كرة الشوارع.. بين “الحرّيف” و “الحرّيفة”
د. ماهر عبد المحسن
لكرة القدم حضور لافت في السينما المصرية، فقد شاهدنا العديد من الأفلام التي دارت أحداثها حول لعبة كرة القدم، أو التي يمارس أبطالها اللعبة، ولعل من أبرز هذه الأفلام “الشياطين والكورة”، “٤-٢-٤”، “أونكل زيزو حبيبي، “رجل فقد عقله”، “العالمي”. غير أن أحداث هذه الأفلام كانت تتناول اللعبة كما تُمارس في الأندية، ولم يجرؤ على تناول اللعبة كما تُمارس في الشوارع سوى محمد خان عام 1983 في فيلم “الحرّيف” الذي كتب له القصة بشير الديك وقام ببطولته عادل إمام، وصناع فيلم “الحرّيفة بجزئيه”، الذي أخرج جزئه الأول رؤوف السيد في يناير ٢٠٢٤، وأخرج كريم سعد جزئه الثاني في ديسمبر من العام نفسه، وكتب له القصة إياد صالح، وقام ببطولته مجموعة من الشباب على رأسهم نور النبوي وأحمد غزي وخالد الذهبي وأحمد بحر الشهير بكزبرة.
وبهذا المعنى، لا يمكن للمشاهد أن يشاهد فيلم “الحرّيفة” دون أن يستدعي، ولو لا إراديا، فيلم “الحرّيف”، نظرا لتشابه الاسم من ناحية وتشابه الموضوع من ناحية أخرى، الأمر الذي يستدعي بدوره نوع من المقارنة بين الفيلمين. والحقيقة أن المقارنة تكشف عن أن المسألة تتجاوز مجرد التشابه في العنوان والموضوع، لتكشف عن أبعاد أخرى كثيرة تميز الفيلمين عن بعضهما البعض، وهي الأبعاد التي تعكس الرؤية الإخراجية والرسالة التي يُراد توصيلها للمشاهد. وكلها أمور من شأنها أن تجيب عن السؤال ذي الأهمية الخاصة: لماذا فشل “الحرّيف” جماهيريا ونجح “الحرّيفة”؟! كما يمكنها أن تجيب عن سؤال آخر لا يقل أهمية: لماذا عاش “الحرّيف” في وجدان الجماهير رغم فشله وقت عرضه وإلى أي مدى يمكن أن يستمر الحرّيفة”، بالمعنى نفسه، في وجدان الجماهير؟
يأتي فيلم “الحرّيف” ضمن مشروع كبير لمحمد خان يحاول من خلاله تقديم سينما جديدة تتجاوز السينما التي كانت سائدة في نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، وهي سينما يغلب عليها الطابع التجاري الجماهيري، وتمثلها أفلام عادل إمام الكوميدية الخفيفة التي تعتمد على الإفيه مثل “رجب فوق صفيح ساخن” و”شعبان تحت الصفر” و”المتسول”. ومن المعروف أن أفلام محمد خان تنتمي إلى سينما المؤلف التي تعتمد على أسلوبية خاصة تنزع إلى التوثيق المكاني من خلال كادرات تهتم بالتفاصيل الصغيرة لمواقع التصوير، وخان لديه رؤية سينمائية خاصة، وقضية تشغله يسعى للتعبير عنها من خلال هذه الرؤية. ولعل أبرز ما يمكنك أن تعثر عليه لدى سينما خان إنما هو اهتمامه بقضايا المهمشين من أبناء البلد ورصده لتفاصيل حياتهم اليومية التي تعكس همومهم ومعاناتهم أثناء صراعهم مع الحياة وبحثهم المضني عن الرزق. لذلك تجد أبطال أفلامه يعملون في مهن يدوية لا تكفل لهم حياة كريمة، كما شاهدنا في”أحلام هند وكامليا” و”فتاة المصنع” و ” الحرّيف”. السمة الأخرى التي تميز سينما محمد خان هي اهتمامه بالمدينة، وسط البلد تحديدا، يتضح ذلك منذ فيلمه الأول “ضربة شمس” (1987) مرورا بأفلام “الحريف” و “فارس المدينة ” و “مستر كاراتيه” و حتي “بنات وسط البلد” (٢٠٠٥).
الأمر يختلف مع مخرجي فيلمي “الحرّيفة” اللذين يخوضان تجربة الاخراج السينمائي للمرة الأولى، ولا تربطهما بموضوع الفيلم سوى روح الشباب، وللحق فإنها كانت كافية لإنجاح الفيلم وتحقيق إيرادات تجاوزت “الحرّيف” بمراحل، بالرغم من تاريخ مخرجه ونجومية بطله. فبطولة “الحرّيفة” كانت جماعية، بحيث كان الكل يؤدي بروح الفريق، والمصير كان مرتبطا بالكرة وبالملعب. بينما كان فارس بطل “الحرّيف” يحمل هم الجميع فوق كاهله، ربما كان الكل يعاني الشقاء نفسه، لكن كل واحد كان يعزف على لحنه الخاص، ولم يكن هناك من تضامن حقيقي بين الشخصيات عدا التعاطف الإنساني المشترك، الذي يجعلك ترى الفاجعة أمامك ولا تملك لها دفعا، فقط تبكي أو تدمع أو تردد عبارة، تحمل صرخة إدانة مكبوتة للمجتمع، كتلك التي أطلقها فارس في لحظة يأس مطلق “ملعون ابو الفقر”.
فارس شخصية مستلهمة من الواقع، وكما صرّح بشير الديك في أحد اللقاءات، كان له معادل موضوعي تمثل في شخصية “سعيد الحافي” لاعب الكرة الشراب بحي امبابة، بينما كانت شخصية ماجد بطل “الحرّيفة” مستلهمة من مسلسل الكرتون الشهير “كابتن ماجد” وهي شخصية تربى عليها الكثيرون من جيل الشباب، ومنهم المخرجان والمؤلف.
“الحرّيف” فيلم له مستويات متعددة للفهم، نفسية واجتماعية وفلسفية، بينما وقف “الحرّيفة” عند المستوى الاجتماعي فقط، فكانت عقدته منحصرة في التفاوت الطبقي بين ماجد القادم من مدرسة لغات وبين زملائه في المدرسة الحكومية التي انتقل إليها، وكان يكفي أن يجيد ماجد لعب الكرة حتى يندمج سريعا مع زملائه من أبناء الطبقة الأدنى وتذوب الفوارق بين الجميع. ربما كانت هذه معجزة الساحرة المستديرة، أن تحقق العدالة التي عجز عن تحقيقها المجتمع، لكن يظل التعاطف الإنساني سطحيا بحيث يقتصر على المشاركة في أعياد الميلاد وعيادة المريض وتسديد الديون. والمشكلات كلها يمكن أن تُحل من خلال مباريات الكرة، والشخصيات تتطور سريعا بحيث تتحول من الشر إلى الخير (شيشتاوي) ومن النذالة إلى الجدعنة (حتة) ومن اليأس إلى الأمل (ماجد) ما يجعل الأحداث تنتهي وكل الأزمات قد حُلت والجميع بات في نشوة وانتصار. لقد كان إياد صالح (المؤلف) واعيا بأهمية الأمل في حياة الشباب، خاصة أن جمهور الفيلم معظمه من الشباب، فلم تتجاوز قسوة الحياة عليهم أرض الملعب وصراع الكرة الذي كان يدور تحت الأضواء الكاشفة.
في المقابل، لم يستهدف بشير الديك، الكاتب المخضرم، في فيلم “الحرّيف” شريحة الشباب تحديدا، لكن الشريحة الأكبر سنا التي تجاوزت المراحل الدراسية ونزلت إلى معترك الحياة. وبهذا المعنى، خرج الصراع من ملاعب الكرة إلى ميدان الحياة، لتتحول مباريات فارس التي كان يلعبها في الشوارع تحت كباري وسط البلد، إلى رمزية فلسفية تعكس صراعا وجوديا من أجل البقاء. وفي هذا السياق، حرص السيناريو على تتبع حياة لاعبي الكرة الذين بلغوا سن الشيخوخة، مثل الكابتن مورو، وباتت حياتهم الفقيرة هي والعدم سواء. يؤكد ذلك انتقال اللعب لديهم من ساحات الكرة إلى جلسات المقاهي المطولة لتبديد الوقت في ألعاب الورق والدومينو.
النساء في “الحرّيفة” يبحثن عن الحب وإثبات الذات، ويقفن، داعمات، خلف الرجال. النساء في “الحرّيف” يبحثن عن لقمة العيش ويقفن وحدهن في عاصفة الحياة!
التواصل بين الأجيال سمة مشتركة بين الفيلمين، لكن النتيجة مختلفة. فابن فارس، الطفل الصغير، وقريبه الشاب القادم من الأقاليم، كلاهما يسيران على خطى فارس التي انتهت إلى إحباط كل أحلامه واتجاهه، أخيرا، للأعمال غير المشروعة. الابن في طريق الكرة، والقريب في ورشة الأحذية، الطريقان اللذان فشلا في تحقيق حياة آمنة لفارس، إنها دائرة اليأس نفسها التي تبدأ من حيث بدأ الضائعون!
وعلى العكس، يجد أبطال “الحرّيفة” الدعم من الأجيال السابقة الأكبر سنا، مدير المدرسة ومدرب الفريق في الجزء الأول، ورئيس الجامعة ورجال الأعمال في الجزء الثاني. والحقيقة أن الدعم لم يكن فقط على مستوى الخيال الفني وإنما كان على مستوى الواقع، فقد انضم إلى “الحرّيفة” عدد كبير من النجوم كضيوف شرف، بالإضافة إلى النجوم الكبار الذين شاركوا في العمل مثل نجم الكرة أحمد حسام، ونجم السينما آسر ياسين، ولاعب الكرة العالمي مايكل أوين. في حين لم يشارك عادل إمام في فيلم “الحرّيف” سوى نجوم الصف الثاني نجاح الموجي وعبد الله فرغلي وصبري عبد المنعم، ربما لأن عادل إمام كان فارسا للسينما المصرية في ذلك الوقت، وكان فارس هو نجم المهمشين في الفيلم. وفي كل الأحوال سقط أبطال “الحرّيف” كلهم في قاع المجتمع، كما سقط الفيلم نفسه في دور العرض، ولم يستطع فارس أو عادل إمام أن ينتشله من الضياع.
فشل فيلم “الحرّيف” لأنه غرد خارج السرب، وأراد أن ينفرد بلحن مميز بعيدا عن العزف النشاز الذي كان سائدا في عصره، فلم يسمعه أحد. ونجح “الحرّيفة” لأنه حافظ على إيقاع العصر عندما استفاد من روح الشباب ولغة الشباب، وقدم فكرة بسيطة يمكن أن تُدخل البهجة على المشاهدين دون أن تسبب لهم عسر هضم. وضح ذلك في الإيقاع السريع للأحداث واستخدام أغاني وموسيقى المهرجانات، بالإضافة لكادرات صريحة لا تجهد العقل ولا تحتاج إلى كثير من التأمل.
فشل فيلم “الحرّيف” بحكم الجمهور والإيرادات، لكنه نجح بحكم الزمن الذي أثبت أنه من أفضل أفلام السينما المصرية بفضل لغة خان البصرية وموسيقى هاني شنودة وأداء عادل إمام التراجيدي، الذي مثل تحديا لنفسه قبل جمهوره.
نجح فيلم “الحرّيفة” بحكم الجمهور والإيرادات، فماذا سيكون حكم الزمن عليه؟ ربما كان السؤال سابقا لأوانه، لكن حتما ستأتي الإجابة مع المستقبل. وإذا كان الجمهور قاسيا في حكمه، فإن الزمن لا يرحم!