“لا اختيار آخر” الأخلاق النفعية في عالم يُدار بالاستهلاك

يمثّل فيلم “لا اختيار آخر” «No Other Choice» للمخرج الكوري الجنوبي بارك تشول-ووPark Chul-woo  امتداداً متقدماً لما يمكن تسميته اليوم بـ«الموجة الكورية الجادة» في السينما العالمية، تلك الموجة التي تستثمر أدوات السرد البصري في إعادة تفكيك التاريخ الحديث للبشرية والتاريخ الاجتماعي للطبقات، لا بوصفه خلفية درامية، بل باعتباره مادة سينمائية حية تشتبك مع المشاهد مباشرة وتجرّه إلى قلب المعضلة الأخلاقية للنظام الرأسمالي المتأخر.

منذ أن أعاد فيلم “طفيل” «Parasite» تنظيم الوعي العالمي تجاه موقع الطبقة في بنية الصورة السينمائية، صارت الأفلام الكورية تتقدم بقوة نحو ما يشبه «الأنثروبولوجيا السينمائية للرأسمالية»، حيث يصبح الإنسان فرداً مسحوباً نحو الحافة، ويتحوّل توازن الحياة اليومية إلى ميدان صراع لا نهائي، ويتكثف داخل التفاصيل العادية من العمل والأسرة والاستهلاك انقسامٌ صفّي يعيد تعريف معنى النجاة.

في هذا السياق يجيء فيلم “لا اختيار آخر” «No Other Choice» بوصفه خطوة جديدة في هذا المسار، لكنه لا يكتفي باستعادة ثنائية الأغنياء والفقراء أو المركز والهامش، بل يذهب نحو منطقة أكثر قتامة: منطقة الفرد الذي يُستنزف من الداخل، في عالم يقول له طوال الوقت: لا حقّ لك في الوجود إن لم تكن موظفاً ناجحاً ومنافساً شرساً، وهنا يقدّم بارك تشول-وو نقداً مباشراً للنظام الرأسمالي في كوريا الجنوبية الذي يسحق الإنسان بين فكّي العمل والاستهلاك، كما يلمّح في آن واحد إلى الوجه الآخر للكارثة: بنية اشتراكية مغلقة في كوريا الشمالية لا تقل قسوة، ممثلة في المسدس القادم من الشمال الذي تُرتكب به جرائم البطل، في إشارة واضحة إلى أنّ المنظومتين –الرأسمالية المتوحشة والاشتراكية القمعية– تنتجان عنفاً مشتركاً يتسلل إلى حياة الفرد.

منذ المشهد الأول يضع بارك تشول- وبطله في موقع «الفاعل الاجتماعي المتفائل»، العامل الماهر في مصنع الورق الذي يحرّض زملاءه المهددين بالصرف على الاحتجاج، ويظهر كمنظّر نقابي محتمَل، صاحب وعي طبقي أولي يقف في وجه مدراء الشركات وممثلي رأس المال.

يبدأ الفيلم بهذه الروح الاشتراكية الهادئة، كأننا أمام قصة نضال عمالي كلاسيكية، أو أمام إحياء للسينما الواقعية السياسية التي ازدهرت في الستينات والسبعينات. غير أنّ المفارقة تنهش البناء منذ اللحظة التي يدرك فيها البطل أنّه هو نفسه المرشح للصرف، وأن المبادرة النقابية التي بشّر بها لن تنقذه من قدره، لأن النظام لا يرى فيه سوى رقم فائض.

هذه المفاجأة تؤسس لانهيار شامل في حياته الشخصية التي قدّمها الفيلم في البداية كلوحة «يوتوبية صغيرة»: زوجة جميلة، طفلان هادئان، كلبان، بيت نظيف وأنيق، موسيقى تعزفها ابنته المصابة بنوع من اضطراب طيف التوحد. ينهار كل ذلك مع فقدان العمل، كأنّ الوظيفة كانت هي العمود الفقري الوحيد لهوية الرجل في عالم لا يعترف بالإنسان خارج سياق إنتاجه واستهلاكه.

ينزلق الفيلم بعدها إلى ما يمكن تسميته «تراجيديا الوظيفة»، حيث تتحول حياة البطل إلى سلسلة من تهديدات القروض البنكية، وإلى مطاردات من مؤسسات التمويل التي تستعد لحجز المنزل الذي ورثه عن عائلته وأعاد ترميم وتحديثه، عندها وقرار وإشراف من الأم، تبدأ إجراءات تقشفية صارمة تعلّق كل المصاريف الغير ضرورية وتبقي فقط على رسوم مدرّسة الموسيقى للابنة الصغيرة.

يقدّم بارك تشول- وو هنا صورة دقيقة للعنف البنيوي للرأسمالية المعاصرة: العنف الذي لا يحتاج إلى سلاح، بل تكتفي فيه الشركات والبنوك بضغط الفواتير والإنذارات كي تحوّل الإنسان إلى حيوان مذعور محاصر من كل الجهات. ورغم أن البطل يمتلك مهارة عالية في مجال صناعة الورق، إلا أن السوق ضيّق والمنافسة شرسة، ما يدفعه إلى اتخاذ قرار جنوني يبدو في ظاهره فردياً لكنه في العمق نتاج مباشر للبنية الاجتماعية: يقرر ارتكاب سلسلة من جرائم القتل بحق منافسيه المحتملين على الوظيفة نفسها.

هنا يتقدم الفيلم إلى منطقة إثنوغرافية جديدة: الفرد الذي تخلّى عنه النظام يلجأ إلى إعادة إنتاج منطق النظام ذاته، أي يمارس العنف بصفته ضرورة تنافسية. القاتل ليس شخصية سايكوباتية، بل نتيجة طبيعية لعالم لم يعد يقبل سوى الناجحين مهما كان الثمن. والمفارقة أن المسدس الذي يستخدمه البطل –والذي يأتي من كوريا الشمالية– لا يظهر كأداة جريمة فحسب، بل كرمز لهيمنة أيديولوجيا قمعية مضادة، نظام اشتراكي مغلق يغذي هو الآخر دورة العنف العابرة للحدود الكورية، ما يجعل القتل في الفيلم مولوداً لتوأمين سياسيين: سوق جنوبية متوحشة ودولة شمالية مغلقة.

يعتمد البطل حيلة شديدة الدقة: يفتعل مسابقة توظيف وهمية عبر نشرة دورية متخصصة، ويدعو كبار مهندسي صناعة الورق للتقدم إليها، بعد الإطلاع على كل المرشحين، يختار اثنان منهم على أنهم المنافسين الحقيقين له في مجاله ويضيف إليهم عضو مجلس إدارة الشركة التي يريد جميعهم العمل فيها، وتبدأ رحلة التصفية. يقدم الفيلم هذه المَهمّة القاتمة بدم بارد، لكن ليس من باب السرد البوليسي، بل من أجل أن يُظهر للمتفرج «التجربة الإنسانية» لكل ضحية، تلك التجارب التي تجعله أقرب إلى البطل من حيث الهزيمة والخيبة والمعاناة الطبقية.

في المشهد الذي يتواجه فيه البطل مع أولى ضحاياه، وهو مهندس خبير انتهى به الأمر زوجاً مُهاناً ورجلاً محطماً ومدمناً على الكحول، يجري بارك تشول-ووعملية تداخل طبقي ونفسي نادرة في السينما: ضحية مهزومة، وزوجة تخونه، وماضٍ ممتلئ بالمجد الشخصي، وحاضر يفيض بالانكسار. يدخل القاتل إلى منزله بوصفه «زميلاً» مزيفاً، فتتشكل طبقات من التوتر يتراكب فيها الحب والغيرة والتعاطف والنوازع الحيوانية للنجاة، بينما العالم الخارجي نفسه غير معني بهذين الرجلين، وكأنهما يختبران مأساتهما داخل غرفة مغلقة في كون لا مبالٍ.

في المشهد الطويل الذي يكاد يكون “ماستر سين” للفيلم، تُفتح بوابة التحليل الاجتماعي على مصراعَيها: الحوار خافت، الموسيقى صاخبة، واللغة الجسدية للشخصيات تقول ما لا يستطيع الحوار التلفظ به. تتبدل الأدوار، يحمل كل منهما السلاح للحظة ويتركه للحظة أخرى، كأن الفيلم يريد القول إنّ الضحية والجلاد في هذا النظام ليسا سوى مهمتين متبادلتين، ينتقل الفرد بينهما وفق موقعه اللحظي في لعبة السوق التي لا تعترف بالأخلاق، بل بالقوة وحدها.

يمضي الفيلم ليعرض المشهدين الثاني والثالث من عمليات القتل، لكن التركيز الفعلي يكون في التآكل الداخلي للبطل، الذي يعاني طوال الوقت من ألم متكرر في أسنانه، كأنه ألم رمزي يذكّره بإنسانيته المتداعية.

وفي لحظة هذيان وسُكر في مشهد القتل الثالث، يقرر اقتلاع ضرسه بيده، في فعل يشبه طقساً بدائياً لفصل الذات عن روحها. التحول هنا ليس بيولوجياً ولا نفسياً فقط، بل هو تحول سياسي-وجودي: الرجل يقتلع إنسانيته ليصبح «مواطناً صالحاً» في عالم لا يعترف سوى بالأفراد الفاعلين اقتصادياً.

إنّ بارك تشول-وو يستخدم الألم الجسدي كي يرمّز للعبور من حالة الإنسان إلى حالة «الآلة الاجتماعية»، ومن الذات الأخلاقية إلى الذات البراغماتية التي تفكر بمنطق الربح والخسارة فقط.

يرتبط هذا التحول بالسياق الأكبر للفيلم: عالم الاستهلاك الذي يجتاح الكوكب، فيبتلع الغابات والبحار والمشاعر، ويحوّل البشر إلى وُحَداء في سباق دائم لا يرون فيه سوى خط النهاية الذي يعني النجاة المؤقتة. لأن الفيلم يدور حول صناعة الورق، فإن بارك تشول-وو ، يوظف رمزية الورق على مستويات عدة: الورق الذي يُصنع من الأشجار، والذي يحتاج إلى قطع الغابات بلا رحمة، ثم الورق الذي يعود ليخدم البيروقراطية والمال والقروض والإنذارات والمستندات التي تحاصر البطل. تتالى مشاهد قطع الأشجار بطريقة وحشية لتذكر المشاهد بأن الحضارة الحديثة تقوم على دفن الطبيعة تحت طبقات من الاستهلاك. الشجرة تتحول إلى ورق، والورق يتحول إلى نظام مالي، والنظام المالي يتحول إلى وحش يلتهم البشر. يعيد الفيلم ربط المأساة الفردية بهذه الدورة البيئية-الرأسمالية ليقول إن نهاية العالم ليست كارثة قادمة من السماء، بل نتيجة طبيعية لنمط حياة نمارسه طواعية.

تظهر هذه الدائرة أيضاً في علاقة البطل مع أسرته، وخصوصاً مع ابنته المصابة بشكل من طيف التوحد. منذ اللحظة الأولى يكون توحد الطفلة مؤشراً على انغلاق الجيل الجديد على نفسه، جيل اختنق من كثافة العالم، ولم يعد يرى معنى في التواصل الاجتماعي التقليدي.

في نهاية الفيلم تظهر انفراجة صغيرة، لحظة تكشف فيها الطفلة عن موهبة موسيقية حقيقية (تعزف لكلبيها) بعد عودة الاستقرار النسبي للأسرة. لكنّ هذه الانفراجة، رغم دقتها وجمالها، تبدو كأمل مغشوش، لأن التغيير الحقيقي لم يحدث في البنية، بل فقط في موقع الأب داخلها: أصبح موظفاً من جديد، بل أصبح مشرفاً على معمل يعمل بالذكاء الصناعي، ما يعني أنّ كل ما جرى من دماء وقتل وانهيار لم يغيّر موقعه داخل النظام بقدر ما رسّخه فيه، وأعاد دمجه في آلة الإنتاج نفسها التي سحقته سابقاً.

إنّ قيمة الفيلم تكمن في قدرته على تطوير سردية الرعب الاجتماعي التي بدأت في “طفيل” «Parasite» وتواصلت في أعمال أخرى مثل Squid Game و  Broker لكنه يفعل ذلك من خلال التركيز على التحول الداخلي للفرد، وليس فقط على الصراع الطبقي بين الفئات.

يوضح بارك تشول-وو أن النظام الرأسمالي المعاصر لا يكتفي بشق المجتمع إلى طبقات، بل يعيد تشكيل الأخلاق الفردية نفسها، ليجعل القتل فعلاً منطقياً في ذهن مواطن يبحث عن وظيفة. يشتغل الفيلم على تفكيك «الأخلاق النفعية» التي صارت تحكم العلاقات الإنسانية، حيث تختفي الأسئلة حول الصواب والخطأ، لتحل محلها أسئلة مثل: ماذا سأربح؟ ماذا سأخسر؟ كيف أنجو؟ وهذه الأسئلة ليست انحرافاً، بل نتيجة مباشرة لاقتصاد يقيس قيمة الفرد بقدرته الإنتاجية. وفي المقابل، يقدّم المسدس القادم من الشمال دلالة مكملة: الاشتراكية القمعية لا تمنح خلاصاً بدورها، بل تصدّر أدواتها العنيفة إلى الجنوب، لتكتمل دائرة الموت بين نظامين يتبادلان إنتاج الوحش.

الفيلم أيضاً يقدّم استعارة قوية عن «الخريف» كفصل رمزي لنهاية العالم. في المشهد الافتتاحي يعلّق البطل بأننا في فصل الخريف، وفي لغات السينما يصبح الخريف هو الفضاء الذي تتساقط فيه أوراق العالم، وتستعد الطبيعة للدخول في موت مؤقت. ربطُ الخريف بصناعة الورق ليس عبثاً: أوراق الشجر تتساقط، والبطل يصنع من هذه الأوراق أوراقاً جديدة تُستخدم لإدامة دورة الاستهلاك نفسها. عندما تُقطع الأشجار لصناعة الورق، يصبح الخريف حالة دائمة، ويصبح العالم محكوماً بمنطق الموت المتكرر بلا ربيع.

بهذه البنية المحكمة، وبأسلوب بصري يزاوج بين الواقعية القاتمة والمجازات المرئية واسعة المدى، ينسج بارك تشول-وو فيلماً يمكن اعتباره من أعمق القراءات السينمائية للعلاقة بين الإنسان والنظام الاقتصادي المعاصر. ليس لأنه يقدّم نصاً سياسياً مباشراً، بل لأنه يذهب إلى الجرح العميق في الروح البشرية، حيث يتحول الفرد إلى ظلّ لإنسانه الأصلي. يقدّم الفيلم في النهاية خلاصة مُرّة: الخلاص الفردي ممكن، لكنه لا يصلح العالم. بل إن الخلاص الفردي نفسه، في عالم يختنق بكثافة الاستهلاك، يصبح جزءاً من المشكلة. كل ما فعله البطل هو أنه أعاد دمج نفسه في نظام ينتج الموت، بينما بقيت قضيته الأصلية – قضية العمل الجماعي والنقابي– معلقة في الهواء. هكذا يستعيد الفيلم سؤالاً فلسفياً عميقاً: كيف يمكن للإنسان أن ينجو دون أن يتحول إلى وحش؟ وهل النجاة نفسها، ضمن شروط هذا العالم، ليست سوى وجه آخر للهزيمة؟ بين رأسمالية جنوبٍ متوحشة واشتراكية شمالٍ قمعية، لا يبدو أن ثمة خياراً آخر فعلاً.

بهذه الأسئلة، وبهذه القدرة على تحويل قصة بسيطة إلى بنية إشكالية واسعة، يكرّس “لا  اختيار آخر”  مكانته كجزء أساسي من موجة السينما الكورية الجديدة التي لا تكتفي بالسرد، بل تسعى إلى إعادة اختراع الخطاب السينمائي حول الطبقة والطبيعة والإنسان، وتضعنا أمام مرآة مخيفة تكشف ملامح عالم نعرفه جيداً ونخاف الاعتراف به في آن واحد. هذه المرآة ليست انعكاساً فحسب، بل هي تحذير: لا خيار آخر حقاً، ما دمنا نعيش داخل هذا النظام الذي يلتهم كل شيء، من الأشجار إلى المشاعر، ومن الوظائف إلى الأرواح.

Visited 1 times, 1 visit(s) today