“لون الجنة” نظرة طفل كفيف إلى العالم
“الطفل ملك السينما الايرانية” مقولة تتأكد مع هذا الفيلم الذي أبدعه ماجد ماجدي و ملأه بالأحاسيس العاطفية والشعرية. وقد حصل على الجائزة الكبرى لمهرجان فلنسيان في فرنسا سنة 2000 ورشّح ضمن أحسن عشرة أفلام في الولايات المتحدة.
نجاح السينما الايرانية في المحافل الدولية بعد الثورة الاسلامية سنة 1979 نتج عنه ظهور نوع جديد من السينما تحت مسمّى “السينما التحليلية” تحكي أدق تفاصيل الحياة وتشجيع الشباب على انتاج هذا النوع من الأفلام والذي تدخل أفلام ماجدي في خانته.
تمنحنا أفلام ماجدي نظرة وثائقية والتقاء مع الحياة بدون وسيط وتستقطب اهتمام المشاهد وانتباهه رغم خلوّها من عناصر الفرجة المجانية. هكذا استطاع ماجدي أن يرتقي بسينماه ويتحكم في لغة الصورة وينتج طريقته الخاصة في الحكي التي تتجسد في بنية حكائيه وصورية ذات أبعاد جدّ محدّدة ومميزاتها: البساطة والشاعرية والبعد الاجتماعي. (1)
يروي الفيلم قصة الطفل الكفيف “محمد” ذي الثماني سنوات نزيل مدرسة العميان بطهران. إنها العطلة وكل الأطفال يعودون إلى بيوتهم رفقة ذويهم إلاّ محمد الذي يجلس وحيدا وبائسا ينتظر. في الغد يأتي والده هاشم طامعا أن يبقى ابنه في المدرسة إلا أن المدير كان له رأي اخر. في الطريق إلى بلدتهم المعزولة وسط الجبال شمال إيران ويكتشف محمد الطبيعة بحاستي اللمس والسمع ويتمتع بذوق آخر للحياة. الطريق نحو المنزل قاسية ونظرات الجيران لهاشم أقسى وهذا الطفل البريء هو مجرد عبئ في نظر هذا الأرمل الذي يتكفل بأمه وبنتيه.
لون الجنة ليس هو اللون المرئي بالعين وبل هو اللون الذي يعرفه محمد ويعرف أن يد جدّته بيضاء رغم دكانة لونها. إنها جنّة بلون البراءة ولون الطفولة ولون الحقول والورود. عمى محمد متميز ومرتبط بالاكتشاف وطفل لم تمنعه الاعاقة من الاستماع بشغف وانتباه لأصوات الطبيعة المحيطة به ويفك رموز زقزقة العصافير بل ويدافع عنها من القط الذي يحاول افتراسها ويرجعها بعد عناء الى عشها فوق الشجرة.
بالمقابل نكتشف شخصية هاشم الرجل الذي يعيش في كنف أمه ويشتغل بجد لإنجاح مشروع زواجه وإلا أن وجود هذا الطفل في حياته يبعثر جميع أوراقه وهو عكس ابنه يخاف من الطبيعة وفي أحد المشاهد تسقط مرآة من يده ويقفز فزعا من صوت حيوان في الغابة مما يغير من ملامح وجهه المعكوس على شقوق المرآة وهذه إشارة أنه لا يحسن “النظر” مثل ابنه ورغم أن هذا الاخير أعمى. هذا الاب الذي كان يجر وراءه عبئا كبيرا رأيناه في غير ما مرة ومن خلال نظراته ومحاولا التخلص من الطفل البريء وإخراجه من جنته وبل حاول أن يعزله في مكان بعيد مع شخص من نفس اعاقته (نجار أعمى) رفضه محمد في البداية قبل أن يرتاح له في الأخير (2)
في حوار أجري مع المخرج وصرّح بأنه عاش لعدة أسابيع مع الطفل الضرير بطل فيلمه ويراقب تحركاته ويحاور أصدقاءه، وكيف يتعامل مع محيطه وكل هذا وأشياء أخرى كان يسجّلها في ذاكرته.
أكبر التحدّيات التي كانت في انتظار ماجدي هي كيف سيتحرك الطفل في الطبيعة وكيف سيجري في محيط غير مألوف بالنسبة له خاصة وأن الغير المبصرين هم قليلو الحركة وخوفا من السقوط أو الارتطام بشيء ما ويميلون الى الجلوس في أماكن معزولة ولذا كانت التدريبات كثيفة حتى يتأقلم محمد مع محيطه الجديد.
فيما يخص اختيار أماكن التصوير في الطبيعة وخاصة شمال ايران فلم يكن عبثا وكل عنصر له دوره في الفيلم: حجر الوادي الذي يلعب به الطفل والورود التي يلمسها في الحقل والرمل الذي ينساب بين يديه على شط البحر. أما الاصوات فقد لعبت دورا محوريا في الفيلم ونلمس حدتها قوتها في اللقطات المقربة لبطل الفيلم فأعطتنا احساسا خاصا وادراكا بمدى أهمية النّظر عند الانسان. العميان يستعملون اللمس والسمع بنسبة 100% وليس كالمبصرين وحتى الطريقة التي يلمسون بها الاشياء ويسمعون بها مختلفة ومما جعل الشريط الصوتي في الفيلم قويا جدا.
يقول ماجدي وأخذنا محمد الى شمال إيران لنواجهه بأشياء لم يجربها قط كالبحر والغابة والوادي. كنا نريد منه اعادة اكتشاف الطبيعة وإلا أن العكس هو الذي حدثو لقد قادنا محمد الى اكتشاف هذه العناصر بطريقة مختلفة كنا نجهلها. (3)
إذا كانت تيمة الفيلم عن الإعاقة ونظرة الآخر إلى الإنسان المعاق، فإن المخرج قد عالج موضوعا وعلاقة لها خصوصية فريدة في المجتمع الإيراني خاصة في البادية وهي علاقة الأب بالابن المعاق. في الفيلم تتوضح لنا هذه العلاقة تدريجيا لتكشف لنا عن الجفاء والبرودة التي تتسم بها من طرف الأب الذي اعتبر ابنه عبئا وعائقا أمام تحقيق رغباته.
من خلال محاولات متكررة للاب من أجل التخلص من ابنه ولابد من طرح سؤال وهو: هل هذا العمى الداخلي للاب هو الذي دفعه الى محاولة قتل ابنه؟ أم أن الدافع كان هو الأنانية وحب الذات؟ سننتظر كثيرا لنعرف الإجابة لأن الطبيعة سبقتنا وقالت كلمتها في حق الطفل الذي سقط في الوادي أمام ذهول الأب الذي لم يصدق أن حلمه تحقق وأصبح متفرجا لأنانيته لا يستفيق منها حتى يكون القدر قد قال كلمته ويحاول عبثا مصارعة الوادي الغاضب دون جدوى لإنقاذ ابنه.
في المشهد الأخير نرى هاشم يحتضن جثة ابنه وعلامات الندم بادية على وجهه مما سيحتم عليه إعادة ترتيب أوراقه بعد هذه الفاجعة.
ولد ماجد ماجدي بطهران سنة 1959 واشتغل بالمسرح في بداية حياته الفنية قبل ان يلتحق بالسينما سنة 1992 ويخرج “بادوك” أول أفلامه الطويلة واستمرت وتيرة الاخراج في التصاعد وأفلامه في حصد الجوائز وحيث حصل فيلمه “أطفال السماء” 1998 على الجائزة الكبرى لمهرجان مونتريال السينمائي ويرشح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي في نفس السنة.
(1) Mir Ahmed Mirehassan ناقد ايراني – Gholam Ali Mossadegh ترجمة
(2) Cecile Giraud – Homme et migration N°1230 – Mars Avril 2001.
(3) Nicole Montaron – Atmosphère 53 – janvier 2009.