كيف تم إنقاذ “لورنس العرب”
58 عاما مرت على ظهور الفيلم الملحمي الكبير “لورنس العرب” Lawrence of Arabia للمخرج البريطاني الراحل ديفيد لين، الذي يعتبره الكثير من النقاد وخبراء السينما في العالم، أفضل الأفلام التي حصلت على جائزة الأوسكار لأحسن فيلم، منذ ظهور تلك الجوائز عام 1927 وحتى يومنا هذا.
عرض الفيلم عام 1962، ورشح بعد ذلك لعشر من جوائز الأوسكار، فاز بسبع جوائز منها، هي أحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن موسيقى وأحسن تصوير وأحسن مونتاج وأحسن ديكور وأحسن صوت.
استغرق تصوير الفيلم 280 يوما، وصور في المواقع الطبيعية في إسبانيا والمغرب والأردن، وتكلف إنتاجه 12 مليون دولار، وهو رقم كبير بمقاييس تلك الفترة.
وقد عرض الفيلم أولا في العاشر من ديسمبر 1962 في لندن، في نسخة من مقاس 70مم، وفي السادس عشر من الشهر نفسه، أي بعد ستة أيام فقط، بدأت عروضه في الولايات المتحدة. إلا أن النسخة الكاملة من الفيلم التي كانت تقع في 222 دقيقة، شهدت الكثير من الحذف والاختصار وتعرضت على المدى الطويل للتلف، بل وكادت النسخة السلبية الأصلية من الفيلم، أي “النيجاتيف”، أن تتآكل وتتلاشى بعد أن فقدت الكثير من ألوانها الأصلية، كما اختفت أجزاء كثيرة من شريط الصوت.
قبل مرور شهر واحد على بدء عرض الفيلم عروضا عامة، أي في يناير 1963 استبعد صناع الفيلم منه عشرين دقيقة لأسباب مختلفة، منها الضغوط الرقابية التي كشف عنها الستار فيما بعد، في أواخر الثمانينيات، والتي موست على منتج الفيلم سام شبيجل، لكي يستبعد منه كل ما يشير إلى التواطؤ الذي وقع بين بريطانيا وفرنسا أو الإشارة إلى الاتفاقية التي وقعت بين الدولتين عام 1916 أي قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، وعرفت بـ”اتفاقية سايكس- بيكو”، وبموجبها اتفقت الدولتان الاستعماريتان على تقسيم مناطق النفوذ فيما بينهما في الشرق الأوسط، على الرغم من الوعود البريطانية للشريف حسين، شريف مكة، بضمان الاستقلال عن الدولة العثمانية مقابل أن يساعد العرب بريطانيا في الحرب ضد تركيا.
وهذا الموضوع تحديدا يمثل إحدى الركائز الدرامية المهمة في فيلم “لورنس العرب”. وكان هدف استبعاده عدم إثارة غضب الدول العربية التي كانت حليفة لبريطانيا في ذلك الوقت. وكانت بعض مقاطع الحوار في الفيلم هي المشكلة الأساسية التي أدت إلى استبعاد بعض اللقطات.
طلبت الرقابة البريطانية أيضا استبعاد بعض اللقطات من المشهد الأول في الفيلم، وهو يصور مصرع لورنس عند سقوط دراجته النارية، ومن هذه اللقطات التي طالبت الرقابة استبعادها من المشهد، اللقطة القريبة لنظارته معلقة بين أفرع شجرة بعد سقوط الدراجة في منعطف، ولقطة الدراجة النارية وهي تطير وتصطدم بالأرض، فقد وجد أن تركيب المشهد يصدم المتفرجين.
وفي أواخر السبعينيات طلب منتج الفيلم سام شبيجل من مخرجه ديفيد لين، حذف 15 دقيقة أخرى لخفض زمن عرض الفيلم حتى يصبح 187 دقيقة من أجل بيعه إلى محطات التليفزيون. وقد وافق المخرج لكنه اشترك على شبيجل عدم عرض النسخة الجديدة المختصرة في دور العرض السينمائي، إلا أن شبيجل لم يحترم هذا الشرط، وأصبحت النسخة المتداولة في دور السينما هي نفسها النسخة التي تقع في 187 دقيقة من أجل ضمان عددا أكبر من العروض اليومية.
ومع مرور الوقت اندثرت كل النسخ الموجبة (التي كانت تعرض في العالم) أي النسخ الطويلة الأصلية (222 دقيقة) وحلت محلها النسخة المختصرة (187 دقيقة). ولم يكن لدى شركة كولومبيا الأمريكية التي تملك حقوق توزيع للفيلم، نسخة موجبة بالزمن الأصلي، ولا سجلا تفصيليا يوضح بدقة، تتابع المشاهد في النسخة الأصلية.
ويجب أن نوضح أن النسخة السلبية هي أصل الفيلم السينمائي، ومنها تصنع النسخ الموجبة (أو الإيجابية) التي تعرض في دور السينما، وتظل النسخة السلبية محفوظة، ويجب أن يكون مكان الحفظ صالحا حتى لا تتحلل مادة “السيلولويد“ التي يصنع منها الشريط السينمائي. والنسخة السلبية تتكون في الحقيقة من شريطين: واحد للصورة والآخر للصوت، وعند استنساخ نسخ موجبة للعرض، يتم مزج شريطي الصوت والصورة معا في معامل الطبع والميكساج.
في ديسمبر عام 1987 قام الباحث السينمائي وخبير الأرشيف البريطاني روبرت هاريس، الذي كان قد اشترك في إنقاذ واستعادة فيلم “نابليون” الشهير الصامت للمخرج الفرنسي أبيل جانس (من عام 1926 ويقع في نحو أربع ساعات)، بزيارة إلى شركة كولومبيا حيث عرض على المسؤولين هناك ترميم واستعادة النسخة الكاملة الـ70مم من فيلم “لورنس العرب”. وقد حذره المسؤولون من صعوبة المهمة بل واستحالتها تقريبا، إلا أنه قبل التحدي وشرع في العمل.
استعان هاريث بفريق من الخبراء والمتخصصين من هوليوود مثل جيم باينتين الذي رافقه في استعادة فيلم “نابليون”، وخبير الصوت ريتشارد أندرسون، وخبير إعادة تسجيل ومزج الصوت غريغ لاندكر، كما استفاد من خبرة اثنين من خبراء مونتاج الحوار، وعدد كبير من الخبراء في معامل الألوان في شركة مترو، وكذلك المونتيرة الأمريكية آن كوتس، وقبل هؤلاء جميعا، مخرج الفيلم ديفيد لين.
وكان يتعين على هؤلاء، إجراء العديد من الأبحاث الصعبة المعقدة التي تشمل تعقب أي مادة من المواد الباقية من الفيلم الأصلي على مستوى العالم، وفحص ما يوازي أربعة أطنان من المواد المصورة والصوتية، قبل أن تبدأ عملية إعادة بناء الفيلم.
لم يكن أحد قد فحص النسخة السلبية (النيجاتيف) الأصلية من الفيلم منذ أن حُفظت في العلب داخل مخازن شركة كولومبيا قبل 25 عاما. وعندما فتحت العلب وجد أن النسخة السلبية (مقاس 65 مم بالأبيض والأسود التي تصبح 70مم بعد ضم شريط الصوت إليها) في حالة سيئة للغاية، فقد وجد أن أكثر من ألف “وصلة” بين كادرات الفيلم قد تمزقت، لكن الأخطر كثيرا أن النسخة السلبية كانت قد تعرضت 200 مرة للتقطيع أو للقطع عند مناطق معينة، من أجل تحقيق التأثيرات المطلوبة من مزج واختفاء تدريجي بين المشاهد في المعمل، وغير ذلك.
وقد قرر فريق العمل إرسال النسخة السلبية إلى معامل شركة مترو. أما شريط الصوت المغناطيسي الذي عثر عليه، فقد أرسل إلى مقر شركة هاريث حيث تم فحصه وتفريغ مقاطعه المختلفة، ووجد أن زمن عرضه يبلغ 202 دقيقة.
وشحنت كميات كبيرة من المواد الأخرى والشرائط والنسخ التي عثر عليها من الفيلم في ألمانيا وبريطانيا وهولندا، وأخذ بانتين يفحص كل هذه المواد، وبدأت عمليا إعادة بناء الفيلم في ضوء كل ما هو متوفر من مواد.
استخدم فريق العمل مئات الآلاف من الأقدام من المواد المصورة (السلبية- نيجاتيف) من مقاس 65 مم، التي لم يكن يوجد على أي منها علامات تشير إلى ترتيبها أو أماكنها داخل سياق الفيلم، ولقطات أخرى لم يسبق استخدامها، ومئات الصناديق التي تحتوي على لقطات وأجزاء محذوفة من نسخ أخرة من مقاس 35 مم، ونسخ سريعة أو ما يسمى rushes وهي نتاج التصوير اليومي وتأتي عادة إلى المعامل للتحميض، ومئات الآلاف من الأقدام لشريطي الصوت والصورة.
توفرت أيضا نسختان (موجبتان) من مقاس 70 مم، واحدة ناطقة بالألمانية، والثانية ناطقة بالإنجليزية مع ترجمة هولندية على الشريط نفسه. واتضح أن النسختين يبلغ زمن عرض كل منهما 202 دقيقة. وقد قام الفريق بتصنيف كل هذه المواد وترتيبها وحفظها بطريقة تمكن من الاستفادة منها.
ووصلت أيضا نسخة احتياطية من شريط الصوت يبلغ زمنها 202 دقيقة ووجدت علامات عند الكثير من النقاط الفاصلة بين بعض الكادرات استنتج من شكلها أنها قد تكون النقاط التي حدث عندها قطع ما، أي اختصار لبعض اللقطات. وعندما أديرت في أجهزة الصوت لاختبارها تبعثرت المادة المؤكسدة الممغنطة الموجودة على سطح الشريط وتحولت إلى تراب، وتسببت في تعطيل رءوس الأجهزة.
ورغم أن الملاحظة المرفقة معها كانت تشير إلى أنها نسخة احتياطية إلا أن فحصها في معامل الصوت في شركة مترو أثبت أنها النسخة الأصلية من شريط الصوت تقع في 202 دقيقة. لكن لم يكن ممكنا استخدامها فقد انتهت تماما.
قبل الاستمرار في عملية الإنقاذ والاستعادة كان لابد من طبع النسخة السلبية. فقام المعمل بإجراء بعض الإصلاحات في النسخة بقدر الإمكان إلى أن أمكن إعداد نسخة عمل 70 مم منها.
كانت الألوان في النسخة المطبوعة تميل إلى اللون الأصفر إلا أن صبغات ايستمان كولور لم تتحلل تماما عبر السنين بل شحبت فقط. وقد أمكن تصحيح الألوان، بل وأمكن أيضا إخفاء الجروح أو الخدوش التي تشوه بعض المشاهد عن طريق تغطيتها بمادة سائلة معينة. وبعد طبع نسخة سلبية أرسلت إلى الولايات المتحدة.
هناك اتضح أنه تم عمل اختصار في النسخة السلبية مرتين من قبل لكن أمكن تحديد مكان اللقطات التي كانت قد استبعدت في السبعينيات واستعادة معظمها.
استعان هاريث بالمونتيرة آن كوتس التي عملت في مونتاج الفيلم عام 1962 مع المخرج ديفيد لين، وبالتالي أمكن معرفة أماكن لصق اللقطات التي استبعدت واستعادة الكثير من أجزاء الفيلم القديم، وهي عملية استدعت أيضا تدخل المخرج مارتن سكورسيزي في العمل بشكل مباشر. لكن اقتضى الأمر الاتصال بمخرج الفيلم ديفيد لين الذي قام بالإشراف على إعادة تسجيل الكثير من عبارات الحوار في الفيلم بعد أن أقنع بيتر أوتول وأليك غينيس وأنطوني كوين وآرثر كنيدي بالعودة إلى تسجيل العبارات الناقصة التي لم يعد لها وجود بعد أن مسحت تماما في نسخ الصوت القديمة التي عثر عليها.
جاء أليك غينيس وبيتر أوتول إلى الاستديو مع ديفيد لين في لندن وتعاونا بكل بساطة في تسجيل حوارهما الناقص. وأعاد أنطوني كوين تسجيل السطرين الناقصين من حواره في الفيلم، في نيويورك قبل أن يرحل إلى أوروبا، أما كنيدي فقد أمكن العثور عليه في ولاية جورجيا حيث لحق به باينتين وقام بتسجيل الصوت بواسطة جهاز تسجيل من نوع ناجرا. أما جاك هوكنز فكان قد توفي في أواخر الستينيات متأثرا بمرض سرطان الحلق، لذلك استعان لين بالممثل الذي أصبح متخصصا في القيام بدور البديل (الصوتي) لهوكنز لتسجيل المقاطع المستعادة التي كان يتكلم فيها.
وفي أبريل 1988 ذهب ديفيد لين إلى لوس أنجليس لكي يشاهد في غرفة المونتاج النسخة الأولية الأكثر اكتمالا من فيلمه الذي أخرجه قبل أكثر من 25 سنة. وكان يتعين عليه أن يقر النسخة الجديدة إلا أنه ظل مترددا، وأخذ يتساءل عما إذا كانت بعض اللقطات المضافة لا فائدة منها وما إذا كان من الضروري إجراء اختصار جديد.
أعدت نسخة من مقاس 70 مم من الفيلم مع نظام صوت دولبي، وعرضت عرضا خاصا في قاعة أكاديمية علوم وفنون السينما في هوليوود. كانت لحظة تاريخية. لقد تمت استعادة الفيلم إلى النسخة التي تقع في 202 دقيقة. وعرضت النسخة المستعادة في ديسمبر 1989 بمناسبة مرور 25 عاما على ظهور الفيلم.
ولكن هل انتهى مشوار “لورنس العرب” مع التكنولوجيا الجديدة؟
لم تصمد تلك النسخة طويلا. كان من الضروري أن يعود البحث مجددا في عام 2011 عن باقي الأجزاء المفقودة من النسخة الأصلية التي تقع في 222 دقيقة. كانت ألوان النسخة السلبية المستعادة، أي نسخة 1989 قد بدأت في التحلل، وبدأ الصوت يتآكل. وكانت شركة سوني التي اشترت كولومبيا وآلت إليها بالتالي أصول كولومبيا من الأفلام بما فيها “لورنس العرب”، عازمة على إعادة إطلاق نسخة جديدة كاملة شاملة من الفيلم بمناسبة مرور 50 عاما على ظهوره.
مرة أخرى يتم استدعاء آن كوتس Anne Coates المونتيرة المرموقة وهي الوحيدة التي ظلت على قيد الحياة من الفريق الذي عمل مع ديفيد لين عام 1962. وباستخدام نسخة 1989 عملت كوتس مع فريق خبراء المعامل الرقمية الحديثة digital في شركة سوني لمدة شهرين، من أجل ضمان استعادة الألوان وكثافتها ونسبة تركيز الضوء في الفيلم إلى ما كانت عليه عند ظهوره. وكانت مهمة كوتس إصلاح الأجزاء التي لم يتمكن فريق هاريس عام 1989 من إصلاحها بسبب عدم توفر الوسائل التكنولوجية التي أصبحت متوفرة حاليا أي التكنولوجيا الرقمية المتقدمة.
قام الفريق بعمل مسح رقمي للنسخة الـ 65 مم الأصلية (70 مم بعد إضافة شريط الصوت) لرصد كل العيوب الكامنة في الكادرات واللقطات بما في ذلك عيوب الألوان والتشققات والخدوش وغير ذلك.
ونجحت التجارب المختلفة في النهاية في استعادة 20 دقيقة أخرى كان من المستحيل أن تعود إلى الفيلم مجددا إلا بفضل التكنولوجيا الجديدة وإرادة فريق الخبراء وحماسهم للفيلم الكبير.
وتسمى التقنية التي استخدمت في استعادة الفيلم إلى حالته الأصلية 8k وهي أرقى درجات النقاء التي تتحقق من خلال التعامل الرقمي مع الفيلم، وقد خفضت عند طبع نسخ من الفيلم إلى k4 وهي درجة نقية جيدة لا مثيل لها من قبل. الآن أصبح “نيجاتيف” لورنس العرب محفوظا في نسخة رقمية ومخزنا كإشارات ضوئية على جهاز الكومبيوتر، وطرحت الشركة في الأسواق نسخة من الفيلم على أسطوانات البلوراي (الأشعة الزرقاء) ذات الصورة التي تتمتع بجودة عالية ودرجة نقاء كبيرة.
من ضمن الأشياء التي كانت قد استبعدت من النسخة الأصلية للفيلم بعد عروضه الأولى في 1962، اسم أحد كاتبي السيناريو وهو الأمريكي مايكل ويلسون، بينما اكتفى صناع الفيلم باسم الكاتب البريطاني روبرت بولت. وقد عاد اسم ويلسون إلى النسخة الجديدة باعتباره مشاركا في كتابة السيناريو.
النسخة الكاملة التي عرضت عام 2012 في احتفاليات ضخمة في أكثر من مهرجان سينمائي، تسبقها افتتاحية موسيقية تستغرق 4 دقائق على شاشة سوداء. وينقسم الفيلم إلى قسمين، تفصل بينهما استراحة. وفي نهاية القسم الأول فاصل موسيقي (على شاشة سوداء) يسمح للجمهور بالخروج تدريجيا، وتسبق القسم الثاني من الفيلم أي مع عودة الجمهور إلى قاعة العرض، مقدمة موسيقية خلابة على شاشة سوداء أيضا مع دقات طبول مميزة.
أما الفيلم نفسه وكيف جاء استقباله بعد استعادته كاملا في نسخة شديدة النقاء، فهو موضوع آخر.