لغة السينما.. من جمالية الإبهار إلى جمالية التقشف
-1-
هناك شبه إجماع في أوساطنا السينمائية أن السينما هي فن الصورة، تعريف يؤسس لممارسة نقدية تصنف أفلاما داخل السينما و أخرى خارجها.
السينما هي فن الصورة المتحركة (Moving Picture) وليس فن الصورة وحدها وهو تعريف مرتبط بالفترة التي تفصل اختراع جهاز السينماتوغراف وظهور السينما الناطقة سنة 1927.
السينما هي تسجيل للواقع الصورة المتحركة والصوت، بعكس الصورة الثابتة أي الصورة الفوتوغرافية. اللقطة السينائية لا توجد خارج المدة الزمنية التي تستغرقها. حتى كراسات تعليم أولويات اللغة السينمائية تتفق على تعريف أن اللقطة تحدد من بدأ دوران محرك الكاميرا إلى التوقف أي أن اللقطة توجد أولا كمدة زمنية. حتى في حالة استعمال الصورة الثابتة في الفيلم فإنها تفقد هويتها كصورة فوتوغرافية، لتتحول إلى لقطة متحركة بمدة معينة و أصوات مرافقة تبث فيها الحياة وتوهم بالحركة.
اللقطة إذن، هي الوحدة الفيلمية الغير القابلة للتجزيء، التي يتأسس عليها الفيلم، وليس الصورة. إجرائيا حينما نتحدث عن الصورة نعني إحدى مكونات اللقطة أو محتوى الإطار(الكادر) من ألوان و إضاءة و أشكال و خطوط.
في البداية كانت اللقطة وكان أول فيلم في تاريخ السينما، لقطة مدتها 53 ثانية متحررة من الحكاية والنص المكتوب. شاءت البدايات أن لا يوجد الفيلم خارج فعل التصوير والعرض السينمائي. جاء الجمهور ذات يوم من أيام سنة 1895 ليكتشف أفلام الأخوان لوميير وليشاهد الحياة والأشياء التي يعرفها مسبقا «وصول القطار لمحطة سيوطا» و»خروج العمال من المعمل», «لقطة تصور الشارع الكبير»… لكنها على الشاشة تتحول إلى ما يشبه السحر. من أول لقطة/ فيلم في تاريخ السينما تحددت هوية الفن السينمائي كفن يخلق الفرجة من أشياء في الأصل لا علاقة لها بالفرجة.
لن تتأخر السينما أن تبحث عن ذاتها و جمهورها من خلال العودة إلى التراث الأدبي والمسرحي وتهيمن السينما السردية ويصبح فعل التصوير/ التسجيل في خدمة نص له وجود سابق عن فعل التسجيل وتبقى السينما الوثائقية /التسجيلية هامشية.
رغم العودة لحكايات مستلهمة من التراث للمسرحي والروائي وأسلوب تمثيل مبالغ فيه، كانت السينما الصامتة أكثر بصرية وتعبيرية. لم يكن ذلك اختيارا فنيا ولكنه أسلوب فرضته الضرورة لتعويض غياب الصوت. مع تطور السينما وظهور الفيلم الناطق سيبالغ في استعمال الصوت لتتخلى السينما مؤقتا عن بصريتها لصالح هذا الاختراع الجديد الذي جدد إقبال الجمهور على السينما بدافع حب الاستطلاع .
ستتطور السينما وفق اتجاهين مؤسسين من ناحية تناول الواقع و اللغة : الاتجاه الذي يبقى مرتبطا باللقطة كوحدة ذات بناء مستقل وفي نفس الآن في خدمة البناء العام، والاتجاه الذي يرى في اللقطة كوحدة سردية ليس إلا، أي أنها منفصلة عن السياق ألحكائي الذي وجدت لخدمته لا معنى لها. اتجاه يترك للمتفرج مساحة للتفكير وآخر يحبس المعنى و يُبـرمج أحاسيس المتلقي، اتجاه يخلق المعنى من اللقطة واتجاه يفرض على اللقطة معنى له وجود سابق .
بدعم من القيادة السياسية بعد الثورة البلشفية التي اقتنعت بأهمية السينما كفن جماهيري والدور الذي يمكن أن تلعبه لدعاية والتربية، جاءت محاولا ت المخرجين الروس الأوائل على رأسهم ايزنشتاين وبودوفكين، لتأسيس لغة سينمائية مستقلة عن النص المكتوب وعن التراث الأدبي، منسجمة والمجتمع الجديد الذي كانت تطمح إليه، لغة سينمائية كمقابل جمالي لمبادئ المادية الجدلية والتاريخية. سيكتشف المونتاج كمرحلة حيث تجد اللقطات الصورة معناها وشكلها النهائي وحيث يتهيكل بناء الفيلم انطلاقا من التوتر الذي يخلقه تلاقي وتصادم لقطتين في علاقة التعارض أو النفي والتقابل الشيء الذي يولد معنى جديد ولا وجود قبلي له . لم يستطيع هذا الاتجاه أن يُعمم رغم أنه ساهم بشكل كبير في تطوير اللغة السينمائية مقابل المونتاج السردي الذي اتبعته السينما الأمريكية والذي تحول إلى نموذج مهيمن عالميا.
جاءت الموجة الجديدة في نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، لتفتح أفاق جديدة للسينما من خلال التخلي عن المؤثرات التي كانت قد علقت بالسينما وبلاغة سينمائية اعتبرتها أكاديمية ومصطنعة، تعيق في نظرها خلق علاقة مباشرة مع الواقع ومقترحة الاقتراب أكثر من كتابة الفيلم الوثائقي لإعادة الاعتبار لفعل التسجيل والتخلص من مجموعة من القواعد الكتابة السينمائية حيث أصبح مثلا مع جون لوك كودار ممكنا القطع داخل القطة دون أن نكون مجبرين على تغيير موقع الكاميرا والانتقال من لقطة إلى أخرى دون الاهتمام بالرابط (Raccord) وأصبح معه أيضا إمكانية تصويرفيلم طويل دون سيناريو ولكن فقط بخطة عمل لا تتجاوز صفحتين كما كان الأمر في أول فيلم صوره الأخير A bout de souffle.. أي “على آخر نفس”.
على عكس الموجة الفرنسية، جاءت الواقعية الإيطالية الجديدة، كحركة سينمائية عفوية لم تتحكم فيها في البدء نوايا تأسيس أسلوب سينمائي جديد أو مشروع نقدي لكن، كان وراءها ظروف ولادتها عند نهاية الحرب العالمية الثانية، ورد فعل على السينما الدعائية الفاشية ببساطة، خصوصا مع فيلم «روما مدينة مفتوحة» لروبيرتو روسيليني حيث اضطر الأخير لتصوير في الأماكن الطبيعية خارج أصوار مدينة السينما Cinecitaبما توفر من الإمكانيات والاعتماد على ممثلين غير محترفين، باستثناء آنا منياني و بأقل الوسائل التقنية. لم تبحث الواقعية الإيطالية ولا الموجة الجديدة على جمالية الصور بل تطورت وتميزت بالتخلي عن صورة جميلة لصالح صورة معبرة وحقيقية, تستطيع أن تقتنص الزمن الحاضر.
العودة إلى تاريخ السينما تعلمنا أن المتابعة السينمائية تتطور بمنطق الحذف والتخلي والتطهير، وليس بالإضافة وبالبحث عن جمالية الإبهار وخلق الدهشة بالاستعمال المفرط لمؤثرات البصرية و الصوتية.
بمناسبة الاحتفال بفيلم «خروج العمال من المعمل» أي الاحتفال بمئوية السينما، جاء مخرجين من الدانمرك لارس فان تريا و توماس فتنبرغ إلى مهرجان كان في نفس السنة ببيان دوكما(Dogma (95يضم عشرة بنود جريئة، تدعو السينمائيين إلى أسلوب متقشف بشكل مطلق . إنها تتخلى عن كل شيء ولا تحتفظ إلا بالمهم، القليل الذي يجعل الفيلم ممكنا فقط، لصالح التعبير وتسهيل الوصول إلي الحقيقة. جاءا هذا البيان ليعيد العقارب إلى ساعة الصفر للانطلاق نحو ألفية جديدة بسينما متحررة لتواكب الثورة الرقمية التي كان السينما تعيش إرهاصاتها الأولى.
في لحظات متفرقة من التاريخ، سنلاحظ أن السينما تسترجع قوتها وتجدد ذاتها حينما تكون قريبة من لغة الوثائقي حينما ،يعاد الاعتبار لفعل التسجيل أي للقطة وليس لصورة، أي لعلاقة مباشرة للكاميرا مع الواقع لخلق سينما تبحث عن جماليتها من خلال تأمل الحياة بصيغة الحاضر. لم سبق في تاريخ السينما أن تصادف ولادة مدرسة سينمائية بتحول في صناعة الصورة أي مثلا التحول من الأسود و الأبيض لم يكن لحظة فارقة في تاريخ السينما بنفس درجة ظهور الواقعية الايطالية أو مدارس أخرى
-2-
ولدت السينما لقطة ثابتة، غير متحركة تتأمل الأشياء بنوع من البرود ولكنها ليس محايدة وغير موضوعية بالشكل الذي يفترضه اختراع ذو طبيعة علمية، وجد أسسا لدارسة الحركة وليس كشكل تعبيري أو فرجة جديدة ممكنة . ولدت السينما من أول لقطة / فيلم وهي تضع الأسس الأولى لمفهوم الإخراج (La mise en scène ) كفعل إعادة تمثيل الواقع وصياغته وفق مقصدية ما أو لنقل ولدت السينما وهي تضع بشكل عفوي أسس الكتابة السينمائية.
تبدو الأشياء في بداية السينما من الوهلة الأولى بديهية وعفوية، لكن الواقع غير ذلك إما عن وعي أو عن غير قصد. فوجود الكاميرا واقفة عند نقطة محددة والأشياء تأتي في اتجاهها كما في فيلم «خروج العمال» و»وصول القطار» يعني ببساطة أن الشخص الذي يصور يعرف بشكل مسبق الكيفية التي ستمر بها الأشياء والاتجاه الذي ستأخذه حركتها، الشيء الذي يسمح له بتحديد زاوية نظر، تجعل الكادر يستوعب الحدث أي يجعل الواقع قابلا للتصوير، ومرئيا على الفيلم الخام باختيار لحظة تصادف الاتجاه المناسب للشمس للحصول على إضاءة مناسبة.
في كلتا الحالتين سبق تصوير اللقطتين التي أشرت إليهما خطة عمل تتأمل، تتوقع، تستبق وتتنبأ و تتدخل لإعادة التمثيل. منذ اللقطة الأولى ولدت السينما برؤيا تسرد الأحداث وهي عارفة بكل شيء، تعيد بناء الماضي بشكل يوهمنا بالزمن الحاضر لأنها فن الحاضر بإمتياز.
إن تصوير لقطة ما يعني أولا معرفة الواقع المصور، معرفة مكوناته وآليات تطوره للقدرة على تخيل خطة عمل لالتقاطه، وإعادة صياغته، وتحويره بالشكل الذي يبلور ورؤية ما للعالم واللغة.
إن تصوير «خروج العمال من المعمل» يفترض معرفة ساعة الخروج والطريقة التي يتوزع بها العمال عند ولوج الشارع، والاتجاه التي ستأخذها كل مجموعة، لمعرفة أين ستوضع الكاميرا ليصبح هذا الحدث مرئيا, ومفهوما، متناسقا،. لكن الأكيد أنه فيما يخص الفيلم المذكور بعد هذه المرحلة أعاد الإخوة لوميير تمثيل هذا الموقف عدة مرات ليبدو عفويا وبتكوين متوازن من الناحية البصرية. يضاف إلى هذا معرفة العمال وواقعهم بشكل حميمي لأنهم ببساطة كانوا عمال في معمل الأخوان لوميير الذي لا يبعد إلا بعض أمتار عن منزل العائلة. إننا نعرف أنه توجد على الأقل ثلاث نسخ من هذا الفيلم، صورت في لحظات متفرقة، أي أنه تمت عملية الانتقاء وفق معايير محددة، قبل العرض الأول، أي لاعتبارات جمالية أو تقنية.
اختيار تصوير وصول القطار إلى محطة سيوطا، ليس بديهيا خصوصا إذا علمنا أن الأخوان لوميير كانو يسكنون مدينة ليون، وأن سيوطا توجد بجنوب فرنسا قريبة من مدينة مرسيليا. بالإضافة إلى وجود مقصدية ونية وراء هذا التنقل. يفترض تصوير هذا الحدث العادي معرفة ساعة وصول القطار بالدقيقة والثانية، لتصادف مدة الوصول والتوقف طول الشريط الخام المتوفر آنذاك والذي لم تكن تتجاوز مدته 53 ثانية. في زمننا الحاضر يبدو الأمر مضحكا، لأن الصور الرقمية تتيح إمكانية تصوير الساعات دون توقف. دفعت العوائق التقنية لزمن البدايات المخرجين الرواد لتجازوها، وبالتالي تطوير اللغة السينمائية، وفتح إمكانيات جديدة أمام الإبداع السينمائي.
انطلاقا من هذين المثالين، وأفلام أخرى أخرجاها الأخوان لوميير في نفس الفترة (و هي عشرة عرضت في الصالون الهندي بالمقهى الكبير بباريس عند ظهور السينما 28 ديسمبر 1895) ولدت السينما محددة معالمها التعبيرية وبأفقين للتعبير السينمائي: الأفق الروائي الذي يبحث عن الواقعية من خلال إعادة صياغة الواقع بلغة مستعارة من المسرح و الرواية ومختلف تقاليد التعبير الأوربي، الاتجاه الطي سيمثله فيما بعد المخرج جورج ملييس والأفق الوثائقي الذي يتأمل الواقع ويعيد صياغته باستعمال أجزاء من هذا الواقع كمادة مباشرة يعاد تركيبها في تكوين يٌفترض فيه هو الأخر أين يكون حكائيا رغم ذلك، ورؤية نوستالجية للواقع تعيد تمثيله كليا لتقدمه بصيغة الحاضر. الاتجاهين يقابلاه من ناحية الكتابة اختيارات أسلوبية وإنتاجية مختلفة: إما كتابة بخطط ونوايا مسبقة ومحكمة وإما كتابة مفتوحة ومغامرة تتيح للواقع إمكانية التسرب إلى داخل ثنايا العمل.
بالمناسبة، تمرين تصوير فيلم بلقطة ثابتة ومدة زمنية لا تتجاوز الدقيقة، تمرين صعب جدا، ربما أصعب من فيلم تقليدي حيث يجب عليك في لحظة أن يصادف اختيار المكان حدثا وإضاءة مناسبة وزاوية نظر، عوامل كثير ليس من الصعب توفرها في نفس الآن . بخلاصة أن يخلق هذا الفعل معنى والإحساس بأقل أبجديات اللغة بتقريرية يفترض فيها أن تخلق لحظة من الشاعرية .
-3-
يتكون الفيلم من ألاف اللقطات، وتتطلب كل واحدة منها ساعات من العمل، من الكتابة والتحضير ثم التصوير والمونتاج حيث نقوم بالقطع لتحديد المدة الزمنية لكل لقطة، وتحديد وضعها داخل تسلسل اللقطات الأخرى. إذا قسمنا عدد ساعات العمل إنتاج الفيلم على عدد اللقطات المكونة له، قد نجد أن اللقطة الواحدة تتطلب نفس الوقت الذي قد يتطلبه انجاز أي لوحة فنية أو ربما أكثر .
يتحول التداول المفرط لبعض مكونات وقواعد اللغة السينمائية إلى قانون لأنها تجعل الطريق مختصرا، وتعفي البعض من بدل مجهود، لهذا تأتي مجموعة من الأعمال السينمائية نمطية ومتشابهة في لغتها. حولت هذه التدابير الفنية العملية الإبداعية إلى عملية أوتوماتيكية. حيث تتولد اللقطات من تلقاء ذاتها دون أي مجهود فكري ودون مشقة القيام بأي اختيار. مثلا اللقطات الأولى للفيلم يجب أن تكون لقطات بانورامية عامة لتحديد مكان الأحداث، المشهد يصور مثلا بالشكل التالي :لقطة عامة رئيسية ولقطات مقربة غالبا وفق علاقة الحقل (champ) وضد الحقل (contre champ)مع بعض اللقطات أخرى لتفاصيل قد تكون مهمة في المشهد، شخصية تعيش حالة نفسية ما نقوم بحركة كاميرا في اتجاهها (travelling avant) أو تصويرها بلقطة جد مقربة(Gros plan) الخ … أثناء المونتاج، سنجد ووفق نفس المنطق، أن الانتقال من لقطة إلى أخرى، يحدده التوقف عند الشخصية التي تتكلم إذ يصبح المشهد كحلبة لعبة كرة المدرب وعلاقة المشاهد بينها يتحكم فيها هاجس الربط بين اللقطات دون الأخذ بعين الاعتبار، لا المعنى، ولا تطور الأحداث داخل المشهد و لا زاوية نظر ألحكي أو الإيقاع الداخلي، إلى درجة أن الربط يصبح في حد ذاته هو موضوع الفيلم .
من المفروض أن يخضع الاشتغال على اللقطة لمستويين: أولا العمل عليها كوحدة سردية، وثانيا الإشغال عليها وكأنها الوحيدة في الفيلم، أي أن تكون مستقلة من ناحية المعنى والشكل، وكأنها فيلم قصير في حد ذاتها. إن هيمنة منطق المتوالية السينمائية بشكل مبالغ فيه يفقر اللغة، و يسقط أسلوب الفيلم في شكلانية جوفاء ونمطية. يجب أن تطل علينا اللقطة بشكل مفاجأ وغير متوقع وأن تأخذها وقتها في الظهور وأن نحس أنها تجربة نادرة لن تتكرر أو على الأقل ليس بنفس الشكل. العودة إلى نفس اللقطة يجب أن يكون كتطور درامي أي أن توجد اللقطة لذاتها وليس فقط بمنطق تفسيري وكصور توضيحية لسرد لغوي البنية وبوجود سابق عن الفيلم، عن فعل التسجيل. ربما يجب علينا الاشتغال بعقلية تمرين بداية السينما حيث كانت اللقطة /الفيلم لا تتجاوز 53 ثانية /»خروج العمال من المعمل» لأخوان لوميير مثلا 1895 مثلا، الشيء الذي قد يرغمنا لتعبير بأقل الوسائل، وبأبسطها لإعادة الحياة إلى اللغة، وتجديدها وتطهيرها لتصبح أقل أوتوماتيكية ونمطية وتخاطب بذلك أحاسيسنا وتطبع ذاكرتنا.