“كوربوس كريستي”: رحلة هروب من الدنيوي إلى الديني
فيلم “كوربوس كريستي” Corpus Cristi الذي شاهدته مؤخرا في مهرجان روتردام السينمائي، كان مرشحا ضمن خمسة أفلام لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، هو فيلم جديد في موضوعه، رغم أنه مقتبس عن واقعة حقيقية.
يبدو “كوربوس كريستي” للوهلة الأولى، كما لو كان فيلما دينيا، يبحث فيه بطله الشاب المعذب بماضيه، عن اليقين، لكنه ليس كذلك بالطبع، وإلا لكان مثل أفلام أخرى كثيرة تناولت هذا الموضوع. إنه يتناول على صعيد واقعي تشوبه لمسة من السخرية والكوميديا، العلاقة بين السلطة الروحية والبشر، بين الحقيقي والزائف، وبين العنف ومحاولة التطهر من خلال تقديم ما يخدم الناس ويساعدهم على العيش في سلام. بل يمكن اعتباره أيضا انعكاسا لرغبة دفينة للوصول إلى “الانتماء”.
إنه بهذا المعنى، فيلم مربك، لأنه يجعل المشاهد يطرح الكثير من الأسئلة التي لا يجيب عنها، كما أن مساره الدرامي والتواءات حبكته، تنتقل بالمتفرج من البحث في عمل يقوم على دراسة الشخصية، أي الشاب بطل الفيلم وكيف تسنح له فرصة القيام بدور ليس دوره، يوفر له الفرصة لكي يهرب من ماضيه بعد أن يرتدي ملابس ليست له، إلى التوقف أمام رحلة تبدو روحية لكنها لا تحقق لصاحبها “الخلاص”، ولا تحقق الخلاص لسكان البلدة التي يهبط عليها كما لو كان مسيحا. هذا الشاب يرتدي ملابس قس، يدعو للخير، ويريد أن يقيم العدل، لكنه في الحقيقة، واقع في الخطيئة حتى النخاع. لقد غادر “إصلاحية الأحداث” بعد أن قضى سنوات طويلة فيها، مارس خلالها العنف الذي يمكنه من البقاء “وسط الوحوش”، وعندما يغادرها بعد حصوله على العفو، لا يتحمل العمل في ورشة النجارة التي ألحقوه بها خشية أن يفتضح ماضيه الإجرامي فينال ما لا يشتهي.
إنها رحلة هروب من العالم السفلي الى العالم العلوي، الروحي، ولكن عن وعي وتصميم وقصدية، ولكنها رحلة لا تخلصه من الدنيوي، ولا تصل به إلى الاستكانة الروحية التي تحقق السلام الداخلي، فيظل معذبا، مستنفرا، يلجأ إلى العنف كلما وجد نفسه عرضة للخطر.
“كوربوس كريستي” عنوان الفيلم هو العيد الذي يحتفل فيه الكاثوليك بـ “العشاء الأخير”. وهو يرمز لحضور المسيح جسدا ودما وروحا، و) وهذا هو الفيلم الروائي الطويل الرابع لمخرجه البولندي “يان كوماسا” Jan Komasa (39 عاما (وله فيلمان تسجيليان). وقد نال “كوربوس كريستي” الكثير من الجوائز في عدد من المهرجانات السينمائية.
يقوم بدور البطولة بارتوش بيلينا، مجسدا شخصية “دانييل” الذي نراه في البداية وهو يتستر على مجموعة من زملائه في إصلاحية المراهقين، وهم يقومون بالاعتداء على أحد زملائهم في غياب الحراس. دانييل هذا قضى سنوات في الإصلاحية على جريمة قتل تورط فيها، لكننا لن نعرف عنها سوى بعد منتصف الفيلم. ورغم ميله للعنف إلا أنه يظهر ميلا كبيرا في الوقت نفسه، تجاه دروس الدين، يحفظ الآيات من الانجيل، ويحظى بمعاملة خاصة من جانب القس توماس في كنيسة الإصلاحية، فيجعله يقرأ للآخرين، ويسند إليه إنشاد التراتيل الكنسية لأنه يتمتع بصوت عذب.
لولا الماضي المشين لدانييل، لكان القس قد وافق على ترشيحه للالتحاق بخدمة الكنيسة. لكن عندما يحين موعد خروجه بموجب العفو، يغادر العاصمة الى قرية في أقاصي البلاد حيث يلتحق بالعمل في ورشة النجارة. ولكن سرعان ما يفر منها ويتجه نحو القرية، يدلف إلى الكنيسة حيث يلتقي بفتاة جذابة تدعى “مارتا” هي ابنة “ليديا” الشماسة أو خادمة الكنيسة التي ترعى أيضا قس القرية.
هل دانييل روح شاردة تريد العودة إلى الجوهر الروحي؟ وهل يرغب في تحقيق التطهر الروحي؟ لا يبدو الأمر كذلك فبمجرد خروجه من الإصلاحية يذهب مع جماعة من رفاقه الى ملهى ليلي، وهناك يتعاطى المخدرات ويغرق نفسه في الخمور، ثم يضاجع فتاة داخل دورة المياه. ولكنه يجد في نفسه الجرأة لأن يزعم لمارتا ووالدتها ليديا، أنه قس شاب وأنه يرغب في لقاء قس القرية. وهو ما يحدث بالفعل بعد أن يرتدي “الياقة” والقميص اللذين سرقهما من معلمه مرشده الروحي قس الإصلاحية بل ويقتبس اسمه “توماس” أيضا!
قس القرية العجوز مرهق تكالبت عليه الأمراض، وهو يقترح على دانييل أن يتخذ مكانه لفترة ما، ستطول، فيحل محله في القاء خطبة القداس وتلقي الاعتراف من الآخرين، وباقي الطقوس. في البداية ينظر البعض إليه بتوجس خاصة ليديا، بسبب شبابه وتهوره وطريقته الغريبة في التعامل مع الطقوس، فهو يبدأ القداس الأول باقتباس عبارات سمعها من قس الإصلاحية “أنا لن أردد الصلوات بطريقة آلية.. أنظروا الخارج.. يجب أن تخاطبوا الرب مباشرة”.
تدريجيا سيصبح دانييل أكثر اقناعا بل وأكثر جاذبية لدى أهل القرية، كإصلاحي مجدد، صاحب خطاب ديني حديث. رغم أنه يرتجل ويعتمد على قدراته التمثيلية من جهة، ومن جهة أخرى على رغبة خفية لديه، تدفعه للقيام بهذا الدور، دور القس الذي يهدي الناس، كما لو كان يتحدى حقيقته العنيفة. وهو سوف يساهم بطريقته الخاصة في رأب الصدع بين أهالي القرية الذي نتج عن وقوع حادث مروع راح ضحيته سبعة من الأهالي، وسوف يجد في نفسه القدرة على تحدى عمدة البلدة الفاسد، وكشف فساد الشرطة، وتعرية ضعف القس السابق وكشف تواطئه مع السلطة.
يسير السرد في خط صاعد، دون أن يصل الى ذروة بل يبقينا طوال الوقت في حالة من الترقب وانتظار ما سيحدث لهذا الشاب المحتال: هل سينكشف أمره وهل سيلقى مصيره، ولكن ماذا لو كان مخلصا، فهل هو مخلص فعلا، أم أنه يقوم بدوره عن وعي لكي يتمتع بتلك السلطة الروحية الهائلة؟
في الثلث الأخير من الفيلم يبدو سيناريو الفيلم كما لو كان قد فرغ من المفاجآت، أو أن الشخصية ستظل تدور حول نفسها، أي تبقى على تلك الحالة من “الغموض” بحيث يتأرجح دانييل نفسه بين الشك واليقين، بين النقاء والدنس، الدين والدنيا، السمو والشهوة. وربما يكون تطوير علاقة دانييل بالفتاة “مارتا” واستسلامه للإغواء وممارسة الجنس معها، متوقعا ومنتظرا بعد أن تم التمهيد له طويلا، ولكن هذا التقارب لا يتطور ولا يؤدي إلى شيء، وربما يبدو أيضا في غير موضوعه. وهناك بعض المبالغة في مشاهد الإثارة عند ظهور زميل سابق لدانييل في الإصلاحية، يتعرف عليه ويهدده ويبتزه مما يؤدي الى مواجهة عنيفة بينهما.
يعتمد الفيلم على “ميز أون سين” دقيق معبر، والصورة بشكل عام موظفة من ناحية الإضاءة والديكورات لخدمة الشخصيات وإبراز الجو العام الذي تدور فيه الأحداث، ولعلنا نلاحظ بشكل خاص، الانتقال من الإضاءة المربكة داخل الإصلاحية، الى الإضاءة الساطعة المتوهجة التي تعمي البصر داخل الملهى الليلي مع ايقاعات الموسيقى الصاخبة التي توحي بالجو البوهيمي، إلى الإضاءة الخافتة مع بعض الظلال حول الوجوه في القرية لتعكس أجواء التشكك والقلق. كما يستعيد المخرج من خلال التداعيات أو “الفلاش باك” في لقطات قصيرة تتكرر أكثر من مرة، حادث السيارة الذي أدى إلى وقوع شرخ وتشكك وانعدام ثقة بين سكان القرية.
ولعل ما يمنح الفيلم الكثير من قوته وتأثيره، المستوى البديع للتمثيل بشكل عام، وبراعة أداء بارتوش بيلينا لدور دانييل/ توماس. إنه يسيطر كما لو كان ساخرا، على المشاهد العديدة التي يظهر فيها وتكاد تشمل الفيلم كله، يعرف كيف يبدو مقنعا في دور الشاب العنيف، ثم شديد الاقناع في دور القس الممتلئ بالحيوية الدافقة، تلمح عشرات التعبيرات في وقت واحد، في عينيه النفاذتين اللتين تشعان بقسوة ورقة، بغموض وسحر وقوة وقدرة على التنويم والسيطرة. إنه دون شك، الاكتشاف الحقيقي لهذا الفيلم.