“لمسة الشر” أورسون ويلز: حكاية فيلم خرج للعالم في 40 سنة

عندما يتحدث أي شخص عن أشهر وأهم المخرجين في تاريخ صناعة السينما الأمريكية، لابد وأن يذكر اسم أورسون ويلز ضمن الأسماء المتصدرة للقائمة، كيف لا والرجل تحوّل لأيقونة أمريكية مكتملة الأركان، يرتبط وفيلمه الأشهر “المواطن كين” – 1941 بكل ما هو أمريكي يدعو للفخر إن جاز لنا التعبير.

الصورة الذهنية الدائمة عن ويلز متعدد المواهب والقدرات، أنه كان شخصا مخيفا، تايكون حقيقي كتشارلز فورستر كين بطله التاريخي، يتحكم في أعماله بالكامل ولا يخشى التجريب فيها. لكن الأمر الذي قد لا يعلمه الكثيرون هو أن أورسون ويلز كان يعاني هو الآخر من معاناة المخرج الهوليودي في علاقته بالاستوديوهات، لا سيما مع شخصيته القوية التي تحدثنا عنها، والتي كان من الضروري أن تفرز مشكلات تحولت إحداها إلى واحدة من أشهر حكايات هوليوود، إنها حكاية “لمسة الشر” أو “Touch of Evil” التي سنرويها لكم.

بداية مجهولة

لا أحد يعرف البداية الحقيقية للحكاية، فهناك روايتين متضاربتين حولها، صاحب الأولى هو بطل الفيلم تشارلتون هيستون، نجم الخمسينيات المحبوب وبطل “بين حور” Ben Hurو”كوكب القرود”Planet of the Apes و”الوصايا العشر”The ten Commandments ، والذي يقول أنه تلقى سيناريو “لمسة الشر” في وقت كان أورسون ويلز مرشحا فيه للمشاركة بالتمثيل فقط في الفيلم، ولكن هيستون تحمس بشدة للعمل في فيلم من إخراج ويلز، فاقترح الأمر على ستوديوهات يونيفرسال التي وافقت لضمان وجود نجم الشباك على رأس الأفيش.

الرواية الأخرى ـ والأقرب للتصديق ـ هي أن المنتج روبرت زوكسميث أبدى رغبته في إنتاج فيلم من إخراج أورسون ويلز، وعرض عليه مجموعة من السيناريوهات، فطلب المخرج بغروره المعتاد أن يختار زوكسميث أسوأ هذه السيناريوهات كي يحوله بموهبته إلى فيلم عظيم! فوقع اختيار المنتج على سيناريو بعنوان “شارة الشر” أو “Bagde of Evil” مأخوذ عن رواية لويت ماسترسون تحمل نفس الإسم، ليأخذه ويلز ويعيد كتابته ويتحمس لإخراجه بصورة جعلته يتنازل عن أجره كمخرج ومؤلف، ويكتفي بأجره كممثل للشخصية الشريرة في الفيلم (المحقق كوينلان).

حماس ويلز لم يتوقف عند هذا الحد، بل امتد لقيامه باستغلال علاقاته الخاصة في إقناع عدد من النجوم بالظهور كضيوف شرف في الفيلم، فظهر في الفيلم دينيس ويفر وزازا جابور وغيرهما، بجوار ويلز وهيستون بالطبع، ومعهما جانيت لي التي لعبت البطولة النسائية، دور الزوجة الأمريكية لضابط المخدرات المكسيكي الشريف مايك فارجاس (هيستون)، الذي تمكن من كشف الفساد المسيطر على مدينة حدودية أمريكية.

صدمة المخرج الكبير

إدارة يونيفرسال اعترضت بشدة على النسخة المقدمة، وقررت إعادة عمل المونتاج ـ بل وإعادة تصوير بعض اللقطات كذلك، وهي اللقطات التي ظهرت لاحقا في نسخة الفيلم وقال ويلز أنها قد صُورت دون علمه، بينما ردت يونيفرسال بأنهم طلبوا منه أكثر من مرة أن يعيد تصوير اللقطات، لكنه رفض الطلب وتجاهله مما دفعهم للتصرف. وعندما تم الانتهاء من نسخة تُرضي المنتجين، تم عرضها على المخرج الذي قام بكتابة مذكرة إلى إدوارد مول، مدير الإنتاج في يونيفرسال، تتضمن 58 صفحة كاملة من الملاحظات على النسخة الجديدة، يراها ويلز ضرورية لكي يكون الفيلم جيدا. هذه الرسالة تحولت إلى وثيقة سينمائية تاريخية يمكنك الإطلاع عليها هنا. (الرابط)

لكن يونيفرسال تجاهلت معظم هذه الملاحظات، وأصدرت نسخة مدتها 93 دقيقة من الفيلم عام 1958. والغريب أن الأمر لم يتوقف على إصدار نسخة لا يوافق عليها المخرج، بل وصل إلى اعتبار فيلم أورسون ويلز فيلما من الدرجة الثانية B Movie، يتم توزيعه للعرض في برنامج واحد قبل فيلم رئيسي هو “الحيوانة الأنثي”، الفيلم المتواضع المستوى الذي سيصبح لاحقا آخر فيلم شاركت فيه النجمة الجميلة هيدي لامار. وهو فيلم من إنتاج زوكسميث أيضا، وإخراج هاري كيلر، نفس المخرج الذي عينته يونيفرسال لتصوير اللقطات المضافة في نسختها من فيلم ويلز!

شكل التوزيع المعيب أثر بالطبع على استقبال الفيلم جماهيريا، فلم يلتفت أحد له ولم ينل النجاح الموازي للنجوم المشاركين فيه، وانتظر عرضه في القاعات الأوروبية حتى ينال أول إشادات نقدية به، وأبرزها ما كتبه عنه الناقد الفرنسي الشاب فرانسوا تروفو، الذي سيصير لاحقا المخرج الشهير وأحد مؤسسي الموجة الجديدة في السينما الفرنسية.

الخطيئة مرة ثانية

تعامل يونيفرسال السيئ مع الفيلم لم يتوقف عند عرضه الأول، بل امتد لما بعده بعقدين، وبالتحديد في منتصف السبعينيات، الفترة التي بدأ فيها الجمهور يعيد النظر في أفلام أورسون ويلز الذي صار علامة من علامات السينما الهوليودية، مما دفع يونيفرسال عام 1976 لإعادة إطلاق الفيلم، بنسخة مدتها 108 دقائق، قالت الإعلانات عنها أنها نسخة “كاملة، غير مقطوعة، ومرممة”.

الحقيقة المؤسفة أن النسخة لم تكن مرممة على الإطلاق، ولم تكن نسخة ويلز من الأساس، بل كانت نسخة مشاهدة وسيطة، يلي تاريخها تاريخ مذكرة ويلز ذات الـ58 صفحة، ويسبق تاريخ العرض الأول للفيلم القديم. بل أن عدد المشاهد التي أخرجها هاري كيلر فيها يفوق ـ للعجب ـ مشاهده في النسخة القصيرة التي صدرت قبل عقدين، أي أن الاستوديو قرر ارتكاب نفس الخطأ في حق المخرج الكبير وفيلمه مرة ثانية، من أجل الاستفادة من شعبيته المتزايدة.

العودة للحياة

إعادة إطلاق الفيلم لم تكن أمرا سيئا تماما، فقد ساهمت في زيادة شعبيته بين المتابعين، بل وإلقاء الضوء على قيمته التي لم يدركها المنتجون وقتها، ليتم عام 1993 ضم الفيلم إلى أرشيف الفيلم الأمريكي في الكونجرس، بوصفه “عملا متميزا ثقافيا وتاريخيا وجماليا”، ويقوم معهد الفيلم الأمريكي باختياره ضمن قائمته الرسمية لأفضل مائة فيلم تشويقي خلال مائة عام من السينما الأمريكية.

وبقى التساؤل حول ما إذا كان من الممكن الوصول إلى النسخة التي أراد ويلز أن يقدمها. الأمر ظل مطروحا حتى منتصف التسعينيات، حين قرر المونتير ومصمم الصوت والتر مورش أن يعيد العمل في الفيلم كي يصل إلى نسخة المخرج، وذلك بالتعاون مع بوب أونيل، مدير قسم ترميم الأفلام في ستديو يونيفرسال، وكذاك بيل فارني، نائب رئيس قسم عمليات الصوت في الشركة.

الوصول للنسخة التي قام أورسون ويلز بعمل المونتاج لها كان أمرا مستحيلا، فقد تم العمل على نفس النسخة وتحويلها للفيلم الذي عُرض عام 1958. لذلك فقد قرر مورش الاعتماد في عمله على مذكرة المخرج الشهيرة، ليخلص النسخة من المشاهد المضافة، باستثناء مشاهد تركها، إما لأن نظيرتها التي صورها ويلز قد أعدمت بما سيؤثر في قصة الفيلم إذا ما اكتفى بحذفها، وإما لأن المخرج نفسه لم يعترض عليها عندما شاهدها في مذكرته.

كذلك قام المونتير بتغيير الكثير من تفاصيل القطعات المونتاجية وتصميم الشريط الصوتي وفقا لملاحظات ويلز، وعلى رأس هذه التغييرات إزالة أسماء العاملين بالكامل من على اللقطة الافتتاحية الشهيرة، وتركها بصورتها الأولية التي أراد ويلز أن يعرضها بها على الشاشة. النسخة الجديدة والملتزمة أخيرا برغبات المخرج العظيم، تم عرضها للجمهور عام 1998، ليشاهد الجمهور الفيلم كما أراده مخرجه كاملا بعد 40 عاما من صدوره للمرة الأولى.

والطريف أن مشكلات الفيلم لم تتوقف عند هذا الحد، فقد كان من المقرر أن تُعرض النسخة الجديدة خلال مهرجان كان السينمائي عام 1998، بحضور بطلة الفيلم جانيت لي والقائم بترميمه والتر مورش، ولكن العرض تم إلغاؤه قبل ساعات من موعده، بعد تهديدات من باتريس ويلز ابنة المخرج الراحل بملاحقة المهرجان قانونيا إذا عرض فيلم والدها، وهو أمر قامت به أكثر من مرة كلما سمعت بخبر عرض أحد أفلام والدها دون الرجوع إليها!

وبغض النظر عما فعلته إبنة أورسون ويلز، فإن حكاية “لمسة الشر” تظل واحدة من الحكايات المشوقة في تاريخ الصناعة السينمائية، لا سيما وهي ترتبط بفيلم تتضح قيمته بمرور السنين، وأصبح اليوم واحدا من الأفلام المرجعية التي توضع دائما في قوائم الأفضل في تاريخ السينما، بالرغم من الولادة شديدة التعثر التي جاء من خلالها إلى العالم

Visited 99 times, 1 visit(s) today