!قط وفار”.. عندما يلعب الشعب مع السلطة”
يمثل الفيلم الكوميدى “قط وفار” الذى بدأ عرضه ضمن أول مواسم السينما المصرية السينمائية للعام 2015، عودة جيدة لكاتب السيناريو المعروف وحيد حامد، حيث يقدم هنا كوميديا الموقف ببراعة، مستلهما قصة كتبها عبد الرحمن فهمى، ولكن دون أن يترك حامد إحدى أشهر أفكاره التى قدم حولها تنويعات كثيرة فى أفلامه، أعنى بذلك لعبة القط والفار المستمرة بين الشعب/ المواطن العادى، والسلطة التى تحكمه.
لدينا نماذج سابقة كتبها وحيد حامد تتأرجح بين جدية فيلم “الغول” الذى ينتهى بقتل رمز السلطة الراسمالية المتوحشة بطريقة تسقط بوضوح على حادث قتل الرئيس السادات (رمز السلطة السياسية)، وبين كوميديا “الإرهاب والكباب” السوداء التى تنتهى بتواطؤ البطل مع الشعب الذى ينتمى إليه، وخروجهم معا من المجمع تحت نظر ممثل السلطة (كمال الشناوى فى دور وزير الداخلية)، وكان بطلنا (عادل إمام بطل فيلم الغول هو نفسه بطل الإرهاب والكباب) قد نجح فى أن يقود شعب المجمّع لكى يهتف بعبارة أصبحت شهيرة ومبشرة بثورة جياع تقول: “الكباب الكباب .. ولا نخللى عيشتكو هباب”.
فى “قط وفار” تأخذ التنويعة فرصة جديدة للإنطلاق، بل إنها تقترب هنا من حكايات الكوميكس، يترجم ذلك المخرج تامر محسن فى فيلمه الروائى الطويل الأول بصريا بتقسيم الشاشة بين بطل الفيلم الشاب حمادة الفار (محمد فراج)، ووزير الداخلية عباس القط (محمود حميدة)، ولكنه ليس تقسيما متكافئا، وإنما يبدوان معا كجزء من رسوم قصة مصورة، ولحسن الحظ توقف المخرج عند مشاهد قليلة استخدم فيها هذا الأسلوب، بعد أن وصل المعنى المقصود.
من عصر مبارك
لكن الفيلم يربط حكايته بعصر مبارك تحديدا ، حيث تظهر صورته لتدل على زمن الأحداث، ولا يعنى ذلك أن اللعبة انتهت، أو أنها لا يمكن أن تتكرر فى عصر ما بعد مبارك، وإنما أعتقد أن الإختيار يستهدف تقديم اللعبة فى حالة نموذجية، فقد شهدت سنوات مبارك الأخيرة ذروة غير مسبوقة من استغلال النفوذ والسلطة، كما شهدت بالمقابل تحايلات شعبية فى مواجهة ذلك، كنا تقريبا أمام حالة من العصيان المدنى المستتر، الحكومة تنهب وتترك الفتات فى صورة مرتبات، بينما الناس لا تعمل أصلا، ثم تطور الأمر الى احتجاجات، فثورة شاملة.
اختار وحيد حامد يوما واحدا هو عيد الحب لكى يقدم من خلاله معظم مشاهد فيلمه، وقدم اللعبة الدرامية التى يتقنها بامتياز، إذ يبدأ عادة من الدائرة الخاصة جدا، ثم يوسع الدائرة بذكاء لتجد أن ما هو خاص يقودك الى العام جدا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، يمكن أن تلاحظ ذلك فى أفلام كثيرة سابقة له ، تبدأ مثلا من حدث بسيط جدا (فقدان مدرس لتلميذة كانت فى رحلة مع الفصل الى حديقة الحيوان كما فى فيلم “آخر الرجال المحترمين”)، لتجد نفسك فى النهاية أمام القضية الأعمق المقصودة والخطيرة ( وزن وثمن الإنسان فى المجتمع المصرى).
مشكلة حمادة الفار بطلنا الشاب خاصة ومزدوجة: إنه يعانى من تسابق رجال الحارة على حب والدته (سوسن بدر فى دور مميز رغم مشاهدها القليلة)، هى تقريبا تبدل أزواجها كما تبدل ملابسها، وهناك مشكلة أخرى هى أن حمادة شاب خجول للغاية، وغير قادر على مفاتحة زميلته فى العمل بأنه يحبها.
أما مشكلة الوزير عباس القط فهى أيضا خاصة: إنه متوتر بسبب ترتيبات حفل خطوبة ابنته فى قصره الفاخر، اختار عيد الحب للمناسبة التى دعا إليها كبار المسؤولين، وهو يخشى أن يتسلل أحد ويلتقط صورة تفسد صفاء المناسبة، ربما يراوده أيضا بعض القلق بسبب زوجة عصبية ومتعالية تلعب دورها سوزان نجم الدين.
خطان متوازيان يمثلان الشعب والسلطة، ثم يمد كاتب السيناريو المحترف الجسور فنكتشف أن الخطوط متقاطعة منذ البداية، ولكن السلطة شطرت الطرفين، سنكتشف أن والدة حمادة هى ابنة عم وزير الداخلية عباس القط شخصيا، بل إنها كانت مربية ابنته المدللة التى ستتم خطبتها، ولأن الابنة تريد زغرودة تلون فرحتها، تقوم أمها المتعالية باستدعاء والدة حمادة لإشاعة البهجة والسعادة.
عندما تموت والدة حمادة وهى ترقص فى قصر قريبها ممثل السلطة، لا تتعقد الخيوط فحسب، بل يطلق الفيلم صافرة بداية اللعب بين الشعب والسلطة، ويكون التصرف الأول هو أن يقوم ممثل السلطة باستدعاء حمادة من عمله الهامشى فى جريدة “الأهرام” فى مجال الخدمات المعاونة، وتسليمه جثة أمه التى كادت أن تفسد فرحا فخما وأنيقا تحضره كل عناصر السلطة.
ورطة معقدة
الى هنا كان يمكن أن ينتهى الفيلم، فالسلطة لا تستدعى الشعب إلا إذا احتاجته، فإذا أصبح عبئا عليها تخلصت منه فورا، لكن رئيس مجلس إدارة المؤسسة الصحفية التى يعمل بها حمادة يحاول نفاق ومجاملة وزير الداخلية، بعد أن عرف صلة القرابة بينه وبين حمادة، فيسرب رئيس مجلس الإدارة خبر وفاة ابنة عم الوزير الذى كان يريد إكمال الفرح بدون إزعاج، المشكلة أن هناك أنباء عن تغييرات وزارية قادمة، وبالتالى سيكون أمرا ضارا أن يتجاهل الوزير نبأ وفاة قريبته بعد أن عرفه كبار المسؤولين.
بناء على نصيحة رئيس تحرير جريدة معارضة يسيطر عليها الوزير، تتغير خطة رجل السلطة جذريا، يتم أولا تأجيل الفرح، ثم يذهب الوزير بنفسه وبحاشيته لاستراداد جثة أم حمادة، وإعادتها الى القصر، لتشييعها فى موكب مهيب.
تذكرت السلطة الشعب من جديد، الدائرة تتسع تدريجيا لنكتشف أن عباس القط نفسه كان يعيش فى حي الخليفة الشعبي بالقاهرة، الذي يقيم فيه حمادة، رجل السلطة نفسه لم يكن سوى مواطنا عاديا بسيطا، ولكنه لم يعد “الواد عباس” كما تناديه عجوز بسيطة تعرفه، ولكنه أصبح يتحرك بموكب، ويحيط به الجنرالات، حتى رنة تليفونه هى نغمة فيلم الكاوبوى السباجيتى الشهير “الطيب والشرس والقبيح”، يعود عباس الى الناس لكى يستخدمهم كوسيلة للبقاء فى السلطة.
يعاد ترتيب رقعة الشطرنج من جديد: يشترون بدلة جديدة لحمادة لكى يتقبل عزاء أمه بجوار الوزير، يعاين الوزير مقابر أسرة حمادة، وعندما لا يجدها ملائمة، يقرر اختيار مقابر جديدة مناسبة، تقوم زوجة الوزير بتعليم حمادة قواعد البروتوكول فى تحية كبار المسؤولين.
لا تحسب السلطة أن ألاعيبها ستواجه بوعى مضاد يبدأ تدريجيا فى الحارة، عشاق الأم المتوفاة يصرون على أن تكون جنازتها فى الحارة، حمادة نفسه يكتشف أن الوزير الذى لم يهتم بالأم وهى حية، يريد أن يستغلها كجثة، يصبح اللعب على المكشوف، الابن يلجأ الى القانون الذى يعطيه الحق فى دفن أمه بالطريقة التى يراها، والوزير يلقى بكتب القانون على الأرض، ولكن إصرار الابن يدفع أسرة الوزير الى اقتراح لعبة بديلة، حل وسط بين الشعب والسلطة.
ستتم الاستعانة بجثة مجهولة لتكون فى النعش، لا أحد سيتحقق من هوية الجثة، وبعد أن يتم العزاء الذى يشارك فيه حمادة، سيتسلم الابن جثة الأم من المستشفى، يوافق حمادة ، ولكن بعد أن يكون قد دبر أمرا، سيؤدى ذلك الى فضيحة الوزير أمام كبار المسؤولين، الفأر سيكسب معركته مع القط، وسيقتحم أهل الحارة قصر الوزير. وبعد سنوات خمس، وفى عيد الحب أيضا، سيحتفل حمادة بزيارة مقبرة أمه، يضع وردة حمراء، نكتشف أنه تزوج حبيبته، وأنجب منها ابنة يحيط بها العشاق من الأطفال.
السهل الممتنع
لا أحد يبارى وحيد حامد فى مجال الدراما الإجتماعية والسياسية، سهولته ممتنعة، كما شرحت فإنه بارع فى صنع جديلة يختلط فيها الخاص (طرفان يحتفلان بعيد الحب)، تتسع الدائرة لتكون أكثر عمومية عندما يصبح واضحا أن حمادة يمثل قطاعا واسعا من قاعدة الهرم، بينما يمثل عباس قطاعا يجلس فوق قمة الهرم، ثم يبدو المعنى أكثر عمقا عندما يستهلك أهل السلطة والدة حمادة أثناء حياتها وبعد موتها وتحولها الى جثة، ونصل الى قلب الفكرة الخطيرة عندما يكتشف الضعفاء والمهمشون أنهم أقوياء لو اجتمعوا، الغلابة يستطيعون أيقاف تلاعب السلطة بهم لو أرادوا، هم أقوياء جدا ولكنهم لايعلمون.
تغلف هذه الأفكار مواقف كوميدية نسجت ببراعة منها مثلا حيرة الخدم لأن الوزير لم يستقر بعد هل يستمر الفرح أم يتحول الى مناسبة للعزاء، فلا يجدون مفرا من أن تتجاور كؤوس “الشربات” الحمراء بجوار فناجين القهوة السوداء، ومنها قيام الوزير وزوجته بتفقد حالة مقابر أسرة حمادة (وهى ايضا مقابر أسرة الوزير القديمة) وسط عدد من الرجال المخدرين، ومنها مشهد رئيس الحى الذى يحتفل بسهرة حمراء مع عاهرة، يكلمه الوزير تليفونيا عن حاجته الى مقبرة جديدة نظيفة ومتسعة، فتعتقد العاهرة أنه يقصدها، ومثل مشهد تلك العجوز التى تنادى عباس باسمه مجردا فى الحارة، ثم تطلب منه أن يحضر لها عدة أرغفة من الخبز.
قدرة وحيد حامد أقوى بالطبع فى التعبير عن الطبقات الشعبية، بينما يلجأ الى الكليشيهات عند رسم شخصيات الأثرياء مثل نموذج الفناة المدللة الثرية، وأمها المتعالية، ومرة أخرى يكاد يقدم حامد تنويعات لا تنتهى فى أفلامه على تيمة المنسيين فى مواجهة الكبار، هنا أيضا تنويعة جديدة مدهشة وجيدة، ربما يعمق الفكرة أكثر أن الوزير كان أصلا من المنسيين، ثم ارتدى قناع السلطة.
عن الاخراج
قدم تامر محسن إيقاعا سريعا مناسبا وشديد الحيوية، وأدار بشكل جيد كل المواقف الضاحكة، العناصر الفنية عموما كانت جيدة (تصوير فيكتور كريدى، موسيقى محمد مدحت، مونتاج وائل فرج، ملابس ناهد نصر الله، ديكور على حسام)، محمود حميدة كان أفضل الممثلين، قدم دور وزير الداخلية بصورة مختلفة وبلمسات خاصة، لم استوعب لماذا أصر الموهوب محمد فراج على تقليد جيرى لويس فى دور حمادة الفار؟ كان الدور فى حاجة الى الكثير من البساطة وليس التقليد، حمادة ليس عبيطا أو مغفلا كما كان يبدو جيرى لويس، بطلنا الشاب كائن خجول وغير اجتماعى ومنطو ويعانى من كثرة زيجات أمه فحسب، سوزان نجم الدين أفلتت منها أخطاء في اللهجة المصرية فى كثير من المواقف، بينما كانت سوسن بدر راسخة كالمعتاد، فى مشهد مؤثر تشرح لابنها سر تعدد زيجاتها، تزوره كشبح بعد وفاتها، هذه العلاقة منحت البسطاء بعدا إنسانيا جميلا لا نجد مثيله عند الأغنياء أو أهل السلطة.
فى فيلم “طيور الظلام” الذى كتبه وحيد حامد، يقول عادل إمام متأملا:” البلد دى اللى يشوفها من فوق غير اللى يشوفها من تحت”، وفيلم “قط وفار” رغم هزله وسخريته ليس فى جوهره إلا صورة للبلد من فوق، وللبلد من تحت، وتظل دوما لعبة القط والفار مستمرة بين أهل القمة وأهل القاع، ليس هناك ما يعبر عن ذلك أفضل من تعليق لآحد سكان الحارة عندما قال إنهم لو حضروا العزاء فى قصر الوزير، فلن يعود نصفهم الى منازلهم، ولكن الغلابة قادرون، مثلما شاهدنا فى فيلم “آى آى” ومثلما شاهدنا فى “قط وفار”، على انتزاع جنازة رسمية فخمة بالحيلة والذكاء، قادرون جدا لو أرادوا، بل إنهم يستطيعون أن يحولوا عيد الحب أحيانا الى عيد للإنتصار!