“لست هنا” إنسان في عالم عربي غارق في الحروب والأزمات
قبل عشر سنوات جمعني ويامن عبد النور شغف العمل السينمائي وصناعة الأفلام وكنا إلى جانب شباب آخرين في بداية العشرينيات من العمر نحمل الكاميرات ونصّور أفلاماً روائية قصيرة في الشوارع ومنازل الأصدقاء وبعد سنوات قليلة جمعتنا مقاعد المعهد العالي للسينما بالقاهرة حيث ذهبنا لدراسة الإخراج السينمائي بالتزامن مع اندلاع حرب قاسية في بلادنا أرخت ظلالها السميكة علينا وقلبت حياتنا رأساً على عقب بسرعة قياسية.
في السنة الدراسية الثالثة ذهبتُ إلى دمشق لتصوير مشروع الفيلم التسجيلي أما يامن عبد النور فحمل كاميرته في القاهرة مستغنياً عن معظم أعضاء طاقم صناعة الفيلم التقليدي من مدير تصوير ومهندس صوت ومدير إنتاج ليسجّل وحيداً مقابلات طويلة وتفاصيل كثيرة من حيوات شخصيات سوريّة استقرت في مصر هرباً من ويلات الحرب وسرعان ما أعاد توليف مواده الكثيرة ليصنع منها فيلمه التسجيلي المتوسط الطول (تحت سماء، 41 دقيقة، 2015) فاتحاً من خلاله نافذة مشرّعة على أوجاع السوريين في بلد الاغتراب كاسراً صورة نمطية سائدة عنهم ومحاولاً سبر أغوارهم وتفاصيلهم الجوانيّة معيداً تقديم علاقاتهم مع أبسط الأشياء كقهوة الصباح منتقلاً رويداً رويداً لعلاقاتهم مع الأهل والوطن والحرب والحياة وسط مأساة مستمرة.
سنوات مرّت بين فيلمه التسجيلي هذا وفيلمه الروائي القصير (لست هنا، 15 دقيقة، 2019) وهو مشروع تخرجه من المعهد وقد قضاها يامن غارقاً في العمل في إستديوهات الدوبلاج حيث حقق بموهبته مكانة مميّزة في هذا المجال دون أن يفتر حماسه للعمل السينمائي أو يستسلم لمتطلبات الحياة اليومية التي قد تحول المبدع إلى آلة عمل متواصل لا همَّ له سوى المحافظة على مستواه المعيشي وسط ظروف مجحفة.
كتب يامن بالشراكة مع يوسف أبودان سيناريو فيلمه القصير ليعود بأحداثه إلى ذروة الحرب السورية سنة 2014 حيث الانتشار الكبير للمجموعات المسلحة والارتفاع الغير مسبوق لمستوى العنف وأمام الكاميرا وخلفها وزّع يامن جهده باعتباره مخرجاً وممثلاً في الفيلم بدور البطولة الرئيسي وهو الشاب السوري حسام الذي يعيش في الإسكندرية ويعمل في الدوبلاج دون أن يندمج تماماً في المجتمع الجديد رغم القواسم المشتركة الكثيرة التي تجمع بين المجتمعين السوري والمصري وأولها اللغة المشتركة فالشاب حذرٌ على الدوام، قليل الكلام، يتحدث باللهجة المصرية تارة والسورية تارة أخرى وفي معظم الأحيان يستخدم اللهجتين على عادة السوريين المقيمين في مصر فتبدو لغته مرتبكة ومشتتة بين هنا وهناك، ورغم براعته وتفانيه في العمل إلا أن حواجز كثيرة تحول بينه وبين المشرف الفني/ المجتمع فالعلاقة لا تتعدَ حدود طلب فنجان قهوة أو يانسون بخجل ودماثة مفرطة، وفي منزله الصغير يعيش حسام عزلته الباردة فلا حياة اجتماعية ولا علاقات ولا أصدقاء، ويتحول التلفزيون واللابتوب والموبايل إلى رفاق يطمئن من خلالهم على أحوال أهله المقيمين داخل سوريا في منطقة تحولت إلى جبهة قتال شرس.
يعتمد السيناريو على بناء تقليدي قائم على بداية وذروة ونهاية وباستخدام خلاّق للمونتاج مَزَجَ بين الواقع والخيال نجح منذ نقطة انطلاق الأحداث الأولى بكشف مكنونات شخصيته الرئيسية فالشاب يعيش كابوس الفقدان وإن كان يقيم في مكان آمن ظاهرياً إلا أن الحرب الدائرة في بلاده ترخي بظلالها عليه تماماً فحين يصحو من النوم ليصنع قهوته على مهل يتلقى اتصالاً هاتفياً من والدته لتعلمه بوفاة والده فينهار بعدم تصديق ثم سرعان ما يعود الفيلم إلى المستوى الواقعي ليكشف أن ما جرى كان محض منام بعد معايشة مكثّفة لشخصية تواجه لحظة درامية خاصة ضاعف من تأثيرها الأداء التمثيلي المميّز لصانع الفيلم وبطله، وبتوظيف مُبدع لشريط الصوت يغيب ضجيج المارة والمتنزهين على كورنيش الإسكندرية لتحل مكانهما أصوات القذائف والاشتباك بينما يقطع حسام طريقه اليومي بين البيت وإستديو الدوبلاج.
وفي المشهد الخارجي الوحيد وباستخدام متمكن للصمت ورهان ناجح بقدرة الأداء التمثيلي على الإفصاح عن المعنى يجلس حسام على الكورنيش وينظر إلى البحر الممتد أمام ناظريه بينما تبادله فتاة جميلة تطالع كتاباً نظرات طويلة ثم ابتسامة خفيفة يرد حسام بمثلها قبل أن ينهض ويرحل بعيداً في دلالة تشير لعدم قدرته على الاندماج الكليّ مع الحياة وسط دوامة الخوف والقلق والاضطراب.
يبلغ الفيلم ذروته عندما يتلقى حسام خبراً من والده يفيد باندلاع المعارك في منطقتهم واضطرارهم للمغادرة إلى منطقة آمنة ثم تنقطع الشبكة الخليوية ليواجه حسام هواجسه وشكوكه وحيداً وخلال عمله على دوبلاج مسلسل كرتون للأطفال في دلالة تشير إلى تناقض يبلغ حدّ الانفصام بين واقع حسام وعمله وبين ما يعتمل في داخله من مشاعر يتلقى اتصالاً جديداً من والده الذي يرفض اقتراحه بسفرهم إلى لبنان هرباً من جحيم الحرب ثم تنقطع الشبكة مرة أخرى ويعود حسام إلى منزله الصغير ويغلق باب الحماية الحديدي الذي يبدو أشبه بباب سجن عملاق بينما يعمُّ الظلام تدريجياً في نهاية مفتوحة على كل الاحتمالات.
يُضاف (لست هنا) إلى قائمة الأفلام القصيرة التي أنجزها الطلبة السوريين في معهد السينما وهي أفلام حققت بمجملها سمعة طيّبة حاز بعضها على جائزة أفضل فيلم قصير في المهرجان القومي للسينما المصرية أكثر من مرّة وحاز بعضها الأخر على جوائز مهرجانات أخرى هنا وهناك وقد أسفر الفيلم النقاب عن مخرج متمكن يمتلك ناصية اللغة السينمائية بما يقدر على التأثير والإدهاش خاصة أن الفيلم يتمحور برّمته حول شخصية واحدة فضلاً عن اكتشاف ممثل من طراز خاص تفتقر الشاشة العربية لمثله وقد استطاع يامن عبد النور أن يقدّم هنا نموذجاً مثالياً لفيلم من تحقيق صانع واحد عمل في التأليف والتمثيل والإخراج معاً ليقدم رؤية سينمائية خاصة تنتصر لقضية الإنسان في عالم عربي تمزقه الحروب والأزمات.