كان السينمائي 2025 خيارات وإسقاطات: مغزى اختيار “رجل وامرأة” عنوانا للدورة الجديدة

اختار مهرجان “كان” السينمائي الاعلان الرسمي لدورته عام 2025 لقطة خالدة في تاريخ السينما الفرنسية، تعود إلى فيلم رجل وامرأة (Un Homme et une Femme) الذي أُنتِج عام 1966 للمخرج كلود ليلوش.

 إنّ هذا الاختيار لا يمكن النظر إليه كحدثٍ عابر، أو اعتباره محض صدفة جمالية، كما ولا يفترض أن يُترك دون محاولة تحليل وفهم؛ إذ لابدّ من التوقف عند دلالته، والتأمّل في مراميه. لماذا الآن يلجأ مهرجان بحجم “كان” إلى استحضار صورة حميمية من فيلم حفر في الذاكرة السينمائية والوجدانية لفرنسا والعالم؟ لماذا هذا الفيلم تحديدًا، الذي أُنتِج منذ ستة عقود.

ما الرسالة التي يسعى المهرجان إلى تمريرها من خلال استحضار هذه الذاكرة، وأيّ زمن يُعيد استدعاءه من أعماق الذاكرة الفرنسية؟ يبدو أن هذا الاختيار محكوم بمنطق دلالي عميق، إذ لا بدّ أن ننظر إلى السياق الذي أُنتج فيه هذا الفيلم للبحث في هذه الأسئلة.

في منتصف ستينيات القرن العشرين، كان العالم وأوروبا تحديدًا، على شفا تحوّلات سياسية واجتماعية عاصفة.

عاشت فرنسا حينها ازدواجية خانقة، من جهة رخاء اقتصادي في ظاهر المدن، ومن جهة أخرى، ضيق سياسي واجتماعي وفكري يزداد احتقانًا. السلطة، بقيادة الجنرال ديغول، بدت عاجزة عن استيعاب التحولات العميقة في بنية المجتمع، حيث نشأ جيل جديد متعطش للتحرر من قيم الطاعة والتراتبية التي ورثها عن حقبة الحرب والاستعمار.

على الصعيد الفكري، كانت أوروبا تعيش مخاضًا عميقًا من التحولات النقدية التي قوّضت دعائم الفكر التقليدي.  ترافقت هذه التحولات في فرنسا مع صعود البنيوية على يد مفكّرين أمثال ميشيل فوكو، رولان بارت، وجاك دريدا، الذين فتحوا أفقا جديدا للنقد الفلسفي عبر مساءلة الوجودية، تفكيك السرديات الكبرى، وطرح أسئلة جديدة حول مفاهيم السلطة والمعرفة والجسد.

في السينما، قلبت “الموجة الجديدة” كل القواعد: جان لوك غودار، فرانسوا تروفو، وأنييس فاردا قادوا ثورة فنية ترفض السينما المحافِظة وتُؤمن بالواقعية الفجّة واللغة البصرية الحرّة.

في هذا المناخ المشحون، جاء فيلم رجل وامرأة”، عملا يُشبه حلمًا هادئًا وسط بركان مقموع. فيلم يتحدث عن الحب، عن البساطة الإنسانية، عن لحظة صفاء في عالم بدأت تتكاثف حوله غيوم الغضب والتمرد. ليس من المصادفة أن يُنتج الفيلم قبيل سنتين فقط من ثورة مايو (العمالية، والطلّابيّة) 1968، وكأنه لحظة وداع لعالم يوشك أن ينهار تحت وطأة الشك الاجتماعي والرفض لكل ما هو قائم.

أتت ثورة مايو 1968 نتيجة تراكم إرهاصات عدة، غلاء المعيشة، قمع الحريات، تسلط السلطة الأبوية، أزمة الجامعة والتعليم، التفاوت الطبقي، والتوق الإنساني للانعتاق الفكري والاجتماعي.

حضرت السينما بكل قوتها التعبيرية في مخاض التغيير الاجتماعي والسياسي الذي شهدته فرنسا في أواخر الستينيات. ففي عام 1968، وبينما كانت الشوارع الفرنسية تغلي بالاحتجاجات الثورية التي اندلعت من رحم الحركة الطلابية والعمالية، اتخذ المخرجون الفرنسيون قرارًا تاريخيًا بمقاطعة مهرجان كان السينمائي، تضامنًا مع الحراك الثوري.

بوستر الدورة الجديدة
بوستر الدورة الجديدة

قاد هذه المقاطعة كل من جان لوك غودار، فرانسوا تروفو، وآنييس فاردا، الذين دعوا إلى إيقاف المهرجان في 18 مايو، رافضين الاحتفال الثقافي في وقت كانت الشوارع تعج بالمظاهرات. في تلك اللحظة، تم تعطيل العروض السينمائية بشكل كامل، وأُغلق المهرجان رسميًا في 19 مايو. أتى هذا القرار تعبيرًا عن تفاعل السينما مع التحولات الاجتماعية والسياسية، وأدى إلى تأسيس تظاهرة سينمائية مستقلة عام 1969 تُسمّى “أسبوعا المخرجين” “Quinzaine des Réalisateurs”  تُقام سنويا بالتوازي مع مهرجان كان والتي أصبحت حجر الزاوية في تحولات سينمائية عالمية مستقبلاً.

اليوم إذ يُعيد مهرجان كان السينمائي فيلم “رجل وامرأة” إلى الواجهة، فإن الأمر يتعدّى الاحتفاء بذكرى رومانسية أو حنين بصري، إنه استدعاء زمنٍ مشوبٍ بالانتظار القَلِق لما قبل العاصفة، رسالة مُشفّرة بأنّ فرنسا، كما كانت في 1966، تعيش لحظة احتقان صامتة، أزمة اجتماعية، تصدع سياسي، استقطاب ثقافي وفكري، قلق وجودي يتنامى تحت سطح الخطابات الرسمية. كأنما المهرجان يقول لنا: انتبهوا، إنّ العودة إلى صور الحب البسيط قد تكون تذكيرًا بأن البراكين تبدأ دائمًا بهدوء، وبأنّ السينما كما التاريخ تحفظ اللحظات التي تسبق الانفجار. فهل فرنسا حقًا على أعتاب ربيع جديد؟

إنّ هذا الاختيار استحضارٌ لحقبةٍ محورية تُمثل جوهر التحولات الثورية التي اجتاحت السينما الفرنسية في الستينيات، يُعيد إلى الذاكرة روح الموجة الجديدة التي تحدّت الأساليب التقليدية، مُعلنةً بداية مرحلة فنية جديدة. حيث قدم الفيلم تمردًا حقيقيًا على القواعد الكلاسيكية في السرد والتصوير، مُعتمدًا على العفوية والتلقائية في عرض العلاقة بين الرجل والمرأة، ليجسدها في صورتها الأكثر أصالة وبساطة، بعيدا عن التصوّرات التقليدية التي شوّهت المشاعر الإنسانيّة وأخضعتها لأنماط جمالية سائدة.

إن مهرجان كان ومن خلال احتفائه بفيلم “رجل وامرأة” يستعيد قيم التجديد الفني التي اجتاحت السينما الفرنسية، معلنةً إحياءً روح التمرّد التي شكّلت السينما في تلك الحقبة، يدعونا للتأمل العميق في تأثير الموجة الجديدة، التي غيرت وجه السينما وجعلت منها قوة تعبيرية عن الجمال والفكر بعيدًا عن قيود السوق والتقاليد.

 فيلم “رجل وامرأة” لا يتناول التحولات السياسية والاجتماعية بشكل مباشر، لكنّه في جوهره يعكس التغيرات العميقة التي عصفت بالمجتمع الفرنسي في الستينيات. من خلال تصوير العلاقة بين الرجل والمرأة، يُقدّم الفيلم نقدًا خفيًا للواقع الاجتماعي الذي كان يعج بالتحولات الوجودية، ويُعيد تشكيل مفهوم السينما كأداة نقدية قادرة على توثيق هذه التحولات، مؤكدًا دورها في التأثير على الوعي الجمعي وإعادة تشكيله وفق رؤى جديدة، بعيدة عن التصورات المألوفة.

الفيلم، بفرادة سرديته وتصويره يعكس التوتر بين الماضي والحاضر في فرنسا، ويطرح نقدًا عميقًا للطبيعة المتغيرة للمجتمع. وإحياء ذكراه يعيد ربط الفن بالواقع السياسي والاجتماعي، داعيًا إلى تأمل جديد في أسئلة الحرية والتغيير الاجتماعي، التي كانت محورًا أساسيًا في الوعي الفرنسي آنذاك، محرّضًّا على التفكير في التحديات الاجتماعية والسياسية التي نواجهها اليوم. 

نحن اليوم كما في ستينيات القرن الماضي نعيش زمن التحولات والصراعات التي تناولتها السينما آنذاك وأثارت أسئلة حولها، كيف نجد معنى في عالم مضطرب؟ وكيف يمكن للفن أن يظل أداة للتمرّد، وأن يأخذ دوره في التأثير النقدي على المجتمعات المعاصرة، مُعيدًا التأكيد على أهمية السينما كوسيلة لفهم الواقع وإعادة صياغة الوعي الاجتماعي في زمن التحولات العميقة. في “رجل وامرأة”، يعكس كلود ليلوش التفرد الفني للسينما الفرنسية، مُزاوجًا بين الرومانسية والواقعية بأسلوب مبتكر، ليكشف عن صراعات إنسانية بعيدة عن التوجهات السطحية التي كانت تهيمن على السينما العالمية في تلك الحقبة.

يظلّ مهرجان كان رغم تحوّلاته، في قلب حركة التغيير السينمائي، واختياره لصورة العناق بين العاشقين جان لوي وأنوك إيميه في فيلم “رجل وامرأة” يدفعنا لطرح سؤال وجودي ملحّ حول الحب، الخسارة، وإعادة بناء الذات.

هل يدعونا كان، إلى فهم أعمق لمعنى الانفتاح على الآخر في زمن يتسارع فيه الانغلاق والعدوانيّة؟ فيلم “رجل وامرأة”، الخارج عن قوالب الرومانسية التقليدية، يقدم الحب كرحلة تعافٍ بعد شقاء، كجسر يمتدّ فوق هاوية الفقد الشخصي. تبدأ علاقة جان وأنوك من حاجتهما العميقة للانعتاق من جراح الماضي، وإعادة بناء ذواتهما المفككة عبر التلاقي والاعتراف والفهم المتبادل. الحب هنا مواجهة ناضجة مع آثار الخسارة، يعيد بناء الروابط الإنسانية على أسس من الثقة والإرادة الحرة.

من خلال هذه العلاقة، يشير الفيلم إلى ضرورة الانفتاح على الآخر كخطوة أساسية لاكتشاف الذات في مرآته. وهي دعوة تتجلى بشكل أكبر في عالمنا اليوم، الذي يغرق في كراهية متزايدة، اقتتال مستمر وصراع بلا أفق. في وقت يغيب فيه الحوار بين البشر، يصبح التلاقي هو الطريق الوحيد الممكن لبناء جسور من الفهم والاحترام المتبادل، وإعادة صياغة العلاقات الإنسانية في ظل العنف والتشظي.

لماذا اختار مهرجان كان، من بين كل اللقطات السينمائية في فيلم “رجل وامرأة”، هذه اللقطة بالذات لتكون البوستر الرسمي له؟

تحمل الصورة المختارة دلالات أبعد من ظاهرها، فعلى شاطئ دوفيل يتعانق رجل وامرأة – نواة المجتمع وأوّل مؤسسة فيه – وكأنّ عناقهما تعبير عن إرادة قويّة لمقاومة التشظي الداخلي والخارجي. الشاطئ الذي يفصل بين صلابة اليابسة بما تحمله من ماض ثابت وصراعات وبُنى متآكلة، وبين سيولة البحر، مستقبلٌ مفتوح على احتمالات مجهولة، يتحول إلى حدّ فاصل بين الماضي والمستقبل مساحة بينية يقف عليها العاشقان إذ لا يغرقان في الثبات ولا يندفعان نحو المجهول. فالأمر يقتضي خيارًا إراديًا، مقامرة أخلاقية للانتماء مجددًا إلى عالم مضطرب.

الصورة في دلالتها، لا تُغلق على مشهد مكتمل أو وعد قاطع بمستقبل أفضل، بل تظل مشبعة بسؤال مفتوح عن الزمن الثاني: هل يسمح الزمن المثقل بالندوب بتكرار المحاولة؟ هل ثمة مجال لإعادة خلق الذات؟ تتوقف السينما هنا عن سرد الحكاية لتفتح فضاءً تأمليًا، تجعل من المشاهد طرفًا في استكمال السؤال، لا في تلقي إجابة جاهزة.

وسط هذا الاستفسار، يغدو العناق إعادة لبناء العلاقة بين الرجل والمرأة على أسس من الحب الناضج، الشراكة الحرة، ويصبح الوعي بالآخر ضرورة لإعادة لحمة المجتمع ذاته.

إن اللقاء بين هذين الشخصيتين الخارجتين من تجارب الخسارة، يعبر عن نموذج مصغر لإمكانية إعادة ترميم العالم من الداخل، من الذات إلى الأسرة، ومن الأسرة إلى المجتمع، وفي ذلك، تصبح كل علاقة إنسانيّة مبنية على التفاهم عملاً من أعمال المقاومة ضد الانهيار، وكل محاولة للتماسك فعل إيمان بالمستقبل.

إنّ اختيار مهرجان كان لهذه اللقطة هو استحضار لروح زمن ضجّ بالتمرّد والتغيير في شتّى المجالات، فهل يستضيف المهرجان هذا العام أفلامًا تحمل النبض ذاته؟ تعيد إحياء قلق الإنسان وأسئلته في زمن التحوّلات؟ إنّ صدقَ مهرجان كان بتبنيه جوهر تلك اللقطة لا يكتمل إلا بمواصلة احتضان سينما لا تخشى الانحياز للحقيقة.