لماذا تعجبنا دراما النصب والسرقة والاحتيال؟
حقق المسلسل المصري “بـ100 وش”، من بطولة نيللي كريم وآسر ياسين وإخراج كاملة أبو ذكرى، نجاحا جماهيريا كبيرا فى شهر رمضان، وجذب الجمهور بمعالجته الكوميدية التي كتبها الثنائي عمرو الدالي وأحمد وائل.
كان من اللافت فعلا أن تتعاطف قطاعات واسعة من المشاهدين، مع عصابة تمارس السرقة، وتستلهم عالم دراما الإحتيال، ونموذجها الأشهر فى سلسلة أفلام عصابة أوشن الأمريكية، لا تنقلها، ولكن تنسج على منوالها، وتمصّرها، سواء فى أجوائها المرحة، أو فى ذكاء التفاصيل، أو فى براعة عمليات النصب المتنوعة.
ذكرنى هذا النجاح والتعاطف بعاصفة التصفيق التي دوّت فى قاعة العرض التي كنت أشاهد فيها الجزء الأول من فيلم عصابة أوشن الأحد عشر، عندما نجح أفراد العصابة أخيرا فى تنفيذ خطتهم، وسرقة ما أرادوه، فتكرر مرة أخرى مع مسلسل “ب100 وش” سؤال الكثيرين: لماذا تعجبنا دراما النصب والسرقة والإحتيال؟ ولماذا نتعاطف مع لصوص يسرقون بنكا قد تكون فيه أموالنا؟
الشطارة والفهلوة
هناك تفسيرات كثيرة اقترحت بالذات مع فريق المسلسل الذي تقوده فتاة تدعى سكر، تلعب دورها ببراعة وبخفة ظل الممثلة باذخة الموهبة والحضور نيللي كريم، فالشخصيات التي تمارس النصب رسمت كلها بمهارة، وبلمسات كوميدية لامعة، ولعب أدوارهم ممثلون رائعون، والشخصيات أيضا فى معظمها من مستويات اجتماعية واقتصادية متواضعة، وحلم الثراء لديهم طبيعى ومنطقى، وفيهم جميعا لمسة “الفهلوة” التي تتسق مع ثقافة الفهلوة عموما فى المجتمع، هم “شطار” بمعنى “أذكياء” ، و”شطار” أيضا بمعنى “لصوص”، فحكايات الشطار فى التراث العربى معنها حكايت اللصوص، كما أن تفاصيل كل عملية كانت محكمة دراميا للغاية، وهو أمر غير معتاد فى كثير من المسلسلات، بالإضافة الى غياب عنصر الصراع المقابل الذي تمثله الشرطة، عن معظم الحلقات تقريبا، مما جعل الساحة مقتصرة الى حد كبير على عروض عصابة سكر اليومية، الذكية والظريفة.
فى حالات معينة للنصب والسرقة، باستثناء حكاية سرقة أموال البنك لرجل ينتظر الموت، فإن المسروق قد يكون مكروها أو شريرا أو مغرورا، هنا يسهل أن نقول إن تعاطف الجمهور لابد أن يكون مع الأظرف والأذكى والأكثر قبولا، ولكن فكرة تأثير الدراما فى جمهورها تستحق أن نوسع دائرة الرؤية كثيرا، فإذا طانت دراما الإحتيال تقترن عادة بالبهجة والضحك، فلماذا يمتد التعاطف والإعجاب مثلا الى رجال العصابات فى أفلام عنيفة ودموية مثل “بونى وكلايد” و” الأب الروحى” بأجزائه؟
ربما نحتاج الى قراءات ترتبط بشكل أعمق بنظرية الدراما، وبتفسيرات نفسية واجتماعية، والعلاقة بين الدراما والجمهور، فالدراما لا ترتبط قوتها بمنطق الواقع كما يعتقد الكثيرون، وإنما بقدرة صناعها على صنع واقع مواز، يفرض قانونه وشروطه بصنعة الفن، فما نراه فى الأفلام والمسرحيات، حتى تلك التي توهمنا بالواقع، هو فى حقيقته بناء ومنطق فني بحت، له أدواته وزمنه وشروطه.
لعبة الإيهام
الدراما محاكاة للواقع، وإيهام بالواقع، ومازالت فكرة أرسطو القديمة صالحة حتى اليوم للقراءة والتفسير، فالدراما لا تحاكى الذي حدث فعلا فحسب، ولكنها تعمل، وربما بالأساس، على ما يحتمل وقوعه، وبالتالى لابد من بناء منطقى جديد، وبالتالى لا يكفى أن تكتب فى تترات الفيلم: “أحداث هذا الفيلم حقيقية” لكى نصدقها، بل لابد من صنع قانون ومنطق فنى يجعلها قابلة للتصديق.
الأكثر من ذلك، فإن المنطق الفنى القوى يجعلك تصدق ما لا يمكن حدوثه فى واقعنا المعاش، وهذا ما يجعلنا ننفعل بالشخصيات الكارتونية الحيوانية مثلا فى أفلام مثل “الملك الأسد”، وهو أيضا ما جعل الناس تبكى فى دور العرض تأثرا بحكاية المخلوق الفضائي ” إي تي”، الذي يريد العودة الى أسرته, كل أفلام الفانتازيا تصنع واقعا موازيا قويا مليئا بالتفاصيل، ومرتبطا بواقع الحياة بشكل ما.
من ناحية أخرى فإن التهاون فى صنع منطق فنى محكم، قد يجعل من قصص حقيقية، وشخصيات معروفة، مسخا غير قابل للتصديق، وهذا ما نراه فى أفلام عن سير شخصيات قدمت بشكل غير متقن، يثير الضحك والسخرية، وهذا أيضا ما يجعل من بعض أعمال الدراما الدينية غير مؤثرة، حيث تقدم شخصيات الكفار مثلا بصورة كاركاتورية، تصل فيها المبالغة الى حد تنميط ملابسهم وأشكالهم، وطريقة إلقائهم، بل وتغليظ أصواتهم وشكل حواجبهم !
نظرية الدراما إذن وتأثيرها فيها أيضا ما يشبه الإحتيال، بل هى احتيال صريح بإعادة تقديم الواقع، أو بافتراض واقع مغاير، ثم الإقناع به من خلال منطق مواز، الفن عموما فيه معنى التحوير والتغيير والإيهام والتزوير المتقن، وهي نفس الفكرة التي تلعب عليها، وبشكل صريح، أفلام السرقة والنصب، بل إنها تمتلك شيئا آخر هاما، وهو أنها تضع المتفرج فى الكواليس، بأن يشاهد بالتفصيل خطوات الإيهام الذكية قبل تنفيذها.
اللعب فى قلب معنى نظرية الدراما، اللعب مع المتفرج أو عليه، ولا يمكن أن تنجح أى دراما إلا بأمرين: اتقان صناع الدراما للعبة ولمنطقها، وموافقة المتفرج على هذا المنطق، وعلى مشاركته فى اللعبة، وبدون هذا التواطؤ، لا توجد دراما، وكل عمل درامى، مهما كان نوعه، لابد أن يتحقق فيه هذان الشرطان، وفى أفلام السرقة والنصب على وجه الخصوص، يصبح المتفرج مطلعا على القانون وهو يصنع أمامه، وعلى التفاصيل وهى تتبلور قبل تنفيذها، فيصبح شاهدا موافقا، وشريكا بالرؤية، فإذا كانت اللعبة مرحة، فإنه لن يريد لها أن نتنهى، ولذلك لايريد أن تكتشف السرقة ويقبض على اللصوص، لأنه لا يريد ببساطة أن تنتهى اللعبة.
الإندماج الآمن
هنا إيهام مشترك يتطلب الإكتمال، ولا يقنع بالتوقف، ومن اللافت أيضا أن أفلام العصابات الذكية والظريفة، تتضمن تمثيلا داخل التمثيل، واحتيالا داخل لعبة الإحتيال الدرامى نفسها، ففى مسلسل “ب100 وش” كانت هناك فتاة خبيرة بالماكياج، تغير وجوه أفراد العصابة، لكى يلعبوا أدوارا أخرى، فى سيناريوهات صغيرة ذكية للإحتيال، داخل السيناريو الأصلى، وفى فيلم ” العتبة الخضرا”، وهو من آباء هذه النوعية فى السينما المصرية، هناك أدوار مختلفة يلعبها أحمد مظهر وفريقه، لإحكام عمليات النصب، هؤلاء إذن فنانون يمارسون اللعب، مثلما هم محتالون يمارسون النصب.
هو إذن تمثيل داخل تمثيل، ولعبة داخل اللعبة، وإيهام فى قلب إيهام، وتواطؤ مشترك ممتع، يتحمل فيه أبطال العمل المسؤولية كلها، بينما تتيح اللعبة، مثل أنواع الدراما كلها، ما أسميه بـ”الآندماج الآمن”، التي هي في الحقيقة إحدى مباهج أو منافع الفن عموما.
أنت الآن فى مقعدك فى البيت، تشاهد عصابة تمارس النصب بذكاء وبخفة ظل، تشعر بالتفوق لأنك تشاهد كواليس الإعداد للخطة، بينما المنصوب عليه لا يعرف، ثم تستمتع باكتمال اللعبة، داخل دراما هى فى جوهرها لعبة موازية، تحب ألا تتوقف اللعبة أبدا، فإذا توقفت بالقبض على اللاعبين فى قلب الشاشة، ستشعر بالخذلان، ولكنك ستسعد أيضا لأنك، ذلك الشاهد على الإحتيال من بدايته، ما زلت آمنا فى مقعد بيتك، أنت خارج اللعبة رغم مشاركتك بالصمت والإعجاب، ورغم أنك وافقت بالضحك والتصفيق على لعبة السرقة والإحتيال.
فى كل الأحوال لم أسرق أنا شخصيا، ولم ينجح أحد فى الاحتيال علىّ أنا شخصيا، بل على حفنة من الأغبياء، ولعلى استفدت أيضا، فلن أسمح لأحد أن يستغفلنى مثلما حدث فى ضحايا الحكاية، ثم إن مبادئى الأخلاقية فى رفض الإحتيال والسرقة لم تتغير، كل ما فى الأمر هو أنى شاركت بالمشاهدة فى لعبة درامية محكمة، كان معى مفتاح الإندماج والإنفصال ، لو أحببت اللعبة يمكن أن أستعيدها فى أفلام أو أجزاء أخرى، مثلما أذهب مرات الى بيت الرعب فى مدينة الملاهى بإراداتى، أجرب الخوف والهلع، ثم أخرج مرتاحا وآمنا بعد خوف، فقد صرخت فى وجه الوحش، وأنا ما زلت على قيد الحياة رغم كل شئ.
الدراما تنقلك الى حياة كاملة موازية، وتحقق للمتفرج تقمصا وقتيا مدهشا، يختبر فيه أشياء ما كان يمكن أن يختبرها فى حياته الراهنة، إنها تترجم الأحاسيس والأحلام المستحيلة، الى حكايات نصدقها، ويتيح هذا الواقع الموازى اختيار كل القيم التقليدية والجديدة، فيصنع حياة افتراضية جديرة بالتأمل، ولعبة مبتكرة نعيد من خلالها تشكيل الحياة كما نريد: لا تستطيع أن تتمرد على المجتمع، فيتمرد بالنيابة عنك بونى وكلايد، لا تفهم كيف تتماسك العصابات، فتحكى لك سلسلة “الأب الروحى” عن قيم الأسرة وقد حفظت منظومة الشر والعنف والموت، وفى كل مرة نتلصص حرفيا على لعبة، ثم نخرج منها بنهاية كل عرض.
الدراما تحقق أحلاما كامنة أبعد بكثير مما نعتقد، شخصية جيمس بوند مثلا تجمع بين نموذج الإنسان المتحضر الأنيق الوسيم الذي يستخدم أحدث أدوات التكنولوجيا، والإنسان البدائي الذي لا يقنع بامرأة واحدة، والذي يقتل من يشاء بدون أى عقاب.
هذا المزيج المقعد للغاية، والذي يصاغ فى شكل حبكة أو لغز، وفى إطار رحلة ساحرة الى أكثر من بلد، يخاطب فى نفوس الجمهور أشياء منسية أو مكبوتة، لذلك لا نريد لهذه اللعبة أن تنتهي ولا خوف علينا، لأننا لن نتكلف ما يتكلفه بوند، بل إننا نقبل أن يؤدى دوره أكثر من ممثل.
وطالما أنه لا حدود للأحلام أو للرغبات، فلن توجد حدود أبدا للأفلام، وطالما أن البطل المثالى لا يمكنه أن يحقق كل شئ فى الواقع، فسيبقى دوما للبطل الضد ما يحققه على الشاشة، وستبقى له جاذبيته ورونقه، خصوصا مع اتقان اللعبة، وإحكام صنعة الفن المبدعة.