في مهرجان لندن السينمائي: قودي سيارتي إلى النور
أمير العمري- لندن
من عادة مهرجان لندن السينمائي الذي يقام هذا العام على ارض الواقع، أي من خلال عروض عامة جماهيرية في عدد من دور السينما اللندنية، أنه إلى جانب الاكتشافات الجديدة، يحرص دائما على أن يأتي بأهم الأفلام التي عرضت في مهرجانات السينما الدولية الكبرى في العالم، وخصوصا تلك التي فازت بالجوائز، فجزء أساسي من رسالة المهرجان أن يقدم لعشاق السينما، أفلام الفن المختلفة القادمة من عوالم وثقافات أخرى، لتقريبهم إليها، لكون السوق السينمائية في بريطانيا- والعام كله- تطغى عليها الأفلام الأمريكية الشعبية.
من هذه الأفلام الجديدة، الفيلم الياباني “قودي سيارتي” Drive my Car للمخرج يوسكي هاماغوتشي المقتبس عن قصة قصيرة لهاروكي موراكامي، وهو الفيلم الذي ظل لليوم الأخير في مهرجان كان السينمائي (يوليو الماضي) المرشح الأول للفوز بالسعفة الذهبية لكنه حصل على جائزة أفضل سيناريو.
عنوان الفيلم (وهو نفس عنوان القصة الأصلية” مأخوذ من أغنية فرقة البيتلز الشهيرة التي تقول كلماتها على لسان امرأة ستصبح نجمة سينمائية (قود سيارتي.. ربما أقع في حبك”. لكن المعنى المراد هنا يجنح أكثر إلى الرمزية، فقيادة السيارة العزيزة جدا على صاحبها- بطل الفيلم- الممثل والمخرج المسرحي الشهير “يوسوكي كافوكو”، تعني له الكثير، وعندما يقبل أن تقودها له امرأة يخصصها لقيادتها الشركة التي تنتج مسرحيته الجديدة (الخال فانيا) التي يعتزم تقديمها في مهرجان للمسرح يقام في مدينة هيروشيما، فهو يقبل في الوقت نفسه، أن يبوح لها بالكثير من أسراره الشخصية، ولو من خلال استرجاع الشريط الصوتي الذي يستمع إليه في السيارة، بصوت زوجته الجميلة “أوتو”، وهي تقوده إلى استرجاع حواره في دور الخال فانيا.
هذا أحد الأفلام اليابانية القليلة التي تسبح في عالم الفلسفة، وطرح التساؤلات الصعبة حول جدوى الحياة، علاقتنا بالآخر، بالمرأة، وكيف يصبح الآخر مدخلا لأن نفهم أنفسنا، شريطة أن يدفعنا استغرابنا للآخر، وشعورنا بغموضه وحيرتنا أمام سلوكه، إلى أن نتأمل ما يوجد في دخيلة أنفسنا.. وكيف أن ما نراه ونفترض الافتراضات من حوله قد يكون مختلفا تماما عن تصوراتنا وافتراضاتنا. وكافوكو (أو يوسوكي) يميل للاستعانة بطاقم متعدد الجنسيات واللغات من الممثلين. نراه في بداية الفيلم يقوم بدور رئيسي في مسرحية بيكيت “في انتظار غودو”. ولعله يعكس جنبا من شخصية مخرج الفيلم نفسه، يوسكي هاماغوتشي، الذي يكشف هنا بوضوح، عن ثقافة مسرحية غربية.
خلال ما يقرب من ثلاث ساعات، يقودنا المخرج الكبير هاماغوتشي (الذي سبق أن أبدع “اساكو 1، 2” و”عجلة الحظ والخيال”، نحو فهم أعمق لأنفسنا وللعالم، عبر رحلة مليئة بالإثارة والتساؤلات، في حياة بطله الذي يطرح الكثير من التساؤلات التي لا يملك إجابات عنها، ولكن الكثير من الأشياء ستتضح له في النهاية، ليس من خلال الإدراك الثقافي، بل من السائقة البسيطة “ميساكي ماتاري” التي يعرف أنها مرت بمحنة قد تختلف عما مر به هو، لكنه تشترك معه في الالتباس وغموض الدوافع، ولكنها هي التي تمنحه الأمل أيضا، كما تشير النهاية التي توحي بحياة جديدة ولدت من رحم الماضي.
هذه النهاية المتفائلة قريبة دون شك، من نهاية مسرحية تشيكوف الشهيرة “الخال فانيا” التي من دون فهمها وفهم مغزاها الفلسفي والإنساني، سوف لن نتمكن من الاستمتاع بالفيلم. فالمسرحية بشخصياتها وتناقضاتها، وطبيعة ما تطرحه من تساؤلات وجودية صعبة، يتردد صداها باستمرار في الفيلم، كما أن المخرج يستخدم التدريبات التي تجري على المسرحية أو عرضها على المسرح وبطلنا يلعب دور البطولة، قبل أن يتخلى عنه، لكي يصنع خيوطا موازية لما يحدث في حياة “”يوسوكي كافوكو” نفسه. ولكن ما هي الحكاية؟
يقع مدخل الفيلم (الذي نفترض أنه يصور لنا ما وقع في الماضي) في حوالي 40 دقيقة، قبل نزول العناوين الرئيسية وأسماء العاملين في الفيلم، لينتقل الفيلم إلى الحاضر، أو إلى المرحلة التي تلت ما وقع في الماضي.، أو بعد مرور عامين.
في البداية ومن خلال مشاهد تعكس حسا إيروتيكيا، نرى علاقة المخرج المسرحي بزوجته الحسناء “أوتو” وهي كاتبة سيناريوهات أفلام للتليفزيون. العلاقة بينهما علاقة حب ملتهب، وأوتو تستلهم قصصها الخيالية التي تنسجها وهي تمارس الجنس مع زوجها، ويوسوكي الذي يقود بنفسه سيارته الحمراء من طراز “ساب” يوميا، بصحبة أوتو، يستمع أيضا إلى ما تروي له باستمرار من خيوط قصة غريبة مثيرة إيروتيكية، ولكن من دون مشاهد مباشرة، فهي تصف له كيف أن فتاة مهووسة بشاب صغير، تتسلل الى بيته يوما بعد يوم، بعد ان يخرج الشاب ويخرج أيضا والداه من المنزل، تلتقط المفتاح من تحت السجادة الصغيرة أمام الباب، وتدلف بين الحجرات لتستقر في غرفة الشاب، تتشمم فراشه وملابسه.. وربما تستمني أيضا أو تشرع في ذلك.. وكيف يأتي أحدهم.. شخص غريب ليس هو الشاب نفسه، يقترب من باب البيت..
تتوقف أوتو وتقول إنها لا تعرف بالضبط ماذا حدث لكنها ستكمل في المرة القادمة. هل ستكون هناك مرة قادمة؟ فما يحدث أن يوسوكي يعود فجأة الى المنزل بعد أن تأجل سفره، لكي يجد أوتو في أحضان شاب هو نفس الممثل الشاب الذي قدمته له من قبل، والذي اتخذته بطلا لأفلامها التليفزيونية ويفترض أن يكون نجمه قد لمع.
لا يتكلم يوسوكي ولا يصدر عنه أي سلوك يشي بالغضب أو الثورة والاحتجاج، بل يتسلل خارج المنزل دون أن يشعر به العاشقان. لكن حياته لم تصبح على ما كانت عليه. إلا أن زوجته تبدي نحوه كل آيات الحب لدرجة العبادة والتقديس. وهو أيضا يبادلها نفس المشاعر الجياشة لكن شيئا ما يتضح على وجهه يوحي بأنه يحمل جرحا ينزف في داخله.
وذات يوم تتحدث أوتو إلى زوجها بجدية تامة، وتخبره أنها تريد أن تتحدث إليه في أمر ما عند عودته مساء اليوم. ربما يدرك بحاسته ما تريد أن تخبره به. لكنه لا يعود مبكرا، وعندما يفعل يجد أوتو ممددة على الأرض فاقدة الوعي، ثم نعرف أنها غادرت الحياة متأثرة بنزيف في المخ.
لا يستطيع “يوسوكي” أبدا مواجهة زوجته، فهو يهرب من المواجهة لأنه يحبها، لكنه لا يستطيع أن يفهم مشاعرها المتضاربة: حبها الشديد الذي لا شك فيه له، وخيانتها له. هذه “الخيبة” في فهم الآخر والذات، هي محور العذاب الذي يمتد إلى علاقة يوسوكي المتوترة بالممثل الشاب “كوشي” عشيق “أوتو” قبل وفاتها المباشرة. فهو يصر على اسناد دور الخال فانيا للممثل الشاب، رغم عدم ملاءمة الدور له، بدلا من قيامه به بنفسه، فهو يبدو وكأنه يرغب من ناحية في الانتقام الناعم من الممثل الشاب، بأن يقوده إلى الفشل، ومن ناحية أخرى، هو لا يمكنه القيام بالدور بنفسه لأنه سيدفعه إلى مواجهة تساؤلاته المعذبة على غرار ما وقع لفانيا نفسه في المسرحية. وهو ما لا يقدر عليه لأنه يريد أن يهرب، لا أن يواجه ويتذكر ويستعيد، ما لا يمكن له أن يفهمه. لكنه يرغب باستمرار في استخدام الشاب لمعرفة ما لا يعرفه من أسرار في حياة زوجته الراحلة. إلا أنه يجد أن الشاب مغرم حتى الآن بأوتو، وأنه يحسد صاحبنا على أنه عاش معها كل تلك السنوات. ليزداد الأمر غموضا.
ما هو الحب؟ وكيف يمكن فهم مشاعرنا التي تزداد التهابا، رغم الخيانة؟ وكيف كانت أوتو تقدر على الانتقال بين الرجال مبقية على الحب؟ أيم كان الخطأ إن كان هناك أي خطأ قد وقع من جانب يوسوكي؟ هذه الخيبة وهذا الإخفاق في مواجهة الذات وفهمها، لماذا؟ وهل يمكن أن ينتصر الجبن والتقاعس، وماذا يجدي البكاء على الماضي؟ كلها أسئلة توجد تحت جلد الصورة، نشعر بها من دون أن تأتينا بشكل مباشر.
سائقة السيارة التي يقبل بها يوسوكي، تبدو على النقيض من زوجته تماما، فهي جامدة الوجه، لا تتمتع بالحسن، صارمة، حزينة هائمة النظرات، ولكنها ستكشف له قرب النهاية، عن مأساة حياتها، إذا كان هو يشعر بنوع من الذنب لكونه قد تسبب في مصرع زوجته (حينما تقاعس عن العودة مبكرا الى البيت والاستماع اليها وربما تمكن من انقاذها) تقاعست السائقة (ميساكي) الهائمة النظرات، عن إنقاذ أمها وهي تلقى حتفها بعد انهيار منزلهما الواقع في تلك المنطقة النائية الجبلية المغطاة بالثلوج.
لا يستفيق بطلنا من محنته إلا بعد أن يتذكر ويسترجع أمام ميساكي. إنه يروي لها كيف أنه وزوجته، فقدا طفلتهما التي كنت في عمر الثلاث سنوات، في موت مفاجيء لا سبب له.. ونحن نعرف من بداية الفيلم أيضا أنه يعاني من المياه الزرقاء فوق إحدى عينيه، أي أنه بدأ يفقد الإبصار بها.. وهي إشارة رمزية تشي بغياب قدرته على أن يرى وأن يواجه.
الفيلم يسير في بناء تقليدي. مشاهد طويلة، إيقاع بطئ يسمح بالتأمل، حوارات مضنية طويلة.. انتقال مستمر بين الفيلم و”الخال فانيا” التي تصبح- كما أوضحت- أساس الفيلم وعموده الفقري، ليصبح التداخل مقصودا تماما بين المسرحية والفيلم، بين يوسوكي وفانيا، والمعاناة هي نفسها. معاناة الحياة نفسها بكل غموضها وشقائها ومآزقها التي لا يمكننا فهمها. والمخرج يبتكر الكثير من المواقف والأماكن والشخصيات والأحداث التي تبقينا في حالة انتباه وترقب من دون أدنى شعور بالملل في فيلم طويل على هذا النحو.
السيارة الحمراء تلعب دورا رئيسيا في الفيلم. إنها موجودة هناك.. تتحرك باستمرار. أو تنتظر وتنتظر بجوارها ميساكي في هدوء وصمت ككلب وديع. إنها تشعر بكونها أدنى من أن تجلس داخل السيارة رغم البرد. لكن يوسوكي يلح عليها أن تفعل، ثم يدعوها أيضا لمشاركته تناول العشاء مع أسرة مساعده. وكما أن مسرحية “الخال فانيا” هي قلب الفيلم دراميا، فالسيارة الحمراء هي قلب الفيلم رمزيا. إنها الأثيرة الى صاحبها، التي يعشقها ويدللها ويرد الحديث في الفيلم أكثر من مرة على لسان ميساكي، الى كيف كان يعتنى كثيرا بها. إنها أيضا مكمن أسراره. ففي داخلها يأتي “البوح”، والانفراد بصوت الزوجة وهي تروي قصصها المثيرة، أو يستعيد حوار الخال فانيا.. وهو يذكره بمحنته، ثم تصبح السيارة المكان الذي يجمع بين يوسوكي وميساكي، ويبدأ بينهما البوح- الآخر. هو يجلس دائما في المقعد الخلفي. وهي تقود السيارة دون أن تلتفت للوراء بالطبع. وبعد أن يحدث التقارب بينهما قرب النهاية، ينتقل هو لأول مرة إلى المقعد الأمامي. يتطلع إليها وتتطلع إليه. ثم يسك يدها أيضا.
وكما تولد الحب بين الرجل والمرأة في الفيلم الفنلندي “القمرة رقم 6” (الذي تناولته في المقال السابق، يولد الحب هنا أيضا بين المخرج والسائقة، خلال الطريق في فيلم طريق من نوع مختلف، ومن خلال الشعور المشترك بالذنب والمحنة المشتركة والماضي المليء بالندوب.
من ابتكارات المخرج في الفيلم الاستعانة بممثلة بكماء، تسمع لكنها لا تستطيع الحديث بل تتخاطب بلغة الإشارة، هي في الحقيقة زوجة مساعد المخرج، لكي تقوم بدور “سونيا” ابنة البروفسور سيريبرياكوف المحتال الجشع، وهي التي تمنح الأمل في نهاية المسرحية إلى الخال فانيا، تماما كما تفعل السائقة التي تنفرج أساريرها أخيرا. فهي تقول بإشاراتها البديعة الموحية، إننا يجب أن نواصل رحلة العيش، رغم كل الحزن والاحباط، وأن نشعر بالسعادة مما أعطيناه، وعندما تأتي النهاية، نكون مستعدين لها في استرخاء وقبول.
هيديتوشي نيشيما يتألق ويصل إلى قمة الأداء في دور المخرج المسرحي سوسوكي كافوكو الذي تلفت غرابة اسمه السائقة التي تؤدي دورها ببراعة الممثلة توكو ميورا. هنا يصبح الأداء الصامت، بالعينين، والإشارات، والصمت عند اللزوم، والتحديق إلى الآخر أو حتى في الفراغ أحيانا، أكثر بلاغة من التعبير بالحوار المباشر. وكثيرا ما يبدو الحوار نوعا من مناجاة الذات أكثر مما هو “ديالوج” بين شخصين أو أكثر. وكلما جنح الموقف نحو استدرار المشاعر، يقطع المخرج وينتقل إلى مكان آخر ومشهد آخر. ولا شك أن اختيار مدينة هيروشيما هنا مقصود تماما لكي يظهر للعالم كيف تمكنت اليابان من عبور الكارثة النووية، والتغلب عليها بالبناء والتعمير والابتكار، وتشييد مدينة حديثة تنبض بالحركة والحيوية والحياة، وتتمتع بكل هذا الدرجة من الجمال.
في المشهد الأخير بعد مضي مزيد من الزمن، نشاهد الزبائن داخل أحد مستودعات التسوق، يضعون الكمامات على وجوههم. إننا في زمن وباء الكوفيد- 19. لكن الناس يتحركون ويعيشون الحياة. وها هي ميساكي (أي السائقة التي كانت) قد أنجبت طفلا تلهو معه داخل مستودع التسوق.. ونستنتج أن العلاقة اكتملت مع كافوكو.
الحذر واجب. لكن الحياة لا تتوقف أبدا. أليس الهدف الأساسي من الفن، التغني بالجمال والتفاؤل والحب؟