ليس مخدوعاً، بل ذاب في خزّان الشمس “2”

عن اقتباس توفيق صالح لغسان كنفاني (2)

الرواية:  “رجال في الشمس” بإيجاز (استكمالاً لما ورد في الحلقة السابقة)

أبو قيس الفلاح، وهو أكبر الشخصيات سناً، يلجأ إلى الذهاب إلى البصرة في العراق كمحطة توقف ضرورية للاتفاق مع مهرب يأخذه إلى الكويت، أرض الحلم الموعود بالرفاه والرغد التي حدثه عنها أحد أصدقائه ممن ذهبوا إلى هناك، فأبو قيس قد ضاق ذرعاً بذل العيش وجحيمه في مخيم للاجئين، ويفكر – ضمن أشياء أخرى –في بناء بيت يأوي أسرته، وتعليم ولده، ولذلك فإنه يرى ان العمل في الكويت سيتيح له فرصة لتحقيق هذه الأحلام.

أما أسعد اللاجىء في الأردن فهو شاب في مقتبل العشرينيات من العمر، وقد ضاق ذرعاً هو الآخر بحياة البؤس والذل بعيداً عن الوطن.  وممما زاد الأمر سوءاً في حالته هو انه ملاحَق أمنياً بسبب أنشطته السياسية ضد نظام الحكم هناك، فيلجأ إلى الاقتراض من عمه الذي يسلّفه مبلغ خمسين ديناراً ليس حباً فيه بالضبط، ولكن تخطيطاً لزواجه من ابنته بعد أن يتمكن من الوقوف على رجليه بعد العمل في الكويت وجني ما يمكن حصاده من الثمار، حيث كان وأخوه – والد أسعد – قد “قرآ الفاتحة” منذ زمن في انتظار للزواج المرتَّب القادم الذي لا يبدو على أسعد انه متلهف عليه كثيراً.

ومروان هو أصغر اللاجئين، فهو في السادسة عشر من العمر، وقد توقف أخوه زكريا عن إرسال المساعدات المالية للأسرة من الكويت التي يعمل فيها، وذلك بسبب زواجه هناك، فأرسل له رسالة أقل ما يمكن أن يقال عنها انها قاسية من هناك.  وقد فاقم الأمور أن والد مروان قد طلّق والدته وتزوج زواجاً مصلحياً وانتهازياً من شفيقة، المرأة التي فقدت أحد ساقيها في أثناء الهجوم اليهودي على يافا في العام 1948، ولكنها تملك الآن بيتاً مكوناً من ثلاث غرف بفضل مساعدات وكالة غوث اللاجئين وبعض المحسنين؛ الأمر الذي اعتبره والد مروان صفقة باهرة يسيل لها اللعاب.  ولهذه الأسباب فإن مروان يرى ان واجبه يحتم عليه الرحيل إلى الكويت والعمل لتوفير مصدر مالي يعيل به أمه المطلَّقة وإخوته الصغار.

وفي البصرة يقصد الثلاثة  الذين لا يعرفون بعضهم البعض فرادى نفس المهرب العراقي الذي يطلب من كل منهم مبلغ خمسة عشر ديناراً لقاء تهريبه إلى الكويت، وذلك من دون أن يقدم أية ضمانات صريحة بوصولهم إلى مقصدهم، ومن دون أن يوافق على تخفيض فلس واحد من هذا المبلغ المرتفع (9). 

وفي هذه الأثناء الحرجة يتعرف مروان من طريق الصدفة إلى أبو الخيزران، والثاني هو فلسطيني يقدم نفسه للفتى الغر على انه يعمل في الكويت سائقاً لدى تاجر ثري اسمه الحاج رضا، وانه موجود مؤقتاً في البصرة بغرض إصلاح شاحنة الماء التي تعطلت في رحلة صيد مؤخرة قام بها رب عمله مع بعض أصدقائه إلى الصحراء.  ونعلم لاحقاً ان أبو الخيزران هذا كان قد “فقد رجولته” في اثر عملية جراحية استأصلت أو أبطلت المفعول الجنسي لعضوه التناسلي في اثر انفجار لغم تحته في أثناء القتال في حرب 1948.  وبذلك فإنه حين  يلتقي الأربعة جميعهم يقول أبو الخيزران لمواطنيه الثلاثة انه سيهربهم في خزان شاحنة الماء، ويوافق على اشتراطهم تسليمهم قيمة التهريب الذي اتفقوا عليه بعد مفاوضات عسيرة والبالغة عشرة دنانير (وهذا يبقى أقل مما طلبه المهرب العراقي) لدى الوصول إلى الكويت وليس قبل ذلك.

وتنفيذا للخطة التي رسمها أبو الخيزران (كما وصفها لمواطنيه الثلاثة) يهبط المهَرَّبون الثلاثة إلى خزان ماء الشاحنة قبيل الوصول إلى مركز صفوان الحدودي العراقي، ويتمكن من انهاء الإجراءات الحدودية الخاصة به في وقت قصير وبطريقة سلسة، وذلك ليستأنف بعدها الانطلاق بالشاحنة على الطريق الصحراوي الذي يربط بين البلدين ليتوقف حين يبتعد بمسافة آمنة من النقطة الحدودية العراقية، فيخرج المهرَّبون الثلاثة من بطن خزان الشاحنة وهم في حالة من الإعياء والوهن الشديدين.  لكنهم ما ان يتنفسوا الصعداء بالكاد فإن خطة أبو الخيزران تقضي بالاختباء في بطن خزان الشاحنة مرة أخرى قرب الوصول إلى مركز المطلاع الحدودي الكويتي قُبيل منتصف النهار الحارق.  وعندما يدخل أبو الخيزران مسرعاً إلى مكتب موظفي الحدود لإنهاء إجراءات الدخول إذا به يفاجأ بدعابات سمجة من قِبل موظف يدعى أبو باقر، حيث يقول هذا ان الحاج رضا قد اتصل مستفسراً عن أبو الخيزران ست مرات (10).

  ويضيف لأبي الخيزران متهماً إياه بأنه كان يقضي وقته في البصرة بصحبة راقصة تدعى كوكب في ليالٍ حمراء مِلاح، ويطلب منه البوح بالتفاصيل الحميمة حول تلك العلاقة المزعومة.  وبعد كَرٍّ وفَر يحصل منه على وعد باصطحابه إليها في المرة القادمة التي سيسافر فيها أبو الخيزران إلى البصرة.

وبذلك فإن الوقت الذي يقضيه أبو الخيزران في المناورات العسيرة للخروج من هذا المأزق غير المتوقع في مكتب موظفي مركز المطلاع الحدودي يعيقه من العودة إلى الشاحنة لاستئناف الرحلة في الوقت المخطط له سابقاً.  ولذلك فإنه حين يتمكن من الإفلات والوصول إلى نقطة تقع على مسافة آمنة من المركز الحدودي داخل الأراضي الكويتية، ويفتح الفوَّهة العليا لخزان الشاحنة يكتشف ان مسافريه المُهرَّبين الثلاثة قد قضوا اختناقاً في الصهريج، فيرمي جثثهم على كومة قمامة، ثم يعود ليستولي على نقودهم وساعة مروان، وتنتهي الرواية بالصحراء وهي تردد صدى سؤال أبو الخيزران الحزين، والمخذول، والحائر “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟، لماذا؟” [152].  إنه السؤال الذي يرى فضل النقيب مُحِقَّاً بأنه “سيصبح سؤالاً مهماً في الأدب العربي” (11).

وقد ذهب أغلب التأويلات النقدية إلى قراءة العمل قراءة رمزية، ومن أمثلتها الرائدة تلك التي يقدمها إحسان عباس، حيث يعتبر في قراءته ان شخصية أبو الخيزران هي رمز للقيادة الفلسطينية العاجزة التي تكذب على شعبها، وتغرر به، وتقوده إلى الموت المجّاني، فهي بذلك إنما تقوم بنفس الدور الذي يقوم به “المهرِّبون الآخرون” الذين يمثلون القيادات العربية الأخرى.  أما مروان، وأسعد، وأبو قيس فهم يمثلون شرائح مختلفة من المجتمع الفلسطيني، وهي شرائح ساذجة لا تزال تؤمن بالخلاص على يدي تلك القيادة العاجزة وحلفائها، فيكون مصيرها بالتالي هو الموت الرخيص (12).

في النظرية والمنهج:  عن الاقتباس السينمائي للعمل الأدبي

يعود الجدل حول موضوع أفلمة الأعمال الأدبية (والنثرية عموما) إلى بدايات تأسيس النظرية والممارسة السينمائيتين؛ فعلى سبيل المثال تصوّر بيلا بالاز Bela Balazs أن الأعمال الأدبية المؤهلة للأفلمة هي الأعمال “المتواضعة” (13). أما سيغيفريد كراكاوار Siegfried Kracaure ف فقد رأىبواقعيته السياسية اليسارية المعروفة ان أفلمة العمل الأدبي ممكنة فقط حين يكون المضمون الروائي متجذراً في الواقع الموضوعي، وليس في التجربة العقلية أو الروحية (14).

وفي الجانب الآخر من الأمر نجد ان رواية من روايات الرعب والإثارة الشعبيين مثل “البريق” لستيفن كِنغ Steven King قد اقبستها عبقرية ستانلي كوبرِك Stanley Kubrick  الفريدة وحولتها في فيلم بذات العنوان (تم إنجازه في العام 1980) يتجاوز التعامل مع الرعب فيه المستوى الخارجي للأشياء في الرواية، وبحيث أمكن لهذا الفيلم الذي لا يزال يشار إليه بالبنان أن ينضم إلى أفلام كوبرك الكبرى التي يشغف فيها بمعالجة موضوع العنف الفردي والجمعي في المجتمع، والتاريخ، والحضارة.  وبذلك فإن هذا الاقتباس السينمائي الاستثنائي إنما يعكس الصحة الممكنة لوجهة نظر بيلا بالاس في بعض الحالات. 

الجانب المهم في الأمر هو صلاحية (أو لاصلاحية) العمل الأدبي للاقتباس السينمائي.  وهنا يرى أندريه تاركوفسكي Andrea Tarkovskyالذي تعاطى الأدب والسينما معاً بحساسية شعرية وفلسفية مشهود بعلوّها، وذلك في معرض حديثه عن فيلمه الروائي الطويل الأول “طفولة إيفان” أو “إسمي إيفان” في بعض النسخ غير الروسيّة (الذي أنجزه في العام 1962) والذي اقتبسه من قصة قصيرة لمواطنه فلاديمير بوموغولوف Vladimir Bomogolov:  “ليس كل النثر قابلاً للتحويل إلى الشاشة.  فبعض الأعمال لديها كمال، وهي موقوفة على صورةأدبية دقيقة وأصيلة؛ إذ ان الشخصيات مرسومة في أعماق لا تُسبر أغوارها، والتركيب لديه طاقة استثنائية على الإصابة بالسحر… وفقط فإن من لا يبالي فعليا بالنثر البديع وبالسينما يمكن ان يتصور الرغبة المُلِحة للأفلمة.  [وفي الوجه الآخر من العملة] هناك أعمال نثرية تقف وراءها الأفكار، ووضوح وثبات البنية… هكذا كتابات لا تبدو معنية بالتطوير الجمالي للفكرة التي عليها تحتوي.  إنني أعتقد ان [“إيفان”] بوموغولوف تنتمي إلى هذه الفئة” (15).

واتكاءً إلى تاركوفسكي الذي يبدو لي انه يرى ان جذور إشكالية الأفلمة إنما تضرب في عدد من الجوانب التي تتزايد أو تتناقص وفقاً للحساسية الفكرية والجمالية للمقتبِس/ المُقتبَس؛ حيث ان من بين الصعوبات الأساس اختلاف الحقل التعبيري؛ أي مهمة التحويل النوعي للمضمون اللغوي المقروء إلى مضمون بصري أو مرئي، وخاصة حين يتعلق الأمر بالنصوص الأدبية الثرية حيث الصورة والتركيب الكتابيان يتشكلان غابة لانهائية من الإيحاءات والدلالات.  وفقاً لذلك أود أن أشير هنا إلى ما أعتبره أفلمة متلعثمة أجراها مايكل كوكيانيس Michael Cacoyyannis  (أنجزت في العام 1964) لما يكاد يُجْمَعُ على انه اهم ما كتب نيكوس كازانتزاكيس Nikos Kazantzikes في النثر اليوناني الحديث، أي رواية “زوربا”، إذ – على سبيل المثال – لا يستطيع البحر في الفيلم أن يكون أكثر من كمية كبيرة من المياه مستلقية بما يشبه البلادة أمام آلة تصوير سينمائية راكدة وعاجزة في لقطة وصفية تبسيطية كبيرة لا تخترق أسرار الملكوت المائي ولا تضيف إليها، وذلك على عكس الديناميكية المائية التي تتموج في الرواية.  وبذلك فإنه من وجهة نظر هذا الكاتب فإن رواية “زوربا” ما كان ينبغي لها أن تُأفلَم أبداً (16).

بيد ان مخرجين سينمائين آخرين يتخذون مواقف أكثر تشدداً، فها هو فيردريكو فيلليني Ferdrico Fellini يقول بصرامة متطرفة: “إنني أجد هذه التحويلات من شكل فني إلى آخر بشعة وسخيفة، وبعيدة عن الموضوع…  أؤمن ان السينما ليست بحاجة إلى الأدب، فهي تحتاج فقط إلى كتّاب سيناريو… إن التأويلات الأدبية للأحداث لا علاقة لها بالتأويلات السينمائية لتلك الأحداث ذاتها”(17).

من الصعب تصور ان “رجال في الشمس” عمل أدبي “متواضع”، فها هو روجر ألن Roger Allan يعتبره “إسهاماً هاماً في الأدب العربي الحديث” (18)، أما إدوارد سعيد فيذهب إلى القول أن هذه الرواية تشكل “أمثولة رؤيوية” للحالة الفلسطينية “سواء كان المرء يحكي عن الماضي أو عن الحاضر” (19).  ولذلك فإنه تنبغي قراءة أفلمة رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” في عمل توفيق صالح السينمائي “المخدوعون” من زاوية تضع في اعتبارها مختلف الاعتبارات الجمالية، والسياسية، والتاريخية.

هوامش:                                                

(9).  تتصل أرقام الحواشي تباعاً في هذه المادة بما سبقها في الحلقة السابقة.  كما ان توثيق مصدر الاقتباس سيرد بالصيغة الاختصارية إن كان قد أُثبت بالصيغة الكاملة في الحلقة السابقة، كما يستمر إيراد أرقام صفحات الاقتباس من رواية غسان كنفاني “رجال في الشمس” من الطبعة المذكورة في الحلقة السابقة بين معقّفات في المتن.  تقدم الرواية معلومات تفصيلية عن كيفية وصول اللاجىء الفلسطيني أسعد إلى العراق، أي عبر التهريب، ولكنها لا تذكر شيئاً عن كيفية وصول أبو قيس ومروان إلى ذات المقصد.  غير ان السياق العام يدفعنا إلى الافتراض بأنهما قد وصلا من خلال التهريب كذلك.  أما الفيلم فإنه إضافة إلى اعتماده وصول أسعد إلى العراق عبر التهريب من الأردن كما جاء في الرواية فإنه يتضمن كذلك لقطة  لأبي قيس وهو يمشي متهالكاً على أرض سبخة ومنبسطة وقد حمل معه زوادة سفر؛ الأمر الذي يستفاد منه على وصول أبو قيس إلى العراق عبر التهريب أيضاً.

(10).  من الملاحظ هنا ان أسماء الشخصيات الفلسطينية، أو كُناها، في الفيلم والرواية لأسماء وكُنى عربية (أبو الخيزران، قيس، مروان، أسعد)، بينما ليس هناك اسم أو كنية للشخصية العراقية.  أما أسماء الشخصيات الكويتية، أي موظفي مركز الحدود (الحاج رضا، أبو باقر، علي) فمع انها عربية إلا انها تحيل إلى منظومة مذهبية معينة.  وهذه نقطة لا أود التطرق إليها في هذه الحلقة من مشروع الكتيّب.

(11).  فضل النقيب، “هكذا تنتهي القصص، هكذا تبدأ”، 45.

(12).  إحسان عباس، “مقدمة”، في:  غسان كنفاني، “الأعمال الكاملة” (بيروت:  دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980)، المجلد الأول، الطبعة الثانية، 17 – 19.

(13).  اقتبس في:

J. Dudley Andrew, The Major Film Theories:  An Introduction (London:  Oxford University Press, 1976), 88.

  (14).  اقتبس في المصدر السابق، 121.

15.  Andrea Tarkovsky, Sculpting in Time:  Reflections on the Cinema, trans., Kitty Hunter-Blair (London:  The Bodley Head, 1986), 15-16.

(16).  إنني أشير هنا إلى ما أجتهدُ بأنه إخفاق جمالي عام في أفلمة “زوربا”، غاضاً النظر عن تفاصيل تقنية صارمة مثل مخالفة الفيلم لـ”قاعدة الـ 180 درجة” في لقطة تدور على الشاطىء بينما يشكل البحر الخلفية.

17.  Federico Fellini, Fellini on Fellini, ed., Carla Jean Miller (Fresno:  The Press at California State University, 1988), 28.

18.  Roger Allen, “Introduction,” xi.

19.  Edward Said,  The Politics of Dispossession:  The Struggle for Palestinian self-determination 1969-1994  )New York:  Pantheon Books, 1994(,377, 119.

* كاتب وناقد من عمان

Visited 22 times, 1 visit(s) today