قراءة في الإنجاز النقدي للناقد السينمائي عدنان مدانات
مهمة صعبة تواجه من يدرس السينما ويصنعها أو من يدرس النقد ويكتبه، وهي اولا كيف يتعلم هو نفسه أن يقرأ الفيلم الفني ليسهّل قراءته لمن بشاهده أيضا. فالمشاهد هو، دون شك، الطرف الحاسم في أي نوع سينما تُصنع، ليقبل على مشاهدتها، وأي نوع سينما تُصنع، ليدير لها ظهره.
من هنا ينشأ التناقض الحاد بين ما يريده الإنتاج السلعي، وما يريده الفن الثقافي. الأول يرتهن لجمهور لا يريد من السينما سوى الترفيه، والثاني يسعى ليرتقي بمستوى حاجات الجمهور الجمالية. في هذه المعادلة العسيرة يمكن، ويجب، أن يلعب النقد دوره في إقامة علاقة صحية مع المشاهدين، ليساعدهم على تذوق العمل الفني وعلى تدريب حاستهم النقدية.
لهذا حاولنا هنا أن نعود إلى إعادة قراءة لأغلب ما ألف الناقد عدنان مدانات وترجم حول السينما، علّنا نكتشف المسألة المركزية، التي كانت تشغله، والتي لم تكن ترى في الفيلم مادة فنية للمشاهدة المُمتعة وللتسلية فقط، إنما تراه مادة للتفكير أيضاً، مادة تدفعه للبحث تدريجيا في جوهر آلية تأثير الفيلم على الجمهور، دون أن يغفل في بحثه أيضا المعادل المقابل لها: أي آلية الاستقبال عند الجمهور نفسه.
أضاف الناقد عدنان مدانات إلى المكتبة الأدبية السينمائية كتبا مؤلفة ومترجمة، نظرية ونقدية هامة، بدأها في كتابه الأول “بحثا عن السينما” (1975)، الذي طرح فيه تساؤلات حول السينما وفهمها وحول النقد وفهمه وقدم فيه نماذج نقدية لبعض الأفلام الفنية الصعبة، كتجارب تطبيقية تقوم على أساس من علاقة الناقد بجمهوره مثل “صراخ وهمسات” لانغمار يرغمان، واحتوى فصله الثالث على موضوع أطروحته الجامعية حول الفيلم التسجيلي، التي شكلت قيمة نظرية استثنائية، خصوصا وأنها تناولت في البحث منهج الفيلم التسجيلي وتاريخه وسلطت الضوء على تحليل العلاقة بين الصورة الفوتوغرافية والصورة السينماتوغرافية، إضافة إلى أهمية المواد الفيلمية الأرشيفية وتطرقت حتى إلى دور الممثل في السينما، وكشفت وفقاً لمنهج تحليلي أكاديمي مكانة السينمائي التسجيلي دزيغا فيرتوف وأهميته المعاصرة.
وجاءت أهمية الكتاب من جديته في فتح حوار مُوسع بين النقاد أنفسهم، أي بين أولئك النقاد الذين لم يعنوا بالنظرية الجمالية ولم يعمقوا علاقتهم بالسينما ولم يضعوا أمام قرائهم مسائل فنية، تطور من ثقافتهم السينمائية.
ومنذ هذا الكتاب الأول بدا كما لو أن الناقد يعي دور النقد وأهميته في إقامة علاقة جديدة مع شرائح من جمهور السينما الواسع.آلية الاستقبالاستمر الناقد يعني ويبحث في العلاقة الفكرية والجمالية، التي ميزت طريقه النقدي، سواء على صعيد ما كان يكتبه طوال الفترة الطويلة التي عمل فيها في الصحافة العربية، أو على صعيد ما كان يقوم بترجمته حول السينما الروائية، أو بشكل خاص، حول السينما التسجيلية، أو حول عملية الاستقبال الفنية عند الجمهور، إذ لم يكن بالنسبة له يكفي البحث فقط في آلية تأثير الفيلم على الجمهور، بل البحث أيضا في المعادل المقابل لهذه الآلية، والذي هو، تحديداً، آلية الاستقبال عند الجمهور نفسه. في الكتاب الثاني “الحقيقة السينمائية والعين السينمائية” ( قام بترجمته في عام 1978 ونشره في بيروت وأعاد نشره في عام 2011 في عمان “دار مجدلاوي”) كان مدانات أول من لفت الانتباه في الأدبيات العربية إلى المخرج والمنظّر المهم دزيغا فيرتوف بعد أن أخذ الفيلم التسجيلي يتبوأ مركزه الجديد في إنتاج الفضائيات العربية، وأصبح يُحتفى به في المهرجانات.
وبدأت أنواع جنسه تدرس في ورش، هدفها التعريف بتاريخه ومناهجه وتسليط الضوء على تياراته الفنية.وسيأتي كتابه الثالث المترجم أيضا “فرانشيسكو روزي” (1981) المخرج الايطالي الكبير، الذي ذهب بعيدا في الانتقال من مرحلة “الواقعية الجديدة” إلى تيار السينما السياسية عن طريق خلق تيار مبتكر ومباشر ينتج من الجمع والتفاعل بين ما هو روائي وما هو تسجيلي، جاعلا من أفلامه وسيلة فنية فعالة لمعرفة السياسة في حياة المجتمع، وسجلا لسنوات الصراع الطبقي الحاد في ايطاليا.
وأصبحت أفلامه شهادة اجتماعية عن البطالة والعنف والمضاربة بالأراضي وأزمة السكن والخوف من المافيا ومن خطر الاحتكارات الرأسمالية. كتابه الرابع المترجم المهم هو “أحاديث حول الإخراج السينمائي” لميخائيل روم، الذي هو نتاج عدة محاضرات سبق وان ألقاها المخرج الكبير والمنظر على طلبة السنة الأولى في معهد السينما في موسكو، التي قام نفسه بتنقيح ثمانية منها، ثم استكمل محررون مختصون تنقيح الخمسة الباقية واشرفوا على إصدار المحاضرات كاملة في كتاب بعد وفاته. وحصل أن أصبح الكتاب في طبعته العربية، كما كان في ترجماته العديدة في دول أوربية مختلفة، مرجعاً لكثير من النقاد والطلاب ومحبي السينما في مختلف البلدان العربية. عدنان مداناتالسينما العربية.
في كتابه الخامس “تحولات السينما العربية المعاصرة: قضايا وأفلام” ينحاز الناقد إلى حركة السينما العربية الجديدة ويحاول أن يقوّم إنتاجها، دون أن يغفل التناقضات التي تفعل فعلها في سوية أفلامها الفنية، كل ذلك بدافع المساهمة في تغيير معايير فنية تساعد في تطوير الحركة وأفلامها كما تساعد المتلقي في فهمها والانحياز إلى صانعيها ودعم نجاح أفلامهم وتدعو إلى أهمية توسيع بنية إنتاجها، ليتسنى لهذه السينما العربية، ألا تتعثر بل أن تواكب السينما في العالم ولا تسقط ضحية لقوانين شباك التذاكر وهو يتابع في مقالات كتابه أفلام السينما العربية المعاصرة، لأنه يجد فيها الامتداد الواقعي الممكن لما كان يدعو وزملاؤه إليه، أي إلى سينما بديلة حققت هنا أو هناك في بداية السبعينيات في الوطن العربي عدداً محدوداً من الأفلام، شكلت، وقتئذ، بيانات فيلمية، لكنها لم تستطع، بسبب اختلافها عن الإنتاج التجاري السائد أن تجد مكانها السينمائي الشرعي.من هنا استمر الناقد يدعم الأفلام الجديدة ويروّج لها، دون أن يغفل عملية مصالحة المخرجين، في مصر بشكل خاص، مع النظام الإنتاجي التجاري وكيف اخترقوه ليحققوا قفزة نوعية في مستوى الأفلام التي صنعوها.
عدسات الخيال كتابه السادس “عدسات الخيال” (2007) جاء على شكل مقالات في ستة فصول، أولها عن السينما بين الواقع والخيال، وثانيها عن السينما التسجيلية، وثالثها عن تكنولوجيات السينما، ورابعها عن الفيديو الرقمي، وخامسها عن السينما والشعر، وسادسها عن السينما والحداثة.يجد الناقد في الخيال شرطاً من شروط الإبداع السينمائي حتى وهو يتوجه نحو عكس صور الواقع المادي. كما يجد أن العلاقة بين الواقع والخيال تتضمن احتمالات متناقضة، فالخيال يمكن أن يكون صادقاً أو كاذباً، شريراً أو خيراً.
ويمكن تقسيم الخيال في السينما، عموما، إلى نوعين: أولهما هدفه الإثارة، وثانيهما هدفه الوصول إلى عكس صورة أمينة للواقع.في ترجمة كتابه الثامن “سيرورة الإبداع الفني” (2007) لموسيه كاغان، نلاحظ هذا التجانس فيما يبحث الناقد نفسه وفيما يختار ترجمته ليستكمل بوساطته ما يمكن أن يصب في دائرة اهتماماته الفنية والجمالية العميقة، لهذا يختار كاغان الذي كان من أوائل من تناول مسالة الاستقبال الفني بمواجهة الإبداع الفني. يتناول الكتاب، إذن، دور عناصر المنهج الإبداعي الأربع: المعرفي، التقييمي، البنائي والاشاري في العمل الفني، كما يتناول الصلة المتبادلة بين كل هذه العناصر.
ويخصص كاغان في الجزء الثالث الحديث عن عملية الاستقبال الفني كنظام ديناميكي معقد، ويميّز بين مختلف مستويات التلقي في قراءة العمل الفني وعملية تقويمه تبعا لاختلاف ثقافة وتجارب كل متلقي، كما يجد أن دوره عند المستقبل يمكن أن يذهب إلى المشاركة في الخلق الإبداعي ويساهم عبر مخيلته الإبداعية في تأويله الخاص للعمل الفني. أزمة السينما العربيةفي كتابه التاسع “أزمة السينما العربية” (2007) نجده ينوع من تناول آلية تأثير الفيلم على الجمهور، وآلية الاستقبال عند الجمهور نفسه. ويتوقف عند سؤال مركزي: لمن تصنع الأفلام؟ وهو سؤال ملح ينتظر الإجابات والحلول، لأنه يكتسب في السينما أهمية خاصة، فصناعة الأفلام لا يمكن أن تستمر وان تتطور بدون أن يكون لها جدوى اقتصادية.
ورغم ذلك ما زال المخرجون الجادون يتجاهلونه لهذا لم يتمكنوا من كسب الجمهور العام لصفوفهم. ولهذا ما زالت الأفلام التي تسعى لتحقيق المعادلة الصعبة بين الإبداع والتجارة تبحث عن الأسلوب المناسب الذي يمكنها من الوصول إلى طريق مضمون النتائج وغالبية المشاهدين العرب كما بقية المشاهدين في العالم يبحثون قبل كل شيء عن التسلية والإثارة في الأفلام أكثر مما يبحثون عن الفكر والقيم والجماليات الفنية. المعادلة الصعبةوإشكالية “المعادلة الصعبة” تنطلق من الحاجة التي صناعة أفلام تتضمن ستوى فنيا وفكريا جيدا من ناحية وقدرة على التسلية وجذب المشاهدين من ناحية ثانية، ولا تقتصر هذه الإشكالية على صناعة الأفلام بل تشمل أيضا ممارسة النقد والتحليل للأفلام، لأن مهمة النقاد الأولى أن يحققوا فعلا معرفيا تنويريا ويقيمون جسورا قوية تربط ما بين الإبداع وبين استقباله من قيل القراء من مشاهدي الأفلام التي يتناولها النقد بالكتابة، فبوسع الكتابة النقدية، إذن، أن تكون ذات اثر تنويري ونتاجا لحركة تفاعل متبادلة بين الناقد ووسائل الإعلام والجمهور وحتى دور النشر إضافة إلى السينمائيين أنفسهم: كتاب سيناريو ومخرجين ومنتحيين، لان الدور الناجح للنقد السينمائي هو أيضا نتاج حوار وتفاعل متبادل ما بين النقاد السينمائيين أنفسهم وهو أمر لا يزال غير متاح حتى الآن.
في كتابه العاشر “وعي السينما” (2010) ينطلق الناقد في صياغة اغلب مقالاته المتنوعة بعيدا عن النسق الأكاديمي، بقصد جعلها متاحة وسهلة الاستقبال من قبل القارئ العام غير المتخصص سينمائيا، ولكن المعني ببناء حصيلة معرفية حول فن السينما: “يهمني في كتاباتي أن أحاول أن اثقف القارئ سينمائياً واترك له المجال لكي يحكم على الأفلام التي يشاهدها بنفسه وارى هذه الوظيفة أهم من وظيفة الكتابة عن الأفلام”.لم
اذا؟ لأنه يجد أن المقالات السينمائية النقدية التي ملأت الصحف العربية خلال العقود الماضية، على الرغم من مستوى بعضها الرفيع، لم تنجح في جعل الثقافة السينمائية ركناً فاعلاً من أركان المشهد الثقافي العربي، خصوصاً وأن كتب السينما العربية المؤلفة، لم تأخذ موقعها الراسخ بين مطبوعات دور النشر، لأنها لم تشجع النقاد السينمائيين العرب على الاشتغال الجاد على تأليف الكتب الفنية والنظرية الجادة عن السينما، على هذا يلجأ النقاد إلى تجميع مقالاتهم الصحافية وينشرونها في كتب، تعرف القراء بالأفلام دون أن تتمكن من تطوير معارفهم النظرية ووعيهم بفن السينما.
لكن الناقد وهو يذهب إلى هذه المهمة المستحيلة، يدرك أيضا إن حل مسألة الإيصال ومشكلة فهم السينما، لا تنجز من قبل النقاد فقط، لأنها موضوعيا يمكن أن تنجز تدريجيا عبر عملية جدلية ينظمها المجتمع ويؤسس لمكوّناتها في جميع نواحي الحياة الثقافية والفنية. أما مسألة الثقافة السينمائية، فان تجاهل الصحافة العربية للنقد السينمائي وللدور الذي يمكن أن تلعبه الكتابات المتعمقة حول قضايا السينما العربية، جعل دور النقد يتراجع في المهمة الذي أخذها على عاتقه في فترة الستينيات والسبعينيات ومحاولته المساهمة في تطوير السينما العربية شكلا ومضمونا و صناعة وعلاقة حية وصحية مع المشاهدين. “سينما تبحث عن ذاتها” (2005).
ورغم أن أغلب مقالات كتاب “وعي السينما” سبق وان نشرت في المجلات والصحف في فترات زمنية مختلفة، إلا أن اختيارها يخضع لاختيار صارم، يراعي فيه ترتيبها وفقا لوحدة الموضوع المُميز أو التيار الفني أو الظاهرة السينمائية، لتبدو كما لو أن مؤلفها خطط لها وفقا لرؤية نقدية مُمنهجة ليصبح الهدف من إعادة نشرها أن تكون دراسة موحدة تلتزم بمعاينة مادة فنية وتتناول البحث فيها من وجوهها العديدة.علاقة ثقافيةمنذ فترة طويلة تحول الناقد عدنان مدانات من الكتابة عن الأفلام إلى الكتابة حول فن السينما، وكان هدفه إقامة علاقة ثقافية مع القارئ، بعيداً عن النسق الأكاديمي.
وبدأ ينطلق منذ كتابه العاشر “وعي السينما” (2010) في صياغة اغلب مقالاته للقارئ غير المتخصص سينمائيا، ولكن المعني ببناء حصيلة معرفية حول فن السينما، ويترك له وظيفة الحكم: “على الأفلام التي يشاهدها بنفسه”. في العام 1982 خطرت ببال الناقد فكرة إعداد « كتاب مقابلات » مع مخرجين عرب يستكشف عبرها ما أطلق عليه “أسرار المختبر الإبداعي” الموجود داخل دماغ المخرج، وذلك في محاولة منه للغوص في أسرار مختبر كل واحد منهم أثناء اشتغاله على فيلمه. وبما أن موضوع كتابه الجديد ينحصر في الكشف عن بعض أسرار السينما التسجيلية الإبداعية، فإنه يختار من بين تلك المقابلات فقط مقابلة لميشيل خليفي، كونها المقابلة الوحيدة، التي أجراها حينئذ، حول تجربة مخرج تسجيلي مبدع أنجز فيلم “صور من ذاكرة خصبة”.
ويضيف إلى هذه المقابلة في الفصول الأخيرة من الكتاب تحليلا لخبرته الخاصة أثناء العمل في إخراج مجموعة من الأفلام التسجيلية في فترة السبعينيات. ويبدو من كتابه الجديد “السينما التسجيلية- الدراما والشعر” الذي يضعه بين يدي القارئ أخيرا، أنه يذهب في طريق جديد آخر، يتعرف فيه على نماذج فيلمية تسجيلية عربية وعالمية تاريخية ومعاصرة، يعرّف بكل نموذج منها ويضعه تحت مجهر ما يسميه “المختبر الإبداعي”.النقد التطبيقينعثر في الكتاب على عرض وتحليل للعديد من نماذج الأفلام التسجيلية الإبداعية أو حتى الأفلام الروائية التي تضمنت مقاطع تسجيلية يكتشف فيها المؤلف حلولا إبداعية مميزة جديرة بالدراسة حيث يُخضع فيه في الغالب مشهداً أو مقطعاً منه إلى تحليل مُميّز، ليكشف فيه فنية حله الإبداعي بهدف اكتشاف إمكانيات تعبيرية فنية إبداعية، يمكن تلمّس بعضها في مجال السينما التسجيلية، إضافة إلى أنه يضمّن كتابه صورا منتقاة من الأفلام المختارة، توضح الفكرة المستنبطة من كل مشهد، يحلله ويؤوله ويكشف قيمته الإبداعية وتكون الصور جزءا مكملا للمادة التحليلية فعلى سبيل المثال يتوقف الناقد في فيلم” مازن والنملة” وهو فيلم روائي قصير عند مشهد تسجيلي، يستغرق حوالي الأربع دقائق، يجد فيه حلا إبداعيا ويعدّه فيلماً بحد ذاته.
يكتب المؤلف:”تتداخل في المشهد لقطات للطفل مازن وهو يتأمل جموع النمل التي صادفته في طريقه إلى المدرسة، ليتوقف عند نملة بعينها وهي تحاول أن تتسلق قمة مرتفع ترابي، هو جبل شاهق بالنسبة لها، وهي تحمل حبة قمح حجمها أضعاف حجمها.
تبدأ النملة في تسلق الجبل، لكنها سرعان ما تهوي إلى الأرض، تعاود النملة المحاولة وتتمكن من الارتقاء مسافة أبعد، غير أنها تهوي من جديد، لا تيأس، بل تلتقط حبة القمح للمرة الثالثة ثم تصعد، وتصل إلى أعلى القمة تقريبا، غير أنها تعود وتتدحرج إلى الأسفل، لكنها تستمر من جديد، إلى أن يقرر الطفل أن يحملها بنفسه ويوصلها مع حبة القمح إلى الحفرة التي تؤدي إلى بيت النمل”.
بيين هذا المشهد، حسب المؤلف، كيف تتحول ظاهرة ما خاصة يومية، والى حد ما اعتيادية ومألوفة، إلى ظاهرة درامية ذات مغزى اجتماعي وحتى فلسفي إنساني عام، تٌذكّر حتى بأسطورة سيزيف الذي عاقبته الآلهة وحكمت عليه أن يظل يصعد إلى قمة الجبل وهو يحمل صخرة كبيرة، نسقط منه كل مرة إلى أسفل الجبل، كما أنها تكشف إلى أي مدى يمكن للفيلم التسجيلي أن يغوص في مادة الواقع ويكشف غناه التعبيري و إيقاعه الحسي وقيمه الجمالية. لا يبدو المهم هنا من “يختار” ما يحدث في الواقع ويسجله فنيا، إنما من يُمكنه أيضا أن “يؤوله” إبداعياً.لا تقتصر قيمة الكتاب على النماذج الفيلمية التي يخضعها للتحليل، بل تشمل التأملات النظرية في مجال السينما التسجيلية والقضايا المرتبطة بها. ويبدو في كتابه الجديد، الذي سيضعه بين يدي القارئ، انه ينجز مشروعه القديم حول “المختبر الإبداعي” في مسعى منه، لتقديم بعض آليات هذا “المختبر ” كما عايشه ، كمخرج، في بعض الأفلام التسجيلية القصيرة, و كما وجد نفسه يستعيده، كناقد، ويتأمل فيه. ينهي المؤلف كتابه بجملة ذات معنى ينطبق على قوة فن السينما التسجيلية وتأثيرها على الجمهور: لا تكون السينما فنا، إلا عندما ترى “عين السينما” كما تجهد وتبتكر “بعين الشاعر”.
1- اذكر بهذا الخصوص مساهمته في الندوة الخاصة التي عقدت على هامش مهرجان دمشق السينمائي قبل سنوات والتي ساهم فيها نقاد عديدون من الوطن العربي من بينهم النقاد كمال رمزي ورمضان سليم ورفيق الصبان وقيس الزبيدي، والتي وضعت أمامهم للنقاش أربعة محاور: دور الناقد وعلاقة النقد مع المجتمع، وهل النقد هواية أم علم؟ وما هي مهمة النقد الحديث وهل هناك خصائص يجب أن يتمتع بها الناقد؟ وقتها توقف مدانات عند دور النقد في عملية المشاهدة وفي عملية تطوير السينما ذاتها وعبر عن مفهومه الذي لم يكن برى في الفيلم مادة فنية للمشاهدة الممتعة وللتسلية فقط، إنما مادة للتفكير أيضا.
ومن هنا تحديدا تأتي أهمية النقد في إقامة جسر ثقافي بين الفيلم والجمهور والمخرج وبين فن السينما نفسه، مما يتطلب من الناقد تملكه لأدوات تؤهله لقراءة الفيلم وعملية تحليله وتأويله.2- مثلما عُد فلاهرتي الأب الروحي للفيلم التسجيلي ذي الرؤية الإنسانية في العالم، عُد فيرتوف المؤسس الحقيقي للسينما التحريضية الثورية في العالم، الذي لا تزال بياناته البصرية وإرثه السينمائي يجدان تأثيرهما في السينمائيين في العالم في كل أوقات الماضي والحاضر.
كتب المؤلف والمترجم عدنان مدانات
عدنان مدانات. بحثا عن السينما. دار القدس. بيروت/ 19752) دزيغا فيرتوف: الحقيقة السينمائية والعين السينمائية، ترجمة: عدنان مدانات. دار الهدف.أ. دزيغا فيرتوف: الحقيقة السينمائية والعين السينمائية. الطبعة الثانية. دار مجدلاوي.عمان/ 20113)
ب. ميخائيل روم. أحاديث حول الإخراج السينمائي. ترجمة: عدنان مدانات. دار الهدف. بيروت/ 1981ب. ميخائيل روم.
أحاديث حول الإخراج السينمائي. الطبعة الثانية. دار مجدلاوي. عمان/ 20074. ي. فيكتوروفا. فرانشيسكو روزي. ترجمة: عدنان مدانات. دار الطليعة. بيروت/1981 5.
عدنان مدانات. تحولات السينما العربية المعاصرة دار كنعان. دمشق/ 2000 6.
عدنان مدانات. سينما تبحث عن ذاتها. قضايا في السينما العربية المعاصرة. المؤسسة العامة للسينما.دمشق/2005 7.
عدنان مدانات. عدسات الخيال”/ الفن السابع (129)، المؤسسة العامة للسينما. دمشق/ 2007 8. موسيه كاغان.
سيرورة الإبداع الفني. ترجمة: عدنان مدانات. دار البيروني. عمان 20079. عدنان مدانات.أز
مة السينما العربية. الهيئة العامة لقصور الثقافة. القاهرة/ 200710. عدنان مدانات وعي السينما. الفن السابع/ مؤسسة السينما. دمشق/ 2010