قراءة جديدة في فيلم “المذنبون”.. مجتمع وراء القضبان

نحن أمام فيلم تسببت الموافقة على عرضه في إحالة رئيسة الرقابة على المصنفات الفنية في مصر وقتئذ، السيدة اعتدال ممتاز، ومجموعة من المعاونين، إلى لجنة تأديب وتم مجازاتهم على الرغم من أن اعتدال ممتاز كانت قد تركت منصبها، خلال الفترة بين تصريحها بالفيلم ووقت عرضه، لبلوغها سن التقاعد، وانتهت الأزمة التي أثارها الفيلم بإقالة جمال العطيفي وزير الثقافة آنذاك. وبعد تلك الواقعة صار الرقباء أكثر تشددا في التصريح للأعمال الفنية عملا بالأحوط. عرض فيلم “المذنبون” – سيناريو ممدوح الليثي واخراج سعيد مرزوق- في لحظة تحول عميقة في بنية المجتمع المصري، المرحلة التي اصطلح على تسميتها بـ “الانفتاح الاقتصادي”، راصدا بوادر الفساد الحكومي في مصر وتغلغله في كافة مؤسسات الدولة، وأثره الاقتصادي على المجتمع الذي يتم دفع أفراده إلى الرشوة والسرقة وبيع الأعراض. ينحو الفيلم في مستواه الأولي منحى الأفلام البوليسية التقليدية، فهناك جريمة قتل ومشتبه بهم، وكالعادة يكون القاتل هو آخر من تحوم حوله الشبهات، ولا يتم اكتشاف علاقته بالجريمة إلا بعد تحقيق طويل.  ولكن هذا البناء ما يلبث أن يتكشف عن مستوى سوسيولوجي عميق؛ فما يبدأ باكتشاف جريمة قتل، ينتهي بمجتمع بأكمله وراء القضبان.  الاتهام بفعل جريمة القتل موجه للجميع، والجميع بريء من هذه التهمة، ولكنه مذنب في جرائم أخرى أشد خطورة على المجتمع من مقتل ممثلة مشهورة، ولكن عقوبتها القانونية – وياللعجب – أقل من عقوبة القتل، ما يغري جميع المتهمين، بعد محاولات التملص والإفلات الأولى، بالاعتراف بجرائمهم الحقيقية التي كانوا يرتكبونها، بمحض الصدفة التي يمكن تقبلها، في نفس وقت ارتكاب جريمة القتل.  

  وجوه متعددة والفساد واحد هناك أولا ناظر المدرسة الذي يأمره رؤساؤه بإعمال القانون على الفقراء ومن لا واسطة لهم، وعدم تطبيقه على أصحاب الحظوة بل تابعي أصحاب الحظوة، والذي يسرب امتحان الشهادة لأنه اكتشف مدى ضآلة راتبه أمام تبعات الانفتاح وتزايد طلبات أولاده بما يفوق طاقته. وهناك مسؤول الجمعية الاستهلاكية الذي يورد المنتجات المدعومة لبيت الممثلة المشهورة، ويطالب مستحقيها الفعليين باحترام النظام والوقوف في طوابير لا يحصلون بعدها على احتياجهم من السلع المدعومة، ولا ينسى في غضون ذلك ان يتظاهر  بالصلاح والتقوى والمرور على مقرأة بعيد خروجه من حفل ماجن، وقبيل الذهاب لتهريب سلع مدعومة لتاجر سوق سوداء. والطبيب الذي جعل من عيادته وكرا يتصيد من خلاله المترددات للعلاج ليصبحن عشيقات شهوة، كما يخالف واجبه المهني ويجري عمليات إجهاض.  مسؤول الإسكان الذي يرسي تصاريح المباني بالمخالفة للقانون نظير رشوة مقدرة (شقتان لكل عمارة) وفي حالة الزيادة عن التصريح بعقارين يكتفي بأربع شقق على سبيل التخفيض، مع رشوة جنسية، ولا مانع من خيانة صديقه الطبيب السابق ذكره واقتناص زوجته المقهورة من خيانات زوجها التي لا تحصى.  منتج الأفلام الذي يمتص أجساد الفتيات الطامحات للشهرة ويقوم بعمليات التهريب.والفتاة الجامعية التي تبيع جسدها مقابل مبلغ لا تحصل عليه في النهاية فتذوي بعد أن فرطت في شرفها بلا مقابل.  لص الخزائن الذي يبدو كجنتلمان ورجل مجتمع.  رجل السياسة (ولعله شخصية أمنية) الذي تأتي علاقته بالممثلة المشهورة تتويجا لمستنقع من الفساد. ويتبقى الشاب الأرستقراطي الذي سلبته ثورة يوليو 1952 ماله، وجرفت طبقته، وفرضت على ممتلكاته الحراسة، فانزوى وحيدا يجتر أحزانه ووحشته حتى تعرف على الممثلة وارتبط بها وشابت علاقته بها أجواء فرويدية واضحة، فهي تشبه أمه ويحاول أن يخاطب الجزء البريء فيها، ويتطلع دائما بريبة إلى أي رجل يقترب منها، لما يعرفه عن ماضيها الذي اعترفت له به دون تفاصيل، ولذا حين يتأكد من خيانتها له يقتلها دون تفكير، ولا يبدو طعنه لها في مناطق حساسة من جسدها سوى تعبير عن صدمته في استمرار خياناتها له حتى بعد الخطوبة وإهدائه لها عقد والدته الذي لا يقدر بثمن. يبدو هذا الشاب (الذي قام بدوره حسين فهمي) كأوديب، ولكنه يمتاز عنه بأنه لم يوجه غضبه لنفسه كأوديب الأسطورة الذي فقأ عينيه، بل وجه هذا الغضب لمعشوقته شبيهة أمه، والتي مازال يحبها ويزور قبرها بعد أن قتلها بنفسه.  فساد جنسييستخدم سيناريو الفيلم معادلا موضوعيا لحالة الفساد المتفشية، ما استخدمته السينما المصرية كثيرا، أي جعل الشخصية الفاسدة دائما منحرفة جنسيا، وكأنه لا يكفي الممثلة (سناء كامل التي يمكننا قراءة اسمها على ضوء تصرفاتها بشكل عكسي “ظلام/ نقصان والتي تقوم بجورها سهير رمزي) أن تكون متوسطة في مخالفة لوائح تعليمية، أو مستحوذة على ما ليس من حقها من سلع تموينية مدعومة، أو منشئة لعمائر سكنية بالمخالفة للقانون، ودفع رشاوي، بل يجب أن تكون هذه الرشوة لها بعد جنسي، وأن تكون متهتكة وشبقة للرجال حتى تحمل وتجهض نفسها عند الطبيب سابق الذكر، حتى عند تقديمها مساعدة مالية للطالبة الجامعية لا يبدو ها التصرف فعلا خيرا، بقدر ما يبدو محاولة لغسل الضمير لا أكثر، وتعبيرا عن مجتمع لا يمنح الكرامة للمحتاجين، بقدر ما يمنحهم فتاتا لا تكفي احتياجاتهم ولا تمنعهم من السقوط الأخلاقي. هذا الفساد الجنسي أيضا يطول أغلب الشخصيات في الفيلم، نجده عند الطبيب وزوجته، وصديقه مسؤول الإسكان، ولص الخزائن، ومنتج الأفلام والطالبة الجامعية، لينضموا في نفس الإطار الذي ضم الممثلة (سناء كامل). في آخر مشاهد الفيلم، يبدو جميع المتهمين خلف قضبان الحجز الاحتياطي تمهيدا لتقدميهم للمحاكمة، لا ينجو منهم سوى السياسي (قام بدوره كمال الشناوي)، وكأن الفيلم يقصد أن المسؤول عن هذا الفساد المجتمعي مازال حرا طليقا فوق القانون، ربما لأنه هو صانع هذا القانون الذي ينطبق عليه ولكنه لا يمكن تطبيقه. ينتهي الفيلم بينما تتعالى صيحات الناظر (يقوم بدوره عماد حمدي): النظام .. النظام، معبرة عن صرخة سينمائية أولى تردد صداها كثيرا تشير إلى المذنب الأول: أي النظام السياسي.

Visited 260 times, 1 visit(s) today