في مهرجان لندن السينمائي: “بطل” أصغر فرهادي

لم يحقق الفيلم السابق للمخرج الإيراني أصغر فرهادي “الكل يعلم” (2018) نجاحا يذكر بسبب اغترابه عن المحيط التقليدي المعروف الذي يصنع فيه فرهادي أفلامه المميزة، فقد كان يروي قصة عن عائلة إسبانية، في إسبانيا، يجسّدها ممثلون إسبان وممثل أرجنتيني واحد، وكان ناطقا بالإسبانية التي لا يعرفها المخرج الإيراني الذي كتب سيناريو الفيلم بنفسه، لذلك كان فيلما إسبانيا من ناحية الهوية.

كان “الكل يعلم” فيلما من أفلام الأسرة، أي أنه بدا وكأنه من عالم فرهادي الذي ألفناه في أفلامه السابقة الشهيرة مثل “انفصال نادر وسيمين”، و“الماضي” و“البائع”، وهو شأن هذه الأفلام الثلاثة ينطلق من مأزق تواجهه الأسرة، يتعين على أفرادها تحديد موقفهم، وربما أيضا اتخاذ قرار صعب ينتج عن مواجهة الذات بالحقيقة التي كانت خافية منذ سنوات.

كان “الكل يعلم” يطرح سؤالا أخلاقيا، حول ماذا يمكن للمرء أن يفعل عندما يجد نفسه أمام اختيار: أن يرفض الماضي ويتعامى عنه، أو يقبله ويعترف به ويفقد بالتالي جزءا من كرامته أو ربما كرامته كلها، بل ويدمّر حياته الزوجية، من أجل أن يحافظ على تقدير واحترام المرأة التي كان يرتبط بها عاطفيا في الماضي؟

 وفي فيلمه الجديد “بطل” A Hero (2021) يعود فرهادي إلى طرح سؤال أخلاقي آخر يتعلق بفكرة النزاهة في مجتمع يعاني من مشكلة في الصدق، من خلال موضوع يبدأ كعادة أفلام السينما الإيرانية الجديدة وأفلام فرهادي بوجه خاص، من حادث بسيط للغاية، سرعان ما يكبر ويكبر ويتفرع ويتشعب، وكلما مضى السرد إلى الأمام، تقع تغيرات أو بالأحرى “التواءات” كثيرة في الحبكة. ومن الإيجابي الناصع الذي يوحي بالأمل، ننتقل إلى الرمادي الغائم ثم إلى السلبي، ومع كل هذه التغيرات، لا يتغير الموقف الأخلاقي الصارم للبطل حتى بعد أن يهبط من مرتبة “البطل” إلى مستوى “الكاذب المخادع”.

في سياق كثيرا ما ينحو نحو الميلودراما والمبالغات الكثيرة التي لا نهاية لها، ويقود الى تساؤلات لا توجد إجابة عنها، ليس لغرض تفادي تقديم إجابات بل بسبب وجود ثقوب في الحبكة نفسها، يروي الفيلم قصة الشاب “رحيم” الذي يقضي عقوبة في السجن نتيجة تبديد مبلغ كبير اقترضه من أحد المقرضين، لكي يفتتح به عملا تجاريا إلا أن شريكه استولى على المال واختفى. وكان هناك “بهرام” الضامن الذي سدد المبلغ نيابة عنه، لكنه عجز عن الوفاء بالدين، فدخل السجن. أما الفيلم فيبدأ بخروج “رحيم” من السجن لمدة يومين فقط لزيارة أسرته: هو مطلق ولديه ابن يعاني من مشكلة عدم القدرة على الكلام بشكل صحيح، يقيم مع شقيقة رحيم وزوجها وابنها. ومن ناحية أخرى رحيم مرتبط بعلاقة حب مع “فرخنده” الجميلة، يريد أن يتزوجها بعد خروجه من السجن. تعثر فرخنده على حقيبة يد نسائية فيها 17 قطعة نقدية من الذهب. يتصور رحيم أن من الممكن بيعها واستخدام ثمنها في تسديد دينه. لكنه يجد أن الثمن لن يكفي أبدا. فيتجه إلى فكرة أخرى هي أن يعلق ملصقات في أرجاء مدينة شيراز، تناشد صاحبة الحقيبة الاتصال بشقيقته التي ترك عندها. وبالفعل تتصل امرأة تصف بدقة كل محتويات الحقيبة ثم تأتي باكية وتسترد الحقيبة.

بهذا التصرف يصبح “رحيم” بطلا. مأمور السجن يشيد به، ويتصل بالصحف والتليفزيون لإجراء مقابلات معه، ويخبره بأن مدير البلدية تعهد بمنحه وظيفة تمكنه من تسديد المبلغ المدين به إلى “بهرام” الذي يرفض أي مصالحة أو مسامحة معه ويكرر أنه تسبب في ضياع تكاليف زواج ابنته. وتقيم الجمعية الخيرية التي تعمل لصالح السجناء حفل تكريم له ويمنحونه شهادة تقدير لوفائه وصدقه وبطولته. إلا أن “بهرام” لايزال يبدي تشككا واضحا في أن يكون الأمر برمته مسرحية معدة سلفا.

من هنا ستنقلب الآية. سيصبح “رحيم” محل شك من طرف مأمور السجن ومدير البلدية: هل هي محض صدفة أن يعثر رحيم على الحقيبة فور خروجه من السجن أو تعثر عليها وتعطيه إياها فرخنده؟ وأين هي السيدة صاحبة الحقيبة؟ ولماذا لم يسلمها لها بنفسه؟ ولماذا ترك رقم تليفون السجن ومن أين جاء به؟ وهل هو يلعب لعبة ما؟  

رحيم يقسم أنه تصرف في براءة، ولم يفكر في هذه الأمور. لكن أصبح يتعين عليه الآن أن يعثر على المرأة التي استردت الحقيبة لكي تشهد بالحقيقة. لكنه لا يستطيع أن يعثر عليها. لا يجد مفرا من أن يستعين بحبيبته فرخنده لكي تلعب دورها، لكن اللعبة ستنكشف، وسيزداد موقف “البطل” صعوبة، ويصبح محل شك من جانب شقيقته ولكن ابنه سيظل مؤمنا به حتى النهاية.

لا أرغب في استكمال التفاصيل فهي كثيرة متشعبة كما أشرت، كلها ترمي الى تغذية سياق أقرب إلى سياق الفيلم البوليسي المثير، ولكن المقصود أن تلقي بالشك حول تصرفات الجميع، فكلهم ضالعون في “مسرحية” من تأليفهم جميعا، فهم الذين صنعوا هذا البطل لحاجتهم إليه: مدير السجن لكي يغطي على حادث انتحار أحد السجناء، والجمعية الخيرية لكي تصبح في قلب الدعاية التليفزيونية.

لا تظهر أبدا المرأة التي حصلت على الذهب، بل انهم يكتشفون أنها كانت تخفي رقم تليفونها بل وقد انتقلت من عنوانها الى جهة غير معلومة، كما أنها تقاعست عن الاستجابة للنداءات المتكررة لكي تدلي بشهادتها، وكلما أمعن “بهرام” الدائن لرحيم في تشبثه برفض التمهل أم المصالحة وإتاحة فرصة أخرى لرحيم لكي يسدد دينه، كلما يشتعل الموقف ويتوتر ويصل إلى حد الاشتباك اليدوي بالعنف في مشهدين من المشاهد النادرة في السينما الإيرانية. المشكلة الرئيسية هنا تكمن في ثلاثة عناصر:

أولا: تعدد شخصيات الفيلم بدرجة تربك المتفرج، خلافا للقاعدة الذهبية التي تقول إن السيناريو الجيد يجب ألا تزيد عدد شخصياته الرئيسية عن ثلاثة أو أربعة. هما لدينا: رحيم وابنه وشقيقته وزوجها وفرخنده ومدير السجن وزميله ومدير البلدية والمرأة الغامضة التي استولت على الذهب، وسائق التاكسي الذي ركبت معه وأصبح شاهدا رئيسيا حاضرا في مشاهد عديدة، وبهرام الدائن وابنته، وفرخنده وأمها وشقيقها الذي ينهرها ويقسو عليها كثيرا، ويحاول أن يحول بينها وبين إقامة أي علاقة مع رحيم.. إلخ. وفي الوقت نفسه تغيب غيابا تاما عن الفيلم، زوجة رحيم السابقة رغم وجود ابنها في كنفه، فكيف لم تسأل عنه ولو مرة واحدة، ناهيك عن عدم معرفتنا سبب الطلاق الذي وقع بينهما رغم أن الفيلم ينقب في كل تفصيلة ويحشد الكثير من القصص الصغيرة.

ثانيا: هناك دور يفترض أن يكون أساسيا في الفيلم، لوسائل التواصل الاجتماعي التي تلعب دورا كبيرا في الكشف عن الاحتيال المفترض من جانب “البطل”، لكننا لا نلمح وجودا مباشرا لها من خلال الصورة.

ثالثا: تصبح هذه الدراما ثقيلة الوطأة، تثير الإحباط أكثر مما تحقق المتعة، نتيجة الاستطرادات التي لا نهاية لها، ثم بعد أن يتم استخدام حالة الطفل ابن رحيم، في التأثير (الميلودرامي) على جمهور التليفزيون ثم يعود رحيم فيما بعد لكي يعترض على هذا الاستخدام من جانب مأمور السجن الذي سجل شريطا للطفل وهو يحاول أن يتحدث (بصعوبة بالغة) عن صدق ونزاهة والده من أجل انقاذ سمعة السجن نفسه بعد أن روجوا لنزاهة رحيم قبل أن تلقي الشكوك بظلالها على سلوكه. وهو مشهد طويل يهبط كثيرا بالإيقاع العام.

ويعود هبوط الإيقاع والشعور بثقل وطأة الالتواءات المصنوعة صنعا من أجل ضمان تدفق القصة، إلى الاستناد بدرجة أساسية على الحوار في مشاهد طويلة تدور في معظمها داخل المكاتب والبيوت، وهو حوار لا يتوقف في جميع المشاهد بل يصل إلى الثرثرة، دون لحظة واحدة من التوقف والصمت، من أجل اتاحة مساحة للتأمل والتقاط الأنفاس. ويمكن للمتفرج هنا – بكل تأكيد- الاستغناء التام عن الصورة ومتابعة القصة من خلال الحوار فقط، وهو عيب قاتل أضر الفيلم كثيرا في رأيي.

في كثير من اللحظات كان المرء يشعر بأن ما يشاهده رغم واقعيته الشكلية من الخارج، إلا أنه يصعب تصديقه، فليس من المعقول أن يكون الجميع على هذا القدر من السذاجة، طالما أننا لا نفهم أيضا حاجتهم الماسة لصنع بطل أخلاقي شريف يتمسكون به.

نتيجة هذه السذاجة وبالتالي عدم الاقناع بسبب ثقوب الحبكة، ففي لحظات كثيرة يبدو الفيلم وكأنه يوجه تحية الى المشرفين على السجون الإيرانية، الذين يتعاملون بمنتهى الإنسانية والرفق مع السجناء، بغض النظر عن المعلومات العابرة التي تأتي في السياق مرة أو مرتين، أي انتحار سجين قبل فترة، من دون أن يتوقف الفيلم أمام هذا الحادث الذي لا يبدو أنه يشوش بأي درجة على وعي “رحيم”.

يجيد أصغر فرهادي كعادته، التعامل مع الممثلين وتوجيههم واستخلاص أقصى ما يمكنه منهم، كما يجيد اختيار مواقع التصوير والتصوير بكاميرا حرة في المواقع الطبيعية في الخارج، ويجيد الانتقال بين اللقطات في مشاهد الداخل، حتى في المشاهد التي تزدحم بوجود عدد كبير من الممثلين داخل الكادر الواحد، وهو ما يقتضي دقة تامة في اختيار زوايا التصوير وأحجام اللقطات، والمحافظة على الحالة النفسية والانفعالية للممثلين في علاقتهم بالمشهد. وكلها عناصر تميز عمل المخرجين الإيرانيين. ولكن هذه العناصر هنا موظفة لدفع الحياة في سياق مترهل مما قد يشعر المتفرج بعد مرور نصف ساعة، بأنه فقد اهتمامه بالفيلم، بسبب كثيرة الالتواءات والمنحنيات وتداخل الشخصيات وتكرار الفكرة الواحدة أيضا (موقف المقرض بهراني مثلا).

وقد يكون من حسنات الفيلم أننا نرى ربما للمرة الأولى في فيلم إيراني: أولا مشاجرة عنيفة حيث تحظر الرقابة عادة تصوير العنف، ثم إشارة واضحة (من خلال الحوار) إلى رغبة رحيم في “الاختلاء” بفرخنده، والأهم ظهور تلامس بالأيدي ثم احتضان بين “رحيم” وشقيقته بعد خروجه من السجن في البداية، أي بين ممثل وممثلة، مما يعد من المحظورات طبقا لقواعد الرقابة الإيرانية.

ربما أن ما يبقي على الفيلم طافيا على السطح، ذلك الأداء الممتاز من جانب طاقم الممثلين يتقدمهم بالطبع أمير جديدي في دور “رحيم” صاحب الوجه الطفولي الجذاب الذي يجعل المتفرج يتعاطف معه دون تحفظات. لكن هل يخفي هذا الوجه البريء ما لا نعرفه؟

من الممثلين الذين أجادوا كثيرا في أداء أدوارهم الممثل محسن طنابنده في دور “بهرام” الدائن الذي لا يتراجع قط عن شكوكه في رحيم، ولا يستجيب لأي نداء للمصالحة، بل ويصبح محل شك في كونه يقف وراء حملة التشكيك في نزاهة رحيم، ثم لا يتردد في إرسال شريط الفيديو الذي سجل لاعتداء رحيم عليه في دكانه بعد أن أدرك رحيم أنه وراء حملة تشويه سمعته وافساد القضية بأسرها.

Visited 25 times, 1 visit(s) today