عن كتاب نظريات السينما منذ عام 1945
ينطلق هذا المقال من إشكالية النقد السينمائي ونظرية الأفلام، ويعتمد في ذلك تلخيص كتاب علمي إبيستمولوجي معنون: Les théories du cinéma depuis1945 أي “نظريات السينما منذ عام 1945″، حيث يركز مؤلفه فرانسيسكو كاسيتي أستاذ السينما والمنظر لها، والذي اعتبر من بين مفكري السينما القلائل في العصر الحالي، على التنظير للسينما بعد مخاضها العسير والأخير، فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية إلى الآن، لم يتم اكتشاف شيء جديد في السينما ما عدى تطورها التكنولوجي الرهيب، الذي أثر على ما كانت تمثله بوصفها “الفن الجماهيري بامتياز”.
نشرت مؤسسة NATHAN cinéma الفرنسية كتاب كاسيتي الشهير، وأفادت القارئ للغة الفرنسية بهذا الجهد الحثيث.
توطئة لاستيعاب مقاربة كتاب كاسوتي السينمائي
يتميز الأكاديمي عن غيره بالتحكم في المنهج العلمي، إذ أن هذا الأخير ضمان للموضوعية العلمية “النسبية”، وهذا ما يدفع لاعتماد المناهج المعرفية العلمية في التأسيس لتجربة النقد السينمائي المعاصر، كما أن هذا الطرح لا يتنافى مع الممارسات السينمائية “والنقدية” الأخرى، وعلى رأسها تجربة النقد السينمائي الصحفي، في كنف الصحافة المتخصصة، إذ يوجد تباين في مفهوم النقد عموما، والنقد السينمائي خصوصا، حيث يمكننا رصد تعاريف أساسية لماهية النقد السينمائي أهمها:
النقد السينمائي بوصفه حكم على الذوق الجمالي، إذ يجمع بين الانطباعية في الكتابة وبين التصور المركزي “للناقد” حول الجمال.
أما المفهوم الثاني فهو كون النقد السينمائي عبارة عن حكم قيمي يرتكز على الثوابت التي يؤمن بها الناقد، وطنية كانت أم دينية، أم أيديولوجية.
لمحة عن مهمة الناقد السينمائي
يجب أن نفرق بين نقد الظاهرة السينمائية المتمثلة في حضور أو غياب السينما بكل مكوناتها في بلد ما، وبين نقد الفيلم السينمائي الذي هو تجربة منعزلة ومندمجة في الآن معا، فلا يمكن أن تغيب الأفلام حتى ولو غابت الظاهرة السينمائية في بقعة ما من العالم، فيما تنعدم الظاهرة السينمائية أساسا بالغياب الكلي لفعل مشاهدة الأفلام، ولهذا يرى البعض أن النقد السينمائي ليس مرهونا بالحركة السينمائية في أي بلد كان، لأننا نعيش زمن عولمة الثقافة والفضاء المفتوح.
أفرز تصور الكوننة ظاهرة وجود السينما العالمية المكثف، وعلى رأسها الشركات الكبرى المتعددة الجنسيات، المتحكمة فيما يسمى بهوليوود وبوليوود وغيرهما في صيغهما المعاصرة، وهذا ما يجعل المشاهد/ المتفرج معرضا للسينما في كل مكان من العالم، حتى تلك البلاد التي تحرم الأفلام في فضائها العمومي، وهذا ما يجعل مهمة النقد قائمة لأن الناقد مرهون بمهمتين أساسيتين، أولهما مراجعة الأفلام والظاهرة السينمائية إن وجدت في دولته القطرية.
أما المهمة الثانية فتكمن في صناعة جمهور/ متفرج السينما حتى وإن غابت الأفلام المحلية بسبب وجود كاسح للأفلام العالمية عبر الطرق الرسمية، أو القرصنة، وبذلك يقوم الناقد السينمائي بصناعة وعي ثقافي من خلال إيصال النقد للمستمعين والقراء، كما أنه يهيئ الطريق لميلاد تجربة سينمائية في وسطه المغيب عن الثقافة بمفهومها المعاصر، والتي تمثل فيها السينما حصة الأسد، إذ هي بين المهمش مثل الرواية، والشعر، والمسرح، والفن التشكيلي، وبعض التجارب الفنية الموسيقية غير الشعبية من جهة، وبين التلفزيون، والأنترنت اللذان يميعان الذوق السمعي البصري عبر تهاطل غزير للصور من كل حدب وصوب – كما آمن بذلك فيديريكو فيلليني-، والموجهة عبر الخط الافتتاحي للقناة التلفزيونية، أو الانترنت، وهذا ما يذهب إليه أغلب نقاد الحداثة من المعارضين للثقافة التليفزيونية، والثقافة السبرانية المهيمنة، وخطورتها على التأثير في “المستهلك” غير الملقح فكريا.
حوصلة كتاب فرانسيسكو كاسوتي في نظريات السينما
يرى فرانسيسكو كاسوتي في كتابه أن هناك حقولا معرفية، وفكرية، وفلسفية أسهمت في بلورة مقاربات في الفهم والتأسيس لتجربة نقدية سينمائية واعية، وتتمثل هذه الروافد في الآتي:
- المقاربات الأنطولوجية: وهي التي تتساءل عن/ ما هي السينما؟/ إذ رآها أندريه بازان وسيغفيلد كراكووار أنها كانت ويجب أن تبقى واقعية، وهذه هي حتميتها التكنولوجية/ الوجودية أساسا، لأنها تعتمد الفوتوغرافيا بوصفها المنطلق والتأسيس، لكن لهذا التصور فروع متعددة أبرزها ما ذهب إليه أندريه بازان الفرنسي الذي اختلف عن كراكووار الألماني في اعتبار السينما صناعة لواقع مواز وليس تسجيلا للواقع كما هو، كما أن هناك من يرى السينما في كل ما يمزق قماش العرض ليتجه إلى ما بعد الواقعية كما أقر إدغارد موران في كتابه “السينما أو الرجل المخيال”.
وهكذا تشتغل هذه المقاربة على تعاريف مختلفة لما يجب أن تكون عليه السينما، وبذلك يتم التأسيس لأرضية ثابتة ينطلق من خلالها الناقد للحكم على الأفلام.
- – المقاربات المنهجية -الميثودولوجية-: ويأتي غرضها قصد إيجاد المسافة النقدية الآمنة عبر تحليل علمي للأفلام، باعتماد المقاربات الأكاديمية المعترف بها في معترك البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية، والأدبية، فلا يقوم بهذا النوع من النقد سوى الباحث الأكاديمي، ويمكن الاعتراف بتسمية ورقته البحثية بالدراسة النقدية، لأنه يجمع بين القراءة النقدية، وبين الدراسة العلمية أمثال: كريستيان ميتز الذي قام بترحيل أدوات بحث اللسانيات والسيميولوجيا من الآداب نحو دراسة الأفلام، فلا ينطق بالحكم النقدي في ذيل الدراسة إلا بعد التحليل البنيوي السيميولوجي للعمل، بل لا يمكن القول بالحكم النقدي أصلا، بل هي قراءة حرة تنبثق من دراسة علمية معمقة للإنتاج الفني.
- المقاربات المتخصصة- مقاربات المجال أو الحقل-: فإذا اعتمدت المقاربات الأنطولوجية على التصورات الفكرية، والجمالية، والفلسفية الحرة، في الكتابة والنثر، واعتمدت المقاربات المنهجية على النشر الأكاديمي في المجلات العلمية المحكمة وما شاكل، فإن المقاربات المتخصصة قابلة للنشر الحر، وكذا النشر الأكاديمي معا، بحكم أنها مقاربات فكرية لكنها تتوسل بالعلوم، فلا يهمها بنائية الفيلم، بل تجعل منه مثالا فقط للحديث عن ظواهر إنسانية أخرى، مثل تكلم رجل الاجتماع عن ظاهرة العنوسة بمرتكزات سوسيولوجية موثوقة، لكنه يأخذ الفيلم الذي يتطرق للظاهرة بوصفه مثال حي وملموس، فينتقد الفيلم من خلال تصويب ما جاء فيه منافيا للموضوعية العلمية في مقاربة العنوسة، بينما يؤيد ما وافق منه النتائج العلمية التي يثق فيها.
لم يركز كاسوتي على النقد الصحفي الذي يعتبره تارة ترويجا للسلعة السينمائية بدون تعمق، وتارة أخرى وساطة بين أصحاب المقاربات سالفة الذكر، وبين الجمهور العريض مع تبسيط للخطاب الفلسفي والأكاديمي طبعا، كما أن الكتاب موغل في الأمثلة من الأفلام السينمائية العالمية، والكتب السينمائية المشهورة، مع غياب للسينما العربية في أمثلته، لكنه يمكننا إيجاد تطابق بين الأمثلة السينمائية العالمية وبعض أفلامنا العربية الجيدة، وبتصفح 374 صفحة من نسخة الكتاب يمكنني القول بأنه ملم -بالنسبة إلي- بكل ما يمثل نظرية السينما والتحليل الفيلمي الرائج في الدراسات السينمائية الأكاديمية العالمية، وجدير بالمطالعة المتأنية.