ليس مخدوعاً، بل ذاب في خزّان الشمس: (3)

عن اقتباس توفيق صالح لغسان كنفاني 

“المخدوعون” و”رجال في الشمس”:  تماثلات وتغايرات

تتكون رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” من سبعة فصول قصيرة تشكل في البداية ما يشبه اللوحات المستقلة، ثم ما يلبث سرد الفصول الثلاثة الأولى أن يندغم في بعضه البعض، في الأحداث الجمعية الجديدة للحبكة بحلول الفصل الرابع.  وتعتمد استراتيجية السرد في النص على ثلاثة أصوات رئيسة.  الأول من تلك الأصوات هو صوت ضمير الغائب (سرد الشخص الثالث) بلسان الراوي؛ فعلى سبيل المثال تستهل الرواية سردها بتقديمنا إلى أبو قيس المستلقي على ضفة شط العرب من خلال صوت الراوي:  “أراح أبو قيس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته…” [37] (20).

 أما الصوت السردي الثاني فهو الاسترجاع (الفلاشباك) الذي يستثيره لدى الشخصية موقف أو مفردة في سياق السرد بصيغة الحاضر الذي يقوم به الراوي؛ فاستلقاء أبو قيس التذكري على ضفة شط العرب يستثير في ذاكرته موقفاً كان ذِكْرُ شط العرب أحد عناصره، وبهذا يأتلف هذا الموقف في نسيج السرد:  “… نحن في آب!  إذاً، لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟  إنه الشط!  ألست تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك؟/  وحين يلتقي النهران الكبيران:  دجلة والفرات يشكلان نهرا واحداً اسمه شط العرب يمتد من قبل البصرة بقليل إلى…”/ الأستاذ سليم، العجوز النحيل الأشيب، قال ذلك عشر مرات بصوته الرفيع لطفل صغير كان يقف إلى جانب اللوح الأسود…” [38]. 

وثالثاً، ضمن هذا الانتقال السردي يختلط صوت الراوي بصوت الشخصية على نحوٍ يتيح للقارىء معه التعرف إلى شذرات من الأحداث والمواقف في تاريخ الشخصية، بحيث لا يعمد المؤلف إلى الفصل الدقيق والصارم بين صوت الشخصية وصوت الراوي؛ فانبطاح أبو قيس على ضفة الشط، والذي أخبرنا عنه الراوي، يجعله – أبو قيس، أعني-  يتذكر حديث الأستاذ سليم عن الشط لتلاميذه في المدرسة.  وهذا التذكر يوحد الزمنين (زمن الذاكرة والزمن الحاضر) في إطلاق تيار وعي الشخصية عبر المونولوغ الداخلي الطويل الذي لا يستبعد فيه الراوي نفسه صوته:  “ها هو إذاً الشط الذي تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات!  ها هو ذا يرتمي على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته وعن مدرسة الأستاذ سليم.  يا رحمة الله عليك! لا شك انك ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود… ليلة واحدة فقط…  يا الله!  أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟” [43]. 

ما حاولت قوله هنا هو انه لا توجد علامات تنصيص في النسخة المطبوعة من الرواية تفصل قول الشخصية من قول الراوي، وليس من شأن هذا أن يجعل الأمور تتسم بالسهولة.  إلى هذا فإن الشخصيات الفلسطينية الأربع تتقاسم الكشف عن ماضيها وعكسه على حاضرها عبر هذه الأصوات طوال الرواية.

أما اقتباس توفيق صالح السينمائي للرواية فقد اعتمد نفس الاستراتيجية، وإن كانت طبيعة اللغة السينمائية قد جعلت صوت الاسترجاع وقفاً على الشخصية وحدها؛ فعلى سبيل المثال يصلنا المونولوغ الخاص بالأستاذ سليم في الفيلم، والذي سبق ذكره فيما يخص الرواية، عبر صوت أبو قيس القادم من خارج الشاشة (off screen voice).

غير انه مهما قيل عن “أمانة” فيلم “المخدوعون” لمصدره الأدبي فإنه يختلف عن “رجال في الشمس” في أشياء أجدها في اجتهادي تتمثل في خمسة عناصر.  العنصر الأول هو التكثيف بالحذف والاختزال.  والعنصر الثاني هو الإضافة.  والعنصر الثالث هو التحوير.  والعنصر الرابع هو التأويل.  أما العنصر الخامس فهو التجسيد الصوتي والبصري.

فيما يخص العنصر الأول، أي التكثيف بالحذف والاختزال، فمن المعروف ان هذا هو مما يقوم به اي اقتباس سينمائي لأي عمل أدبي وذلك لأسباب عملية وجمالية واضحة، مثل الحرص على ان لا يكون وقت العرض السينمائي طويلاً أكثر مما ينبغي، والتغافل الإيجابي عن التفاصيل التي من شأنها أن تشوش المشاهد عن الثيمة و”الموتيفات” الأساس للعمل؛ فقد أسقط “المخدوعون” من سرده بعض التفاصيل والحوارات التي وردت في “رجال في الشمس” وذلك إذعاناً لطبيعة اللغة السينمائية وتعبيرها.  فعلى سبيل المثال لا شيء يرد في الفيلم عن ترقب أبو قيس وزوجته لمولود، ووفاة ذلك المولود – طفلة اسمها حسنا — بعد شهرين من الولادة كما ورد في الرواية [44-45].

أما فيما يخص العنصر الثاني، أي الإضافة، فمن أقوى أمثلته الإدخالات الفوتوغرافية بأسلوب “الفوتومونتاج” (photographic insertions)  والتي تعرض لقطات من معاناة اللاجئين الفلسطينيين وهم ينزحون إلى الشتات.  كما تعرض مقاطع من إرشيف الخيانات والتواطؤات العربية متقاطعة مع بدايات تأسيس الدولة العبريّة.  وفي هذا السياق نرى ذكريات مُرَّة كما في صورة فوتوغرافية (أبيض وأسود) لاجتماع الزعماء العرب في قاعة خُطَّت على الجزء الأعلى من جدارها الآية القرآنية الكريمة “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”، هذا في الوقت الذي نعلم فيه جميعاً بشهادة التاريخ ووقائعه الموثقة ان المجتمعين كانوا (ولا يزالون، في الحقيقة) أبعد من أن يكونوا عن فحوى المنطوق الرّباني.  إن هذه الإضافة السينمائية تضع معاناة الشخصيات السينمائية في سياقها التوثيقي والتاريخي الذي يكشف عن إشكالياته النصيّة، وتعمل بصورة طليعية للغاية على تضييق الفجوة بين “الوثائقي” و”القَصّي”، وبذلك فإن الحكاية هنا تكتسب مصداقية أكبر؛ فالموازي الصوتي لهذا “الفوتومونتاج” هو صوت أبو قيس في “مونولوغه” الذي يسرد فيه قصة فقدانه لوطنه وتشرده في إثر ذلك.

وكذلك فإن من الأمثلة الهامة للإضافة في الفيلم التوطئة (prologue)التي هي مقطع لمحمود درويش نقرأه قبل ظهور “التترات”:  “وأبي قال لي مرة:/ الذي ما له وطن/ ما لَهُ في الثرى ضريح/ ونهاني عن السفر”.  إن التركيب (composition)الذي يظهر به هذا المقطع في اللقطات التأسيسية (establishing shots)التي تصور الصحراء الممتدة سراباً تحت الشمس الحارقة يجعله يتعدى كونه مجرد استهلال شعري بليغ ومناسب إلى أن يكون مفتاحاً تأويليا لقراءة الفيلم بكامله؛ ذلك ان المقطع الشعري ذاك يظهر مكتوباً في مقدمة الكادر.  أما في منتصف الكادر فإننا نرى بقايا هيكل عظمي لجثة من جثث أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمناً لوهم معيشٍ كريمٍ بعيداً عن أرض الوطن؛ إذ انها جثة أحد الفلسطينيين الذين ماتوا في الصحراء قبل الوصول إلى نقطة الانطلاق إلى الأرض الكويتية الموعودة في فردوسها اللذيذ.  وفي خلفية الكادر يتهادى أبو قيس من بعيد متقدماً بتهالك نحو بقايا الجثة والكتابة الشعرية معاً.  وبهذا فإن ذلك يشكل تنبوأً وخلاصة لكامل الفيلم؛ حيث ان ابو قيس إنما يتقدم، في الحقيقة، نحو ذات مصير صاحب الهيكل العظمي النَّخِر ما دام كلاهما لم يُعِر أذناً للتحذير الذي نهاهما عن السفر.  إن هذا “البرولوغ” بما يتضمنه من نص مقاومة إنما يقدم بديلاً لنص الذل والركون المنقوش على جدار قاعة اجتماع الزعماء العرب المحترمين، أو نقيضاً لعدم قدرة النص الغيبي على تحقيق فاعلية مقاومة في الحاضر والواقع المُعاش.  كما ان النص الشعري ذاك، ولجهة سكناه في “البرولوغ”، إنما يتنبأ بظهور شخصية الأستاذ سليم التي هي أكثر ما يمثل روح المقاومة في الرواية والفيلم معا، وأكثر ما يمثل التصادم مع الخطاب الغيبي واللاهوتي، حيث يعترف الاستاذ سليم صراحة في مجلس القرية بأنه لا يعرف كيف يصلي، ولكنه يعرف كيف يطلق النار.

ومثال آخر للإضافة يجيء في نهاية الفيلم التي تدور داخل الأراضي الكويتية، حيث نرى لقطات لنيران عالية تحل محل لقطات الشمس في ما سبق من الفيلم (سيرد المزيد مني حول ذلك لاحقاً).  وإذا كان لهذه النيران أن تقترن في المستوى الموضوعي بكومة القمامة التي رمى عليها أبو الخيزران الجثث الثلاث (جثث أسعد، ومروان، وأبو قيس)، وذلك من حيث انه معروف ان أكوام القمامة تتعرض للحرق باعتباره أحد وسائل التخلص منها، فإنها، في المستوى الرمزي، تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث تشير النيران إلى النفط وثرواته التي جعلت الفلسطينيين الثلاثة (بل الأربعة) يقصدون الكويت بحثا عن فرصة للعمل، وحيث ندرك أن العرب قد بددوا وأهدروا هباءً أهم ثروة اقتصادية أُتيحت لهم في تاريخهم المعاصر.

توفيق صالح مع نجيب محفوظ

أما فيما يخص المظهر الثالث في اختلاف الاقتباس السينمائي عن المصدر الأدبي فهو التحوير.  ومن امثلته ان الإشارة إلى “الرجل الكريم” الذي تصدّق على أبو قيس ببيت في الرواية [46] أصبحت عامة أكثر في الفيلم؛ حيث نسمع في “مونولوغ” أبو قيس:  “جابوك وقالوا لك إسكن هون فسكنت”.  إن في تحوير الإشارة إلى صيغة الجمع بدلاً من الفاعل المفرد (في الأصل الأدبي) اشتمال يضم ليس الأفراد فقط من قبيل “الرجل الكريم”، بل كذلك المنظمات الخيرية، ووكالات غوث اللاجئين، وكافة الحلول والمساومات التي تنبثق من الشفقة وحَدْبِها الرخيص، والتي جميعها لا تغير من حقيقة ان البيت الذي يسكن فيه أبو قيس –والتي أخذت مساحته تتضاءل بالتدرج- ليس بيته، ولا مُلْكَه.

أما في جانب التأويل ففيه مما فيه ان الرواية تُصَوِّرُ شخصية بإسم سعد وهو يتحدث إلى أبو قيس بإغراءات الذهاب إلى الكويت ـ دفعاً له كي يفعل مثلما فعل هو، فعاد محملا بالمال- وذلك في مكان إقامة أبو قيس [46-47].  أما في الفيلم، ومع ان جزءاً من المشهد يدور حقاً في مكان إقامة أبو قيس، إلا اننا نرى كذلك ان سعد قد اقتعد كرسياً وسط حشد فيه أمشاج من المستمعين، ومنهم ابو قيس وزوجته، الذين ركنوا إلى الأرض وهم يصيخون السمع باهتمام.  وبذلك فإن جلوس المتحدث على كرسي وجلوس المستمعين على الأرض فيه دلالة رمزية تشير إلى ابتعاد الأول عن نبض الجذر بعد ان اغترب عنه، ولهذا فإنه يوجه خطابا متعاليا (حرفيا ومجازا)، بينما لا يزال مستمعوه ملتصقين بالأرض التي يقتعدونها ويعيشون عليها.  إن عمل الفيلم على جعل سعد يوجه حديثه لمجموعة من الفلسطينيين، وليس إلى أبو قيس وزوجته (كما في عمل كنفاني) يحيل إلى ان خيار الذهاب إلى الكويت – اي الذهاب إلى مكان هو خارج الوطن، أو الاستمرار في المضي بعيدا عن الوطن- إنما يتم ترويجه لقطاع أو شريحة كاملة من أبناء المجتمع الفلسطيني؛ أي إلى الوعي الوطني الفلسطيني برمته.  أما أبو قيس فلأنه أحد أفراد تلك الشريحة فهو يمثلها، ولو من بابٍ اضطراري.  وبذلك فإن هذا التأويل السينمائي قد جذّر حقيقة ان المشكلة جمعية وليست فردية.

وفي الرابع مما أرنو إليه من أمثلة في اختلاف الفيلم عن الرواية، أي التجسيد الصوتي والبصري، فإن حضور زكريا، أخ مروان، لحضورٌ باهتٌ في رواية كنفاني، فذلك يأتي عبر إشارات سريعة ومتفرقة له في “مونولوغ” مروان، وفي حديثه الطارىء عنه مع أبو الخيزران.  بهذا فإن شخصية زكريا لشخصية غائبة- انه هناك يعمل في الكويت، وقد توقف عن إرسال مساعدات مالية للأسرة، وانتهى الأمر عند هذه النقطة التي ينبغي أن ينتهي عندها السطر.  أما في الفيلم فيقل غياب زكريا ويزداد حضوره عبر جعل الإشارة الروائية إلى رسالته إلى مروان تكتسب بعدا جديدا حين نسمعه عبر صوت من خارج الشاشة (off screen voice).  صحيح اننا لا “نرى” زكريا في الفيلم، ولكننا نسمع صوته، فيصبح هذا تجسيداً لوجوده وكينونته.

  ومن أمثلة التجسيد التي قام بها الاقتباس السينمائي إضافة شخصية صديق أسعد غير الموجودة في الرواية، والتي أصبح دورها في الفيلم تطوير ومحاورة الهواجس التي يبوح بها “مونولوغ” أسعد في المشهد الاسترجاعي (الفلاشباك) في أثر تسلفه مبلغ خمسين ديناراً أردنياً من عمّه.  وبذلك فإن ما كان “مونولوغاً” قد أصبح الآن حواراً (دايلوغ) يسعى صديق أسعد في جزء منه إلى محاولة إثنائه عن قرار السفر.  ومثال مشابه آخر هو إضافة شخصية يحاورها أبو الخيزران بما يقوله لنفسه في “مونولوغ” الاسترجاع في الرواية:  “وما النفع [في أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيّع رجولته في سبيل الوطن]؟  لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبّاً لكل شيء في هذا الكون الملعون…” [110].  إن هذه التجسيدات تُشَخْصِن الهواجس والمخاوف الداخلية العميقة للمنطوق الروائي، وتطور “المونولوغات” نحو آفاق أرحب.  والأمثلة التي ذكرتها أعلاه تصب في جماليات وسياسات الأفلمة.

غير ان معظم النقاد الذين درسوا “المخدوعون” بوصفه اقتباساً سينمائياً أكدوا على ان الفيلم يتبع الرواية ويخلص لها في سرده، وبالتالي فإنه يمثلها بأمانة.  والفرق الوحيد بين الرواية والفيلم، والذي رأوا أهميته وناقشوه باستفاضة هو ان الفلسطينيين الثلاثة (أسعد، ومروان، وأبو قيس) لا يدقون جدار خزان الشاحنة في الرواية، بينما يدقونه في الفيلم في أثناء التوقف الاضطراري للشاحنة في ساحة النقطة الحدودية الكويتية (مركز المطلاع)، وبذلك فإنهم ماتوا في صمت واستسلام يعكسان الحالة الفلسطينية السائدة في الزمن التاريخي الذي تدور فيه أحداث الرواية.  ها هو بلال الحسن، على سبيل المثال، يرى إلى الأمر بوصفه “قضية الموت في ظل عالم الهزيمة”، ويحاجج انه “إذا كان الخزان رمزاً للسجن الكبير الذي يعيش فيه الفلسطيني في عالم التشرد، فإن الخروج من هذا السجن لن يتم إلا بقرع جدرانه في محاولة للخروج منها.  ولو ان هذه الجدران قد قرعت لكان من الممكن تخطي الموت والوصول إلى الخلاص.  أما حين يبقى الصمت مخيماً فإن الموت هو النتيجة المحتومة” (21).  أما أحمد خليفة فيقرن بين سؤال أبو الخيزران “لماذا لم تقرعوا الخزان؟

” وبين ما يسميه “نداء المؤلف”، والذي يضعه في هذه الكلمات:  “لا تمت قبل أن تكون نداً”.  وبذلك فإن خليفة الذي يرى بأن كنفاني الذي لم يجعل شخصياته تدق الخزان إنما “كان يعكس بصورة أمينة وصادقة واقع الشعب الفلسطيني كما كان قائماً قبل عام 1965 [وقصده هنا هو واقع الشعب الفلسطيني قبل ظهور حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة الفاعلة عبر تأسيس حركة فتح]، ولم يكن صدقه الفني يسمح له ان يجترح “معجزة” تشق أمام أبطال قصصه طريقاً وهميا إلى الأمام لم يكن موجوداً بعد في العالم الواقعي” (22).  ولا تبتعد رضوى عاشور عن هذا الطرح حين ترى في سؤال أبو الخيزران “آخر كلمات كاتبها [قاصدةً كاتب الرواية، كنفاني]:  ألا دقوا جدار الخزان… إنه الموت، فلا تستقبلوه صامتين، صابرين” (23).  ويذهب إلياس خوري المذهب عينه حين يتيقن من ان الفلسطينيين الثلاثة لم يقرعوا جدار الخزان، وبذلك فـ “إن النتيجة التي وصلوا إليها تكمن في كونهم لم يدقوا الجدار” (24).  بيد ان فضل النقيب يمثل الأقلية النقدية في التعاطي مع هذه النقطة الإشكالية بصورة ثريّة في الرواية بمناقضته الاستنتاجات السابق ذكرها حين يتأمل في سؤال أبو الخيزران، متوصلاً إلى انه كان “سؤالاً غبياً، فمما لا شك فيه ان الثلاثة قد دقوا جدار الخزان، وصرخوا، واستنجدوا، وفعلوا كل ما في طاقتهم ليحتفظوا بالرمق الأخير، فذلك ما يفعله كل إنسان متشبث بالحياة.  لقد مات الثلاثة اختناقاً لا لأنهم لم يدقوا جدار الخزان بل لأنه لم يكن هناك من يسمعهم، وإذا كان هناك من يسمعهم فإنه لم يكلف نفسه عناء نجدتهم” (25).   

——

هوامش:

(20).  تتصل أرقام الحواشي تباعاً في هذه المادة بما سبقها في الحلقتين السابقتين.  كما ان توثيق مصدر الاقتباس سيرد بالصيغة الاختصارية إن كان قد أُثبت بالصيغة الكاملة في الحلقتين السابقتين، كما يستمر إيراد أرقام صفحات الاقتباس من رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” من الطبعة المذكورة في الحلقتين السابقتين بين معقّفات في المتن.

(21).  بلال الحسن، “غسان والموت”، “شؤون فلسطينية” 13 (1972)، 153.

(22).  أحمد خليفة، “عالم القضية الفلسطينية في أدب غسان كنفاني”، “شؤون فلسطينية” 13 (1972)، 161.

(23).  رضوى عاشور، “الطريق إلى الخيمة الأخرى:  دراسة في أعمال غسان كنفاني” (بيروت:  دار الآداب، 1977)، 73.

(24).  الياس خوري، “البطل الفلسطيني في قصص غسان كنفاني”، “شؤون فلسطينية” 13 (1972)، 174.

(25).  فضل النقيب، “هكذا تنتهي القصص، هكذا تبدأ”، 44.

Visited 36 times, 1 visit(s) today