومضات الصور الخاطفة المأخوذة من أفلام جورج ميليه الأولى (الصامتة)، وميليه هذا كان مجدّداً في لغة الفيلم مثلما كان بروست مجدّداً في اللغة المكتوبة.

إن ابتكارات رويث السينمائية هي تحية تقدير رائعة موجّهة إلى تلك اللحظات من رواية بروست والتي فيها تكون قوانين الجاذبية والحركة مطموسة بقوانين الذاكرة الأكثر قوة وفعالية. خلال الحفلة الموسيقية التي يحييها عازف فرد في منزل الأميرة، نرى صفوف الضيوف الجالسين وهم يتمايلون يساراً ثم يميناً، والأشجار تغيّر موقعها على نحو غامض، والراوي نفسه يمكث ساكناً أمام الانتقالات الحيّة من الماضي إلى الحاضر.

بدلاً من تحقيق فيلم سردي، مضجر، عن النص الذي يطرح تحديات كثيرة أمام الإعداد السينمائي، يختار رويث بوعي وحكمة أن يسبر الصلات المجازية الغنية بين أحلام اليقظة والذكريات التي يستدعيها الفيلم – الأكثر اتصالاً بالزمن من بين كل الفنون – مع تلك التي يتذكرها بروست في “بحثا عن الزمن الضائع”.

في “الزمن المستعاد”، يكتب بروست: “في أحوال كثيرة، الواقع كان يخيّب أملي لأن في اللحظة التي تعي حواسي ذلك الواقع في مخيلتي، والمخيلة هي الأداة الوحيدة التي أمتلكها والتي بها أقدر أن أستمتع بالجمال، فإن الواقع ينأى بنفسه، بمقتضى ذلك القانون المتعذّر اجتنابه، والذي يقضي بأننا لا نستطيع أن نتخيّل إلا ما هو  غائب ومفقود”.

                          (ميليسا أندرسون/ مجلة Cineaste 2000)

2 – تحفة فنية أم اختزال فظ  

“الزمن المستعاد” هو  تمجيد وسفر معاً بالنسبة للمخرج التشيلي راؤول رويث. هذا السينمائي الطليعي، الأغزر إنتاجاً بين سينمائيي أوروبا،  والذي حقق العشرات من الأفلام الدرامية والوثائقية، العديد منها بميزانية ضئيلة،  فجأة يقدّم لنا إعداداً فخماً، صقيلاً، محرّكاً للمشاعر، وأميناً، لعمل أدبي كلاسيكي، هو الجزء الأخير من رواية مارسيل بروست “بحثا عن الزمن الضائع”، والذي حشد له عدداً من النجوم من بينهم: كاترين دينوف، جون مالكوفيتش، إيمانويل بيرت، فنسنت بيريز.. وغيرهم.

جمهور رويث سوف يميلون إلى الشعور بالخيانة والخداع إزاء هذا الفيلم، وقد يحكمون عليه سلفاً بوصفه ضرباً من التنكّر للمبادئ، والمتاجرة بميزانية ضخمة لعمل يتناول مرحلة تاريخية على الطريقة المألوفة وحسب النمط السائد.

جمهور بروست الذين يرون في أي ترجمة سينمائية، لهذا العمل الأكثر جوانية من بين الروائع الأدبية، اختزالاً مبتذلاً وفظاً، هذا الجمهور سوف ينكمشون امتعاضاً لاختيار هذا الممثل أو ذاك، والذي يتعارض – من وجهة نظرهم – مع الصور الذهنية التي رسموها في أذهانهم لشخصيات بروست.

الفرنسيون، الذين يحرسون بيقظةٍ، وعلى نحو غيور، إرثهم الثقافي، سوف ينتقدون ويتذمرون لأن هذا التشيلي المنفيّ لم  يستوعب جيداً تفاصيل أو حركات أو إشارات معينة عند بروست.

أما الجمهور العام، خصوصاً أولئك الذين لم يقرأوا بروست، فلربما يجدون أنفسهم، في غضون ذلك، مرتبكين ومتحيرين بسبب هذه الملحمة التي يمتد عرضها ثلاث ساعات تقريباً، والتي تقدّم مقداراً لا حصر له من الشخصيات التي تطفو بين أطر (كادرات) الزمن، وتبدو كأنها تفتقر إلى بؤرة درامية مركزية.

لكن، على الرغم من كل شيء، فيلم “الزمن المستعاد” هو أحد أكثر الأفلام  براعة وفطنة وثراءً في يومنا.

بعد تتابع أسماء المشاركين في الفيلم (مع صورةٍ لمياه تجري عبر الصخور: للدلالة على جريان الزمن)، ينفتح الفيلم على بروست وهو مريض في فراشه، يملي على خادمته سيليست. وحين يشعر بالإنهاك، يأذن لها بالانصراف، ثم يشرع في مطالعة كومة من الصور الفوتوغرافية – من المفترض أنها –  لأفراد العائلة وأصدقائهم، والذين سوف يستخدمهم كشخصيات في روايته الجديدة. إنه ينظر إلى الصور من خلال عدسة مكبّرة، عبرها نتعرّف على عدد من الشخصيات، وعلى ثيمة التحريف معاً.

بقية الفيلم سوف تتابع مارسيل، الذات الأكثر شباباً، التي يتذكرها بروست، وهو يتجوّل عبر حيوات الآخرين، محاولاً أن يفهم عاداتهم وأسرارهم وميولهم السياسية، قابضاً فقط على شذرات منها، مستوعباً الأمور على نحو خاطئ، ولا يبدّد عدداً من الشكوك التي لديه بشأن بعضهم. إنه يشهد توتراتهم ومجابهاتهم وخياناتهم، يرصد حالات الإنكار والمراوغة لديهم، يراقبهم وهم يكبرون، يهرمون، متسائلاً: ما الذي يعنيه كل هذا؟.. في النهاية يقرّر تحقيق عمل أدبي، والذي وحده قد يحرّر هذا النثار من الذكريات، هذه الحياة المخذولة.

ما يسحرني هنا هو المدى الذي يصبح فيه بروست مادةً مثالية للمخرج رويث، من خلاله يبرهن أو يؤكد آراءه الأثيرة، وفي الوقت نفسه يتحرّر من قيوده السابقة.

إن مشروع بروست يفي بشروط رويث، التي سأحاول شرحها:

1) إنه يقاوم ما يسميه رويث “نظرية التضارب المركزية”.

2) يلولب احتمالات الحبكة المتصلة اللانهائية.

3) يدمّر امتياز الإرادة كمحرّك سردي.

4) يسبر الذاتية التي من خلالها تترشّح الذاكرة والتجربة.

5) يدعم التزامن السردي (مشكلة تعايش أكثر من قصة واحدة في

    اللحظة نفسها)

6) يؤكد أن هويات الأفراد تتداخل وتتشابك، وعندما يتعلّق الأمر بالشخصية، فإن الواحد يكون كثرةً والكثرة تكون واحداً.

في كتابه الآسر، المثير للاهتمام، الذي هو عبارة عن مجموعة مقالات بعنوان “شعرية السينما” (1996)، يناقش راؤول رويث نظرية التضارب المركزية، التي ينظر إليها كمثال للسينما الأميركية.. “القول بأن القصة لا يمكن أن تحدث إلا إذا كانت متصلة بالتضارب المركزي، فإن ذلك يرغمنا على إقصاء كل القصص التي لا تتضمن مجابهة، والتخلي عن كل الأحداث التي لا تتطلب غير اللامبالاة أو الفضول غير المتحيّز، مثل منظر طبيعي، أو عاصفة بعيدة، أو عشاء مع أصدقاء.. إلا إذا كانت هذه المشاهد تقاطع معركتين بين الأخيار والأشرار. ليست المشاهد الخالية من الفعل (الأكشن) وحدها التي تتعرّض للإقصاء من قِبل نظرية التضارب المركزية، بل تتخلّص حتى من تلك المشاهد المختلطة: وقت تناول وجبة طعام اعتيادي يتعرّض للمقاطعة بواسطة حادثة مبهمة بلا إيقاع ولا مبرّر، وبلا مستقبل أيضا، بحيث أن كل شيء ينتهي كوجبة اعتيادية مرّة أخرى. والأسوأ من ذلك، أن هذا لا يترك حيّزاً لمشاهد متسلسلة، أي مشاهد أكشن تتتابع في تسلسل أو تعاقب بلا التحام بالتدفّق ذاته”.

إذن أحد سبل النظر إلى فيلم “الزمن المستعاد” هو بوصفه سلسلة من “المشاهد المختلطة” أو “المشاهد المتسلسلة”، التي فيها نجد شيئاً حيادياً يتبعه شيء درامي يتبعه شيء عادي أو مربك.. وهكذا.

ينبغي أن أوضح هنا بأن القليل جداً من هذه المشاهد توجد كمشاهد في الرواية.. فقد قام  رويث، مع جيل توران الذي شاركه في كتابة السيناريو، بنقل جُمل من حوار شخصيةٍ ما – هذا الحوار الذي ربما اقتبسه بروست وأورده بين هلالين، غالباً وسط مونولوج داخلي – ونسجا من هذه الجُمل وحدات درامية. ليس هناك محاولة لتتبع النظام أو الترتيب الذي فيه تبدو هذه الجمل في الرواية: أجزاء من حديث قد يكون مركّباً من مئات من الصفحات المنفصلة، لكن الحوار هو إما مأخوذ مباشرة من بروست أو معاد صياغته من النص. باختصار، الفيلم – بطريقته الخاصة – أمين لمصدره، للمادة الأصلية، على نحو لافت للنظر. لكنه أيضاً أمين لمخطّط رويث بعدم حاجة المشهد لأن يدور حول حدث واحد، وعدم حاجة المشاهد المتعاقبة للارتباط في “دفق” درامي واحد.

نحن باستمرار نتوقف وننطلق، متنقلين من سنة إلى سنة، من شخصية إلى شخصية، مما يجعل من نصف الساعة الأولى ربما الجزء الأقل فتنة وجاذبية في ما يتعلق بالمشاهدة. فقط عندما نستوعب الأنماط الكرونولوجية (المتسلسلة زمنياً)، ونصنّف أو نفرز الشخصيات المختلفة، يكون بوسعنا أن نهدأ ونروق ونرصد الأنواع المنفصلة من الألم.. ذلك لأن الألم هو المشهد اللافت الذي يُعرض علينا.

إحدى الوسائل التي استخدمها رويث في السابق للالتفاف على التعارض المركزي كان لجوءه إلى توظيف مثال الواقعية السحرية، والتي حدّدها بوصفها القصة الخالدة: “كل ما تراه قد حدث قبل الآن وسوف يحدث ثانية مرات عديدة”.. مستشهداً بفكرة بورخيس أن “القدر يهيم بالتكرار”.

لقد حقّق رويث العديد من الأفلام، مثل: “تيجان البحّار الثلاثة” أو “مدينة القراصنة”، والتي توضّح هذا المبدأ الخاص بالعودة الأبدية. الجانب العلوي من هذا المنهج هو إيصال السرد الشهرزادي (نسبة إلى شهرزاد ألف ليلة) ذي التنوّع الهازل، المرح، الذي لا حد له. الجانب السفلي هو أننا نكفّ عن الاهتمام أو المبالاة بما أن، في عالم حيث أي شيء يمكن أن يحدث، لا شيء، في النهاية، معرّض للخطر.

في “الزمن المستعاد”، نحن لدينا نوعاً آخر من التكرار، لكنه عاطفي على نحو صافٍ أكثر، محفّز أكثر للشخصية.

لقد أشار رويث إلى أن نظرية التعارض المركزي تفرط في التوكيد على التماهي مع إرادة البطل كوسيلة تنظيم “مثل زعم هوليوود القديم بأن الفيلم لا ينجح إلا إذا تماهى المتفرج مع البطل: هو الذي ينجز الفعل، هو من يجب أن يفوز في الأخير. أظن أن، في أي فيلم جدير بالمشاهدة، ينبغي عليك أن تتماهى مع الفيلم نفسه، وليس مع أحدى شخصياته”.

باختيار شخصية شديدة اليقظة، سريعة الانتباه، سلبية جداً، انقباضية للغاية، وهشّة إلى حدٍ ما – مثل شخصية مارسيل – وجعلها في بؤرة الفيلم، فإن ذلك بالتأكيد يقلّل من أهمية الإرادة، ويستبدلها بإدراك حسّي محض أو وعي صرف.

ما الذي يريده هذا الشخص.. مارسيل؟ إنه يريد أن يستمر في رؤية الفيلم عن ذاكرة تتقاطع مع الحاضر الذي هو غير ملتوٍ.. لا في ذهنه ولا على الشاشة أمامنا. الحدث هو ما يدركه مارسيل حسّياً لحظة بلحظة.

والمخرج رويث يريد أن يحقّق الشيئين معاً: أن يجعلنا نتماهى مع مارسيل، ومع الفيلم.

في ما يتعلق بالرغبة الجنسية، فإن مارسيل.. المرافق الدائم والمؤاسي للنساء العجائز، الصديق الموثوق والمؤتمن على أسرار الندل والأرامل.. يبدو بالأحرى فاقداً للرغبة. لو أن رويث اختار الجزء الأول من كتاب بروست لحصل على شخصية، مثل ألبرتين ديسبارن، هي أكثر شهوانية أو غيرةً، بينما مارسيل، بطل “الزمن المستعاد”، هو الآن مجرّد المحلّل المولع باستعادة الأحداث الماضية. وإذا كنا لا نراه يعيش حالات من اشتهاء الجنس الآخر، فإنه أيضاً لا يظهر في صورة من يمتلك رغبات مثلية.

ذات مرّة صرّح رويث بأنه كان يقرأ، ويعيد قراءة، بروست طوال حياته، وكان يهيئ نفسه منذ سنوات لتحقيق هذا الفيلم. وفي إحدى لقاءاته، في العام 1997، مناقشاً فيلمه “في مرآة” (1986) قال رويث: ” هذا الفيلم هو التأمل الأول لما أريد أن أحقّقه يوماً ما.. رواية بروست (الزمن المستعاد). رجل يأتي ليزور رجلاً آخر من المفترض أن يكون مريضاً، وأثناء انتظاره يتحدث مع شقيقته. ثمة نزاع عنيف بينهما. كل منهما يهين الآخر، وأنت لا تعرف أبداً سبب ذلك. في النهاية نكتشف أن النص يكتبه صبي ينسخ ما يقولانه، ناظراً إلى المشهد من خلال مرآة. لكنه يفوّت الكثير من الكلمات، لهذا السبب يبدو غامضاً وملتبساً. إنه عن الاستماع على نحو خاطئ، عن الرؤية على نحو خاطئ”.

في فيلمه “الزمن المستعاد” يوظّف رويث مجموعة من الحيل البصرية للإيحاء بسوء الفهم الذاتي هذا: زوايا كاميرا غريبة وفلترات ألوان (خصوصاً للماضي البعيد) وحشد من الظلال والمرايا. إيقاعات متباطئة والتي توحي بالحلم أو الحركة البطيئة. الشخصيات على أرصفة المشاة أو في قطارات متحركة تمرّ بمحاذاة مناظر طبيعية مختلفة. مارسيل الصبي ومارسيل البالغ في نفس الكادر. شخوص أشبه بتماثيل عرض الملابس (مانيكان) مكسوّة بالبودرة. وعلى نحو أكثر غرابة، نرى في مشهد الحفلة الموسيقية الفخمة، صفوفاً من المستمعين يتمايلون بالتناوب في اتجاهات مختلفة. وأثناء عرض شريط إخباري عن الحرب العالمية الأولى في مقهى مزدحم، يرتفع مارسيل عن الأرض مثل بيتر بان، ويطفو بعيداً عن المتفرجين متجهاً نحو الشاشة.

على نحو مدهش، كل هذه الحيل والوسائل الأسلوبية لا تفضي إلى تشويش أو تكدير الانطباع الإجمالي بالنعومة والسلاسة والتحفظ. الفيلم لا يطلب منا أبدا أن نصادر “وهمية” الأفلام التاريخية. في الواقع، الكثير من الفضل يعود إلى المصوّر ريكاردو أرونونيتش، وإلى تصميم الأزياء الوافرة، الغنية، الدقيقة، وإلى تصميم المناظر.

كتب رويث ذات مرّة في مقالة له: “القصة هي تحالف بين الأشياء في المنظر”. وهنا، بالفعل، نحن نعي الكثير من “الأشياء”: مصابيح، أوراق الجدران، منحوتات تظهر على نحو لافت للنظر في مقدمة اللقطة. هذه الأشياء تساعدنا في الوثب من ذاكرة غير متواصلة إلى أخرى.

أحد أعمال رويث المفضلة لدي  هو فيلمه عن الانتخابات الفرنسية بعنوان “أحداث عظيمة وأفراد عاديون”، الذي هو عبارة عن استبطان للنواحي التي بها يمكن بناء المشاهد الوثائقية لتوصيل “الشذوذية” الأساسية في الحياة اليومية: بوسعك خلق تصنيفات من الأفعال أو الأفكار، أو بوسعك أن تربط المشاهد بحركات كاميرا مماثلة في مواقع مختلفة، أو حتى أشكال أو أصوات مشابهة.

رويث واسع الحيلة، وهو ينجز القليل من كل شيء في “الزمن المستعاد” لتوفير انتقالات بصرية أو سمعية لسرد غير خطي: الإنتقال، لنقل، من نادل يحرّك ملعقة شاي إلى عامل في محطة قطار يقرع عجلة قطار بمطرقة.

مارسيل بروست، حتى الآن، هو أشبه بمثلث برمودا، الذي يغوي الآخرين على الاقتراب ليقعوا في شرك يصعب الإفلات منه. لنتخيّل فحسب ما كان بوسع المخرج الكبير الراحل فيسكونتي أن يفعله بالمشروع الذي لم يتحقق في تحويل “بحثاً عن الزمن الضائع”، أو سيناريو هارولد بنتر الذي انتهى مطبوعاً في كتاب وليس مجسّداً على الشاشة.

ما يفعله بروست لمخرج مثل رويث هو أنه يجعله يغوص في التأمل، في رصد القلق المدمّر للذات أو ،كما تعبّر إحدى شخصيات الفيلم، “الشكل النشط من أشكال الكسل والبطالة، والذي يجد تعبيره ليس في العطالة والجمود بل في الحيوية والمرح المحموم، الذي يأمل ألا يترك للضجر لا الوقت ولا الحيّز كي يتنامى فيه”.

رويث يرى أن ما يكتنفنا من انقباض وسوداوية، في زمننا، ناشئ على نحو كبير من عالم “مفرّغ بواسطة الترفيه”، مستشهداً بتصريح باسكال الذي يرى بأن شرور البشر تنبع من عدم قدرتهم  على المكوث في سكون وطمأنينة داخل الغرف.

ومن هذا يستنتج رويث بأن “الضجر، إذن، شيء طيّب ونافع”.. وسيكون لديك الحل. ما حاجتك إلى معجزات الحبكة حين تكون لديك أسرار الحياة اليومية والذاكرة المتناقضة؟

مع فيلمه “الزمن المستعاد” قام راؤول رويث بخطوة هامة في اتجاه الأعمال الهادئة، التأملية، “المضجرة”، التي قدّمها أولئك المخرجين الكبار، الذين يكنّ لهم إعجاباً شديداً: مايكل سنو، تاركوفسكي، أوزو، أندي وارهول، ستروب.

                                       فيليب لوبات (روائي وناقد)

                            Film Comment، يناير/فبراير 2000

3- أشبه بكتاب من رمل

على الرغم من أن السينما، تقليدياً، قد هنّأت نفسها على منح خلودٍ، أو شهرةٍ دائمة، للعديد من الروايات التي تحوّلت إلى الشاشة، إلا أن السينما أيضاً دأبت على محو الكثير من الروايات، استئصالها واحلال شيء آخر محلها، مستبدلةً التدفق والسلاسة اللغوية، وإمكانيات الرواية، بواقعية وثبات بصري. عوضاً عن بعث الحياة في الكتب، تقوم السينما بتحنيطها في أغلب الأحوال.

إن اعداد راؤول رويث لنص مارسيل بروست “الزمن المستعاد”، والذي يمثّل الجزء الأخير من روايته ” بحثاً عن الزمن الضائع”، هذا الإعداد هو إشكالي ويحتمل النقاش والجدل.

هذا اللقاء، بالتعبير التجاري، بين المخرج والمؤلف، يبدو نافعاً جداً للطرفين معاً، المخرج والمؤلف. رويث، الذي كان يعتبر لزمن طويل الأكثر هامشية  من بين مخرجي الأفلام “الفنية”، لاقى القليل من استحسان الاتجاه السائد منذ أن حقّق فيلمه “ثلاث حيوات وموت واحد فقط” (1996) مع مارسيلو ماستروياني. لكن بفيلم “الزمن المستعاد” انتقل إلى الاتجاه السائد ووجد الترحيب الحار هناك: هذا الفيلم الذي بلغت ميزانية إنتاجه حوالي 60 مليون فرنك فرنسي، والذي ورد ضمن قائمة أفضل عشرة أفلام فرنسية في صيف 1999، جعل من مخرجه شخصية مشهورة، ومن جهة أخرى، سواء زاد من عدد قراء بروست وشجع على قراءته أم لم يفعل، فإن الفيلم قد ضمّن للطبعات الجديدة من كتاب بروست ازدهاراً في المبيعات.

ينبغي القول هنا أن الجزء الأخير من “بحثاً عن الزمن الضائع” لا يشكّل بالنسبة للقارئ المبتدئ، الذي لم يتعرّف على بروست، نقطة انطلاق سليمة، مع أن رويث في مرحلة صباه في تشيلي، حسب تصريحه، قرأ “الزمن المستعاد” أولاً ثم الأجزاء الأخرى على نحو عكسي. فقط في هذا الجزء الأخير يكون الشكل الإجمالي للعمل كله واضحاً وجلياً: سرد الراوي المطوّل لحياة مبدّدة، على ما يبدو، يبلغ ذروته في إدراكه بضرورة أن يحوّلها الآن إلى رواية.

إن قرار رويث وشريكه في كتابة السيناريو، جيل توران، بإعداد هذا النص قد دعم الشكوى العامة من أن الفيلم، مهما بلغت درجة عظمته وروعته، كما الحال مع هذا الفيلم، فإنه لا يعني الكثير لمن لم يقرأ الأصل. لكن الفيلم هو أقل وضوحاً وشفافيةً حتى بالنسبة للذين قرأوا “بحثاً عن الزمن الضائع” من الجزء الأول حتى الأخير. الفيلم لا يقدّم تفسيرا بشأن هويّة كل تلك الشخصيات، من تكون، وما هي طبيعة العلاقات في ما بينها. حتى لو بدا مشهد الافتتاحية وكأنه يقترح دليلاً ميسّراً لمعرفة الشخوص الدرامية، إلا أنه يتكشّف عن فعل خادع ومضلّل: الراوي يمرّر صوراً فوتوغرافية للشخصيات الرئيسية تحت عدسة مكبّرة، وبلطفٍ لكن بصوت عال، يقرأ أسماءهم.

مع بروست، ما الذي يوجد هناك بالضبط لكي تكون أميناً له؟

مجلة كاييه دو سينما (دفاتر السينما الفرنسية) وجّهت إلى رويث سؤالاً عما إذا فيلمه سيكون مفهوماً بالنسبة لشخص لم يقرأ بروست.. أجاب رويث: ” لا أحد قرأ بروست. ثمة أثر غريب من فقدان الذاكرة يتصل بأعمال بروست. كل مرّة أقرأ فيها رواية (الزمن المستعاد) – ولابد أنني قرأتها عشرين مرّة – أكون كما لو أقرأ رواية مختلفة.. إنه أشبه بكتاب من رمل”.

الفيلم هو إعداد شرعي. وفي أغلب الأحوال، يلتزم الفيلم بأمانة، وإلى حد بعيد، بهيئة الرواية. بصرياً، الفيلم يماثل الدراما التاريخية الكلاسيكية، وهو مصوّر ببراعة وعلى نحو جميل، تحت إدارة ريكاردو أرونوفيتش الذي وظف كل وسائل التصميم التاريخي الواقعي، وشارك فيه طاقم من الممثلين العالميين البارزين.

الفيلم محاولة جادة وجريئة لتسلّق إحدى القمم السحرية في الأدب حيث أخفق العديدون. بين المشاريع السينمائية المجهضة في محاولة تحويل أعمال بروست إلى الشاشة: هناك السيناريو الذي كتبه هارولد بنتر، والعمل الذي اشتغل عليه المخرج الإيطالي لوكينو فيسكونتي ولم ينفّذ.

في المقابل هناك مخرجون استطاعوا الاقتراب من بروست.. جانبياً أو بواسطة جزء من أعماله. فيلم بيرسي أدلون “سيليست”  Celeste(1981) تناول أيام الكاتب الأخيرة من وجهة نظر مدبّرة شؤون المنزل سيليست ألباريت، التي كانت تتولى أيضاً تدوين ما كان المؤلف يمليه عليها.

فيلم الألماني فولكر شلوندورف “سوان العاشق” Swann in Love(1983) تعامل مع الجزء الوحيد من “بحثاً عن الزمن الضائع” الذي يمكن اقتباسه على نحو مقبول ظاهرياً بوصفه قصة مستقلة، تامة في ذاتها، حيث التركيز على علاقة الحب بين سوان، العضو البارز في المجتمع، وأوديت العابثة والمراوغة.. وهذا يعبّر عن آلام الراوي اللاحقة وصراعاته العنيفة.

مثل شلوندورف، كان رويث يحاول فحسب أن يقتطع من “بحثاً عن الزمن الضائع”، لكن في حين يكون “سوان العاشق” مسكوناً بأحداث مستقبلية، فإن “الزمن المستعاد” يأتي مثقلاً بتاريخ الراوي كله. المرحلة النهائية لرواية بروست تشهدها الأطياف العاجزة التي كانت في ما مضى شخصيات نشطة ومتأنقة سكنت حياة الراوي. بجلب بروست إلينا من نقطة النهاية، فإن رويث يدعونا إلى القراءة عكسياً، إلى تتبّع النهر رجوعاً إلى منبعه. لكن أين هو موقعنا؟ وكيف ندخل؟

على نحو مربك، في منتصف  الجملة، مع الكلمات المربكة، في صوت الراوي: “وعندئذ، كل شيء كان قد تغيّر”.. نجد أنفسنا في غرفة نوم: بروست في 1922، السنة التي مات فيها، وهو يملي مقطعاً من نصه على سكرتيرته سيليست. نرى بروست المنهك، مستلقياً على فراشه في وهن، لكن صوته يبدو محايداً، يخلو من الانفعال. وهنا لا ينبغي الخلط بين بروست وشخصية مارسيل، بطل وراوي القصة، الذي يؤدي دوره الممثل  الإيطالي مارسيلو مازاريللا، والذي يشبه الكاتب بروست على نحو مدهش.

هناك أيضا تجسيد لطفولة الراوي ومرحلة المراهقة. هذه الطبقات المتعدّدة، الضبابية، من الذات، تجد تعالقها البصري الأول في المؤثّر التقني: فيما الكاميرا تتحرك ببطء، حائمة في حجرة بروست، يبدو الأثاث وكأنه يطفو في تزامن مع حركة الكاميرا، كما لو أن سيولة الزمن والهويّة قد تسربت في المكان.

في النصف الأول من الفيلم، خصوصاً، يوظف رويث مثل هذه الحيل للإيحاء باندفاعات داخل وخارج النص والصورة، الذاكرة والحاضر الموضوعي. الجدران الصلبة تكشف نفسها كستائر شفافة خلفها نرى صوراً وتراكيب أخرى، أو مراقبين من الأشباح. الأشجار التي يتذكّرها الراوي، في شبابه، يهزّها عمال مسرح غير مرئيين. مثل هذا النقض للوهم يلفت انتباهنا إلى النص السينمائي المكتوب على نحو متماسك جداً في حيّز المنظر السينمائي، تماماً كما هو قلم سيليست، الذي يُحدث صريراً، في مشهد الافتتاحية، وهو يدوّن الكلمات على نحو متماسك.

إن رويث يستخدم لغة ملائمة لمرحلة بروست، مذكّراً إيانا بأن الكاتب كان معاصراً للمخرج السينمائي الفرنسي جورج ميليه. إن استخدام  رويث للفلترات والمؤثرات البصرية هو مرادف للآلية التي كثيراً ما يستدعيها بروست، كما حين يتخيّل الرجال وهم يتحولون بفعل الشيخوخة.

مع أن الفيلم مجاز غائب عن “بحثاً عن الزمن الضائع”، إلا أن رويث يمدّد الثيمة الأساسية للفانوس السحري – الشيء المحوري في طفولة الراوي – ليشمل استخدام السيلولويد (الشريط السينمائي). بعد تسليط صور الفانوس على الوجوه البيضاء كالطباشير للمشاهدين الأشباح، مارسيل الشاب في الفيلم يصبح مشغل البروجكتر (جهاز العرض)، عارضاً على ذاته، في مرحلة البلوغ، شريطاً إخبارياً من الحرب العالمية الأولى.

بجعل سيرة بروست الذاتية في حالة اتصال وتلامس مع تاريخ السينما، فإن راؤول رويث، من بعض النواحي، يعرض على الكاتب ما فاته أو ما افتقده.

الفيلم هو قناع للرواية أكثر مما هو إعداد. قناع للموتى. في الواقع، يقدّم لنا رويث معرضاً من التماثيل الحيّة.. شخصيات أدبية شهيرة تتجسّد فيزيائياً. التمثال شيء متناقض: في حين يضمن التمثال الخلود لموضوعه، فإنه يفعل ذلك في شكل متكلّس، محوّلاً الحياة إلى مادة ميتة، متجمّدة.. تماماً مثلما ينزع إعداد الفيلم إلى فعله بالروايات.

في “الزمن المستعاد” يبني رويث جسراً بين الرواية والفيلم، لكنه باستمرار يلقي ضوءاً قوياً على الموت الحي الذي يستتبع كنتيجة لابد منها. شخصياته تماثيل حيّة.. إما هي تماثيل ينبغي تحريكها أو كائنات حيّة عرضة للإنتقال في أية لحظة إلى هيئة تمثال في انسجام مع الجدل البروستي بشأن الزمن المتدفق واللحظة الثابتة. الراوي نفسه يصبح تمثالاً حين يمشي بخطى رشيقة وسريعة على الحجر المرصوف، ويُزج به في ذكرى تجربة مماثلة في فينيسيا. ثابتاً في وضعية راقص الباليه، هو يبدو عالقاً في حركة متجمّدة بينما تدور حوله فينيسيا التي هي موضع تذكّر.

في مكان آخر، التماثيل تكون ميتة أكثر مما هي حيّة. في ما يمكن أن يبدو مبالغة، تظهر مجموعة من الممثلين ذوي شعر مستعار ووجوه ساكنة وشاحبة كالرخام. الثيمة المتصلة بالتماثيل تبلغ ذروتها في نهاية الفيلم، حين تطوف تقمصات مارسيل العديدة عبر الزمن، وهي مرئية كمقبرة تحت الأرض فيما أقنعة الحياة/الموت تنتأ من الجدران.

راؤول رويث اختار نجوماً لتجسيد الشخصيات من أجل تركيز الانتباه على ما يستبطنه الفيلم وما يعكسه، وللتأكيد بأن هذا ليس إعداداً للرواية بل حواراً معها. تحويل العمل الأدبي إلى الشاشة يجازف دوماً بإفساد تخيّلنا أو تصوّرنا الخاص للرواية: هل سيكون ممكناً مرّة أخرى قراءة “المريض الإنجليزي”، على سبيل المثال، من دون رؤية الممثل راف فاينز الذي أدى الشخصية ببراعة وإتقان؟

لكن باستخدام ممثلين ذوي رنين له أصداء قوية من مسيرتهم  الفنية، فإن رويث لا يتظاهر أبداً بأن هناك تطابقاً غير منظور وكافٍ بين المؤدي والشخصية، بل بالأحرى هو يقدّم ممثلين مشهورين كما لو يؤدون الإيقاعات الخاصة بالأدوار.

مالكولم بووي، في دراسته الملفتة “بروست بين النجوم”، يناقش إدراك الراوي أخيراً بأن مهمته ككاتب هي أن يهب حياة جديدة لشخصيات على وشك الموت أو ميّتة.. “كتابة الرواية تقتضي ضمناً خلق قبر ضخم لأفراد كانوا أحياء ذات مرّة. المادة الحيّة تكون مدفونة بواسطة قلم الكاتب”. لكن إذا الكتابة تستلزم التحنيط، فما الذي يقتضيه ضمناً الإعداد السينمائي لكتابة ما؟

بالنسبة لأندريه بازان (ناقد ومنظّر فرنسي) كل فن تصوّري هو، في جذوره، “مركّب موميائي”. في السينما، هذا المركّب يكون عادةً مكبوحاً. نحن لا نفضّل الاعتقاد بأن الصور الفوتوغرافية تقوم بإحياء ذكرى الموتى، بل نميل إلى الاعتقاد بأن السينما تجعل الموتى أحياء وإنها، على نحو مشوّش وغير متجانس، تحرّك الموتى الذين لا يزالون أحياء، بحيث يتعذّر التمييز بينهم. في فيلم رويث، ربما نتصوّر الأحياء والموتى معاً، من عالم بروست، وكأنهم في حالة شبيهة بالمومياء: شخصيات ليست ميّتة ولا حيّة بل معلّقة في وجود لوحة حيّة متحركة.

فيلم رويث يقترب كثيراً من قصص الأشباح. حبيبة الراوي الميّتة تظهر كشبح شفّاف يسكن أحلامه. الالتحام البونويلي (نسبة إلى بونويل) للزمن والمكان يتيح لشخص ميّت أن يشهد جنازته فيما المقبرة تتحوّل، على نحو سحري، إلى شاطئ، وهو المنتجع الأثير للراوي على ساحل نورماندي. على هذا الشاطئ أيضا يتم إحياء ماضي الموتى أخيراً، في المشهد الختامي، فيما الراوي يستأنف استقصاءاته الفتيشية، كما في أيام الشباب، حيث تكون الفتاة موضع الاهتمام الآن، في حين ذاته المتصلة بالطفولة تثب فرحاً على الشاطئ، بينما بحر الزمن يندفع مرّة أخرى.

“مع بروست، دائما نشعر كما لو  إننا نقرأ عن نهاية شيء ما”.. هكذا لاحظ إدموند ويلسون. نكون كذلك، بالطبع – عن احتضار نظام اجتماعي وعن حياة مرئية من نهايتها – مع إننا أبداً لا نفهم تماماً ذلك المنظور حتى الصفحات الأخيرة من “الزمن المستعاد”.

بروست يختتم بالإعلان أن رواية حياته لم تُكتب بعد، مع أنه يخشى ألا يتحقّق هذا أبداً، نظراً لأن صحته قد لا تتحمّل أو تصمد لفترة كافية. مع فيلم رويث، العمل قد اكتمل – الجبل المخيف قد تم تسلّقه، على الأقل في الإعداد المرضي للجزء الأخير.

طويل جداً، مكثّف جداً، أمين جداً، انطباعي جداً.. لهذا يكون فيلم “الزمن المستعاد” هو الأقرب إلى ما يرجوه المرء من السينما البروستية. إنه الفيلم الذي يمضي وفق انقباضية الرواية، والوفرة التراجيدية فيها، وأشباحها المستحضرة.. الفيلم الذي هو احتفاء بمومياءات باريس، مومياءات الأدب، ومومياءات السينما نفسها.

                 (جوناثان رومني، Sight & Sound، يناير 2000 )        

Visited 82 times, 1 visit(s) today