قنبلة على متن قطار الطلقة.. كارثة على محك الأخلاق والسياسة

د. ماهر عبد المحسن
قنبلة على متن قطار الطلقة Bullet Train Explosion، فيلم ياباني، عُرض على منصة نيتفلكس في ٢٣ أبريل ٢٠٢٥، أخرجه شينجي هيجوتشي، وقام ببطولته تسويوشي كوساناجي وكاناتا هوسودا وهانا تويوشيما. وهو بمثابة الجزء الثاني لفيلم قطار الرصاصة bullet train الذي أخرجه جونيا ساتو عام 1975. غير أن المشاهد العربي ربما لا يعلق بذاكرته الفيلم الياباني الأول قدر ما يتذكر الفيلم الأمريكي الشهير “سرعة” Speed الذي أخرجه جان دي بونت عام ١٩٩٤، مستلهما فكرته من الفيلم الياباني، وقام بالبطولة كيانو ريفز وسندرا بولوك ودينيس هوبر.
وبهذا المعنى، ربما كانت المقارنة بين الفيلمين، الأمريكي والياباني، هي الأجدر بالاهتمام خاصة أنها تكشف لنا عن السمات التي تميز التفكير السينمائي الأمريكي حين يتعامل مع الكوارث، وتلك التي تميز التفكير السينمائي الياباني عندما يتعامل مع كوارث شبيهة. فالأحداث في الفيلمين تدور حول فكرة واحدة، وهي وجود قنبلة يضعها إرهابي في حافلة، في الفيلم الأمريكي، وفي قطار، في الفيلم الياباني، ولا تنفجر إلا إذا انخفضت السرعة عن حد معين، ما يعني أن تستمر الحافلة أو القطار في الانطلاق دون توقف مع ما يصاحب ذلك من تعريض حياة الركاب إلى خطر الموت. وفي كلتا الحالتين يدور صراع مشوق ومثير بين الإرهابي والسلطات التي تعمل جاهدة على إبطال القنبلة وإنقاذ أرواح الركاب، في الوقت المناسب ، دون استجابة لمطالب الإرهابي، التي هي دائما مبلغ كبير من المال.
وأول ما يمكن ملاحظته في هذه المقارنة أن البطولة الفردية هي السمة الغالبة على فيلم “سرعة”، وأن روح العمل الجماعي هي التي تهيمن على أحداث فيلم “قنبلة على متن قطار الطلقة”. وفكرة البطل الفرد، الذي يملك قدرات غير عادية في معظم الأحيان، ويقع على عاتقه وحده التصدي للكارثة وإنقاذ الرهائن، هي الفكرة التي تعكس رؤية ذاتية نرجسية لأمريكا نفسها حين تمنح نفسها الحق في التدخل في شؤون الدول الأخرى، وكأنهم رهائن يعجزون عن حل أزماتهم بأنفسهم وينتظرون البطل الأمريكي المخلّص الذي يملك كل الحلول!

يتضح ذلك من المشهد الاستهلالي، المثير، لظهور الشرطي جاك ترافن (كيانو ريفز) في بداية الفيلم وهو في طريقه لإنقاذ مجموعة من الرهائن المحتجزين داخل مصعد كبير، مزروع فيه قنبلة، في ناطحة سحاب ضخمة. كما يتأكد المعني نفسه للبطولة الفردية من خلال تصرفات جاك طوال أحداث الفيلم، وكلها تصرفات عشوائية، فيها من الجرأة أكثر مما فيها من التفكير والتنظيم، وقد عبّرت إحدى الشخصيات عن هذا المعنى عندما وصفت الشرطي المغامر بأن لديه الكثير من الجرأة والقليل من الذكاء. والحقيقة أن قرارات جاك المصيرية في المواقف الحاسمة تعكس هذه البنية المركبة من الشخصية، التي جعلته يعمد إلى إطلاق النار على صديقه الشرطي في سبيل القبض على الإرهابي، وأن يطلب من آني بورتر (سندرا بولوك) أن تقفز بالحافلة مسافة ١٥ مترا حتى تجتاز فجوة عميقة تعترض طريقها، وهو ما عرّض الجميع لأن يفقدوا أرواحهم بنحو أكثر كارثية من انفجار القنبلة!
على الجانب الآخر يستهل فيلم “قنبلة على متن قطار الطلقة” مشاهده باستعراض لعناصر النظام والدقة التامّين اللذين يسيطران على تفاصيل العمل في واحدة من شركات السكك الحديدية اليابانية، كما تعكس صورة القطار المنطلق كالطلقة صورة اليابان عن نفسها التي تصدرها للعالم كبلد متفوق في مضمار الاختراع والتكنولوجيا.
تبدأ البطولة الجماعية منذ اكتشاف وجود القنبلة على متن القطار، فهناك فريق عمل في غرفة عمليات بشركة السكك الحديدية، وهناك طاقم على متن القطار يعمل كفريق لإدارة الأزمة من خلال التواصل مع غرفة العمليات. الأزمة تحولت إلى قضية عامة في الفيلم الياباني من خلال راكب شاب يعمل كيوتيوبر، ينجح في تصوير مشاهد الفزع على وجوه الضحايا وينشرها على صفحته لكسب تعاطف الجماهير وجلب مبلغ الفدية من خلالهم. القضية العامة يتم ترجمتها إلى صراع مؤسسي موضوعي بين الحكومة والزمن من أجل إنقاذ أرواح الأبرياء بعد أن أعلنت الحكومة اليابانية على الهواء أنها لا تتفاوض مع الإرهابيين وأن سلامة الركاب هي مسؤوليتهم.
بينما الأزمة في الفيلم الأمريكي تقوم على صراع شخصي بين الشرطي جاك والإرهابي خبير المتفجرات هاورد باين (دينيس هوبر)، وهو صراع أشبه بالمغامرة غير محسوبة العواقب، يقوم بها الطرفان من أجل إثبات تفوق أحدهما على الآخر، بالرغم من أن الشرطي المغامر يتصرف، في الظاهر، بدافع من الرغبة في إنقاذ الرهائن المحتجزين في الحافلة، والإرهابي يتصرف بنحو يبدو ظاهريا من أجل الحصول على المال، لكن ذلك لا يمنع أن كليهما كان لديه وازع خفي لتحقيق النصر على الآخر. يؤكد ذلك ما قاله الشرطي جاك لرفيقته آني، في رحلة الموت، أنه بعد انتهاء هذه الأزمة سيواصلان، هو والإرهابي، الصراع بعد الدخول في لعبة جديدة!
الإرهابي في النسخة الأمريكية كان سفاحا ساديا، متعطشا للدماء، حريصا على الحفاظ على حياته، ميالا لإيذاء الآخرين. الإرهابي في النسخة اليابانية خلاف ذلك تماما، لأنه كان ضحية لإرهابي حقيقي استطاع أن يسيطر عليه ويدفعه لتنفيذ أهدافه الشريرة، كما كان ضحية لأمراض المجتمع التي جعلته فريسة سهلة للإرهابي الحقيقي، الذي كان يتصرف في الخفاء بوعي وإرادة منفردين.
الإرهابي الأمريكي كان لديه رؤية شريرة عن العالم الذي كان يرغب في تدميره لذلك استحق الموت على يد الشرطي الذي كان من مهامه مطاردة الأشرار وتخليص المجتمع منهم. لكن الإرهابي الياباني، الذي كان لديه أيضا رؤية شريرة عن العالم، استحق التعاطف من طاقم القطار والركاب بعد اكتشاف أمره، لأنه وضع حياته رهن إشارتهم من أجل إبطال القنبلة وإنقاذ القطار، كما استحق إعادة التأهيل في نهاية الفيلم. فقد كان يصف أفراد المجتمع بأنهم مزيفون، لا يستحقون الحياة، وقد تبين له في النهاية بطلان نظرته للمجتمع بعد أن أدرك أن المواطنين نجحوا في جمع مبلغ الفدية من تبرعاتهم الخاصة.
المحاولات الكثيرة التي قام بها جاك من أجل إنقاذ الحافلة باءت بالفشل، لأنها كانت فردية عشوائية، ينقصها الجماعية والتنظيم. ونجحت المحاولات اليابانية لأنها كانت مدروسة بعناية وفق خطة جماعية محكمة أتت في سياق التزام تام بالأدوار من قبل الجميع.

الصراع مع الإرهابي في فيلم “سرعة” استمر حتى الدقائق الأخيرة من الفيلم، بينما لم يستمر الصراع طويلا في الفيلم الياباني وتم القبض على الإرهابي مبكرا، قبل النهاية بكثير، لأن الصراع كان مع الأزمة نفسها وليس مع الشخص.
التشويق والإثارة كانا هما العنصران المشتركان في الفيلمين، لكن عين المخرج جان دي بونت كانت على شباك التذاكر، لذلك لم يهتم بتضمين فيلمه أي رسائل أخلاقية أو سياسية، مثل الفيلم الياباني، عدا فكرة البطل المخلص التي تسربت قطعا إلى سيناريو الفيلم بطريقة غير واعية بحكم التقاليد الثقافية الأمريكية. في المقابل وضح البعدان السياسي والأخلاقي في النسخة اليابانية، الأول في موقف الحكومة من التعامل مع الإرهابيين، والثاني في التعامل مع الإرهابي كمريض اجتماعي يستحق إعادة التأهيل. كما يمكنك أن تلحظ التقاليد الأخلاقية اليابانية التي جعلت مسؤولي الحكومة ومسؤولي الشركة يقدمون التحية قبل الكلام وبعده عن طريق الانحاء للآخرين، في صورة بديعة يندر أن تجدها لدى المسؤولين وأصحاب السلطة في غير اليابان.

ربما لهذه الأسباب تجد الفيلم الياباني مفرطا في الجدية، يخلو من الدعابة والبعد الترفيهي، بينما يحتوي الفيلم الأمريكي على الدعابة، الجنسية بخاصة، في أكثر من موضع. ينتهي الفيلم الياباني بعبارة صارمة يرددها مسؤول شركة السكك الحديدية بأن عليهم مواصلة العمل حتى تعود القطارات للانتظام في مواعيدها في اليوم التالي، ويبدأ الجميع في التحرك في لقطة عامة تضم عمال الشركة بستراتهم الصفراء وخوذاتهم المميزة، بينما ينتهي الفيلم الأمريكي بلقطة رومانسية طويلة، تحمل إيماءة جنسية، بين بطلي الفيلم. ومن خلال لقطة عامة يتحرك الناس بعشوائية، كلٌ حسب وجهته، في إشارة إلى عودة الحياة إلى الشارع، والأمان إلى المواطنين.
الفيلمان يستحقان المشاهدة، رغم اختلاف الخلفيات الفكرية والثقافية لصنّاع كل عمل، لأنهما نجحا بصريا في تقديم صورة سينمائية مثيرة ومشوقة للمشاهدين الباحثين عن متعة المشاهدة.
v